تمرّد …” الأم”

تمرّد …” الأم”

   ماري ويلكنز فريمان

 قصة قصيرة من أمهات الأدب النسوي ـــ1890

   ترجمة: أفلين الأطرش   

” أيها الأب!”.

” ما الأمر؟”.

” من أجل ماذا يحفر هؤلاء الرجال هناك؟”.

  حدث تدلٍّ واتساعٌ مفاجئين في القسم السفلي من وجه الرجل، وكأن وزنا ثقيلا قد استقرّ هناك؛ أغلق فمه بإحكام، وتابع تسريج الفرس الخليجية الضخمة، رفع القَبّة على رقبتها بخشونة وبحركة غير متوازنة.

” أيها الأب!”.

 سوّى الرجل العجوز السرج على ظهر الفرس.

” أنظر إليّ، أيها الأب، أريد أن أعرف لماذا يحفر هؤلاء الرجال هناك، وسأعرف”.

” أتمنى أن تدخلي البيت، أيتها الأم، وتنتبهي إلى أمورك الخاصة”، قال الرجل العجوز فيما بعد، واصلا  معا كلماته متعذرة الفهم ، مجمجما مثل الهدير.

  لكن المرأة فهمت؛ إنها لهجتها المحلية في موطنها الأصلي.

” لن أدخل البيت قبل أن تخبرني لماذا يحفر هؤلاء الرجال هناك”، قالت.

   وقفت منتظرة بعد ذلك. كانت امرأة صغيرة الحجم، قصيرة وبدون خصر في ثوبها المنزلي البنّي. بدت جبهتها سمِحة وخيّرة ما بين خصلات شعرها الرمادي المتموّج؛ كما ظهرت خُطوط خُنوعة أسفلها حول الفم والأنف؛ لكن عينيها مثبتتان على الرجل العجوز. بدت وكأن خنوعها قد كان نتيجة لإرادتها الذاتية، وليس لإرادة أي  شخص آخر على الإطلاق.

  كانا في الحظيرة، ويقفان أمام الأبواب الواسعة المشرعة. لامس وجهيهما نسيم الربيع، المحمّل برائحة العشب النامي وتفتّح أزهار الأشجار المثمرة البعيدة غير المرئية. تكدّست الساحة الأمامية أمامهما  بعربات المزرعة، وبأكوام الأخشاب على الحواف بالقرب من السياج ومن البيت، كما بدا العشب بساطا مخمليّا أخضر، تتخلّله بعض أزهار الهندباء البرّية.

  حملق العجوز في وجه زوجته بعناد بينما كان يحكم الربطات الأخيرة من عدّة الفرس. بدت إليه دون حراك كواحدة من تلك الصخور في أرض مرعاه، مشدودة إلى الأرض بأجيال من جذور أشجار التوت الأسود. أرخى اللجام على الفرس، وتقدّم أماما خارجا من الحظيرة.

” أيها الأب!” قالت.

 سحب العجوز اللجام، توقّف وسألها: ” ما الأمر؟”.

” أريد أن أعرف لماذا يحفر هؤلاء الرجال في الحقل هناك”.

 ” أظن، أنهم يحفرون قبوا، إذا وجب عليك أن تعرفي”.

” قبوا؟ من أجل ماذا؟”.

” حظيرة”.

” حظيرة؟ أنت لن تبني حظيرة هناك في ذات المكان الذي كنا سنبني عليه بيتنا، أيها الأب؟”.

    لم يقل الرجل أية كلمة أخرى. حثّ الحصان إلى عربة المزرعة، وصلصل خارجا من الساحة، واثبا إلى مقعده بثبات لا تراجع فيه، تماما مثل صبي عنيد.

   وقفت المرأة للحظة تنظر خلفه، ثم خرجت من الحظيرة مجتازة زاوية من الساحة إلى البيت. كان البيت، المنتصب على زوايا قائمة مع الحظيرة الكبيرة  وصفٍ من السقائف الطولية والمباني الإضافية، صغيراً صغرا متناهيا إذا ما قورن بالبقية. كان بالكاد يفي باحتياجات البشر، تماما كما تفي الصناديق  تحت أفاريز سقائف  الحظيرة، باحتياجات طيور الحمام.

   كان يطلّ من إحدى نوافذ المنزل وجه فتاة جميل، متورّد وناعم كزهرة، يرقب الرجال الثلاثة الذين يحفرون في الحقل المتاخم للساحة على مقربة من خط الطريق. استدارت بهدوء حال دخول أمّها.

” لماذا يحفرون، يا أمي؟” سألت. ” هل أخبرك؟”.

” إنهم يحفرون  ــ  قبوا من  أجل حظيرة جديدة”.

” أوه، يا أمي، إنه لن يبني حظيرة أخرى؟”.

” هذا ما يقوله”.

  وقف صبي أمام زجاج نافذة المطبخ يسرّح شعره. سرّح ببطء وبمثابرة، وصفّف شعره في تلّة صغيرة فوق جبينه. لم يبدُ عليه أنه يولي أية أهمية لحديثهما.

” سامي، هل عرفت أن أبي كان سيبني حظيرة جديدة؟” سألته الفتاة.

 واظب الصبي على تسريح شعره.

” سامي!”.

 استدار، فأعلن عن وجه مثل وجه أبيه تحت تلّة شعره الناعمة. ” نعم أظنّ أنني عرفت”، قال، دامجا كلماته معا.

” منذ متى تعرف ذلك؟”  سالته والدته.

” أظن ،  منذ حوالي ثلاثة أشهر”.

” لماذا لم تعلن عن ذلك؟” سألته من جديد.

” اعتقدت أن ذلك لن يجدي”.

” لا أفهم لماذا يريد والدي حظيرة أخرى”، قالت الفتاة، بصوتها العذب البطيء. استدارت ثانية باتجاه النافذة، وحملقت بعيدا في الرجال الذين يحفرون في الحقل. طفح وجهها الجميل الحنون بأسى شفيف. كان جبينها أملسا وبريئا كجبين طفل، بشعرها الخفيف المشدود إلى الخلف في صفوف منتظمة من اللفائف الورقية. كانت ضخمة تماما، لكن انحناءات جسدها الدقيقة لم تكن تبدو وكأنها اكتست بعضلات.

 نظرت الأم إلى ابنها بصرامة، ” هل سيشتري مزيدا من الأبقار؟”.

 لم يُجب الصبي، كان مشغولا بربط أربطة حذائه.

” سامي، أريدك أن تخبرني في ما إذا سيشتري مزيدا من الأبقار!”.

” أظن ذلك”.

“كم؟”.

” أربع، على ما أظن”.

    لم تُضف أمه  شيئا آخر، اتجهت إلى حجرة المؤونة، حيث كان هناك تلّة من الصحون.

   التقط الصبي قبعته من على مسمار خلف الباب، وتناول كتاب حساب قديم من على الرف واتجه إلى المدرسة. كان قد ابتدأ بناء جسده يظهر بتمايز، لكنه لم يُصقل بعد. خرج إلى الساحة يهزّ ردفيه بشكل مثير، مما جعل سترته بيتية الصنع ترتفع لتغطي عجيزته.

  اتجهت الفتاة إلى حوض الجلي، وشرعت غسل الصحون المكدّسة هناك. جاءت أمها مباشرة من حجرة المؤونة، وأبعدتها جانبا. “أنت جفّفيها” قالت، ” انا سأغسلها. هناك الكثير منها هذا الصباح”.

  غمرت الأم يديها بنشاط وبقوّة في الماء، وجفّفت الفتاة الصحون ببطء وكأنها في حلم. ” أمي” قالت،” ألا تظنين أنه من السوء أن يبني والدي حظيرة جديدة في الوقت الذي نحتاج فيه إلى بيت محترم لنعيش فيه؟”

دعكت الأم  أحد الصحون بقسوة. ” أنت لم تكتشفي بعد أننا فقط مجرد معشر نساء ــ ناني بن”،  ردّت عليها، وأضافت: ” أنت لم تري كفايتك من معشر الرجال بعد، ستكتشفين  ذلك أحد الأيام، وسترين حينها أننا نعرف فقط ما يظنّ قوم الرجال أننا نعرفه، وسيكون ذلك بعد فوات الأوان، وكيف علينا أن نأخذ بالحسبان أن  ذاك القوم هو عناية إلهية، وألا نتذمّر مما يفعلون أكثر من تذمرنا  من الطقس”.

” لا أهتم، ولا أعتقد بأن ـ جورج ـ على تلك الشاكلة، على أية حال” قالت ناني، واكتسى وجهها الناعم بلون وردي، وارتعشت شفتاها بعذوبة وكأنها على وشك البكاء.

 ” انتظري، وسترين. أظن أن ـ جورج وايتسمان ـ ليس أفضل من غيره في ذلك الرعيل. يجب عليك ألاّ تحكمي على والدك. إن الأمر ليس بيده، لأنه لا يستطيع رؤية الأشياء كما نراها نحن. وعلى كلّ الأحوال، فنحن مرتاحون جدا هنا، السطح لا يرشح ـ لم يرشح أبدا سوى مرة واحدة ــ هذا شيء واحد، وقد كساه والدك بألواح خشبية فأصلحه”.

” أتمنى فعلا أن تكون لنا ردهة استقبال”.

” أظن أنه لن يضير جورج وايتسمان على الإطلاق أن يأتي ليراك ويجلس في مطبخ لطيف نظيف. أظن أن كثيرا من الفتيات لا يملكن مثل هذا المكان الجميل. لم يسمعني أي أحد على الإطلاق أتذمّر وأشتكي”.

” إنني لا أتذمر أنا أيضا، يا أمي”.

” حسن، لا أظن أنه يجب عليك ذلك، فلديك والد فاضل وبيت جيد. افترضي أن والدك قد أرسلك للعمل خارج البيت من أجل تأمين معيشتك؟ تقوم العديد من الفتيات بذلك وهنّ لسن أقوى وأفضل مقدرة منك”.

 غسلت ـ سارة بن ـ المقلاة بنفَس حاسم. دعكت خارجها بأمانة وبإخلاص كما داخلها. لقد كانت تتدبّر أمر منزلها بسيادة. غرفة جلوسها الوحيدة لم تبدُ في أي وقت مليئة بأي غبار قد توفره طبيعة الحياة هناك. كنَست، ولم تتجمع أية أوساخ أمام المكنسة، نظّفت، ولا يستطيع المرء أن يلحظ أي فرق. كانت مثل فنان ممتاز حيث ظاهره دون فن. أخرجت وعاء مزج ولوحا خشبيا، ودحرجت بعض العجين، ولم يكن قد علق بها طحين أكثر مما بعلق بابنتها التي تقوم بذلك العمل أفضل منها.

  كانت ابنتها  ناني على وشك الزواج في الخريف، ولذلك تخيط على قماش كتاني أبيض وتطرّز بعض المزخرفات. كانت تخيط بحرفية، بينما أمها تعدّ الطعام؛ بدت يداها البيضاوان كالحليب وكذلك رسغاها أشدّ بياضا من قطع تطريزها الناعم الدقيق.

” يجب أن ننقل المدفأة  إلى السقيفة خارجا في وقت قريب”، قالت السيدة بن، ” تتحدّثين عن افتقارنا للأشياء، إنها لنعمة حقيقية أن نستطيع نقل المدفأة إلى تلك السقيفة في الطقس الحار، لقد عمل والدك شيئا جيدا تماما حين ثبّت أنبوب المدفأة هناك في الخارج”.

   اكتسى وجه سارة بن ـ بذلك التعبير من القوة الخانعة التي من المؤكد أنها طبعت أحد قديسي العهد الجديد.  كانت تقوم بعمل فطائر محشوة بمزيج مفروم. فزوجها ـ أدونيرام بن ـ يحبها أكثر من أي نوع آخر؛ اعتادت خبزها مرتين أسبوعيا ، فلطالما أحب أدونيرام تناول قطعة بين وجباته. أسرعت الإعداد هذا الصباح، فقد ابتدأت متأخرة على غير عادتها، وتودّ إنجازها من أجل الغداء. كم هو  حجم  ذلك الامتعاض العميق الذي أُجبرت عليه كي تقف في جهة مضادة لزوجها،  وألاّ تسقط في إفشال الامتثال المثابر لرغباته!.

  يُظهر نُبل الطبع نفسه خلال ثقوب الطُرق المعوّجة حين لا يُسمح له بذلك  خلال الأبواب المشرعة. أظهرت سارة بن نفسها اليوم في ما قدمته من الرقائق المخبوزة. إذن فقد عملت الفطائر بأمانة بالغة، في الوقت الذي كانت ترى فيه عبر الطاولة، إذا ما حملقت خارجا إبان انشغالها بالعمل، ذاك المنظر الذي ألهب روحها الصابرة والمتأهبة ـ عملية حفر القبو لتلك الحظيرة الجديدة في ذات المكان الذي وعدها فيه  زوجها، قبل أربعين سنة، بأن بيتهما سيكون هناك.

   إذن، فقد أُعدِّت الفطائر لوجبة الغداء. حضر أدونيرام وسامي إلى البيت بعد الساعة الثانية عشرة بدقائق قليلة. تناولوا  وجبتهم بسرعة لا تخلو من الجديّة. لم يكن هناك حديث في العادة أثناء تناول الطعام على مائدة عائلة بن ـ طلب أدونيرام البركة، وأكلوا بتتابع ثم نهضوا بعد ذلك واتجهوا إلى أعمالهم.

   قفلَ سامي عائدا إلى مدرسته، قافزا قفزات خفيفة متسلِّلة مبتعدا عن الساحة مثل أرنب. أراد أن يلعب لعبة ( البلورات الزجاجية) قبل المدرسة، وكان متخوفا من أن والده سيسند إليه بعض الأعمال ليقوم بها. أسرع والده إلى الباب وناداه، لكنه كان قد اختفى عن ناظريه.

” لا أدري لماذا تركته يذهب، أيتها الأم”، قال. ” أردته أن يساعدني في إنزال حمولة الخشب تلك”.

   اتجه الأب إلى الساحة الخارجية لإنزال حمولة الخشب من العربة. جمعت سارة صحون الغداء من على الطاولة، في حين أزالت ناني  اللفائف الورقية من شعرها واستبدلت ثوبها. كانت في طريقها إلى المتجر لشراء مزيد من المزخرفات وما يلزمها من خيوط.

حين غادرت ناني المنزل، اتجهت الأم إلى الباب. “أيها الأب”، نادته.

” حسن ، ما الأمر؟”.

” أريد أن أراك لدقيقة فقط، أيها الأب”.

” لا أقدر ترك هذه الأخشاب بأي شكل. يجب علي إفراغها ثمّ اتجه لتحميل حمولة حصى قبل الساعة الثانية. وجب على سامي أن يساعدني، ووجب عليكِ ألا تدعيه يذهب باكرا إلى المدرسة”.

“أريد أن أراك لدقيقة فقط”.

” أقول لك بأنني لا أقدر بأي شكل، أيتها الأم”.

” أيها الأب، تعال هنا”. وقفت سارة بن كملكة أمام الباب، رفعت رأسها وكأنه يحمل تاجا؛ إنه ذلك الصبر في نبرات صوتها الذي يجعل سلطتها ملكيّة. اتجه إليها أدونيرام.

  قادت السيدة بن الطريق إلى المطبخ وأشارت إلى كرسي. “اجلس أيها الأب”، قالت، ” لديّ ما أودّ قوله لك”.

  جلس على الكرسي بتثاقل، كان وجهه متبلّد الحسّ تماما، لكنه نظر إليها بعينين حرِنتين . “حسنا، ما الأمر، أيتها الأم؟”.

” أريد أن أعرف من أجل ماذا تبني ذلك المخزن الجديد، أيها الأب؟”.

” ليس لدي ما أقوله بخصوص ذلك”.

” إنه ليس لأنك تظنّ أنك بحاجة إلى مخزن آخر؟”.

” أقول لك بأنه ليس لدي ما أقوله بهذا  الخصوص، أيتها الأم؛ ولن أقول شيئا”.

” ألأنك تريد شراء مزيد من الأبقار؟”.

لم يجبها، وأحكم إغلاق فمه.

” أعرف أنك تريد، مثلما أريد أنا ذلك. والآن، أيها الأب، انظر إلي” ــ لم تجلس ، وقفت أمام زوجها في هيئة متواضعة لامرأة من الكتاب المقدس ــ ” سأكلمك بصراحة حقيقية، لم أفعل ذلك منذ تزوجتك، ولكنني سأفعل الآن. لم أتذمّر مطلقا، ولن أتذمّر الآن، لكنني سأتكلم بصراحة. أنت ترى هذه الغرفة هنا، أيها الأب؛ انظر إليها جيدا. أنت ترى أنها دون سجادة تغطي أرضيتها، وترى أن ورق جدرانها وسخ جدا وقد بدأ التساقط . لم يُجدّد ورق جدرانها منذ عشر سنوات، كما أنني ألصقته بنفسي، وإنه لم يكلف سوى تسع بنسات للفة الواحدة. أنت ترى هذه الغرفة، أيها الأب؛ إنها كلّ ما لدي لأعمل فيها  وآكل وأجلس منذ تزوجنا. ليس هناك امرأة واحدة في كل البلدة يمتلك زوجها نصف ما عندك من أسباب عيش، لكن أية واحدة منهن هي في وضع أفضل. إنها الغرفة الوحيدة التي تستقبل فيها ناني خطيبها، وليس هناك من رفيقاتها من لم تحصل على ما هو أفضل منها، وإن آباءهن ليسوا بمثل مقدرة  أبيها. إنها كل ما نملك لتتزوج فيها. ماذا كنت ستظن، أيها الأب، فيما لو تزوجنا في غرفة ليست أفضل من هذه؟ تزوجتُ في ردهة الاستقبال لدى أمي، بسجادة على الأرض، وأثاث هو ملكها الشخصي، وطاولة لعب ورق من خشب المهاجوني. وهذه هي الغرفة الوحيدة التي ستتزوج فيها ابنتي. انظر هنا، أيها الأب!”.

 قطعت سارة بن الغرفة وكأنها على مسرح تراجيدي. اندفعت بقوة لتفتح بابا، فأفسح عن غرفة نوم صغيرة جدا، فقط فيها متسع كاف لسرير ودولاب، بممر ضيّق يفصلهما. ” إليك، أيها الأب”، قالت ــ “إليك هذه هي الغرفة كلها التي وجب عليّ النوم فيها مدة أربعين عاما، أنجبت كلّ أولادي فيها ــ الاثنان اللذان ماتا، والاثنان اللذان يحيا. أصابتني الحمّى هناك”. خطت إلى باب آخر وفتحته. قادها إلى غرفة مؤونة صغيرة شحيحة الضوء. ” هنا” قالت، ” كلّ ما لدي لحفظ المؤونة ـ كلّ ما لدي من أجل الأوعية لأضع المؤن فيها، وأحتفظ بأوعية الحليب فيها . أيها الأب، لقد اعتنيت بحليب ست بقرات في هذا المكان، وأنت تريد الآن أن تبني مخزنا جديدا، وتربي مزيدا من الأبقار، فتلقي لي بمزيد من العمل لأقوم به فيها”.

  دفعت بابا آخر ففتحته. بان منه درجات علوية ضيقة معوجة. ” إليك، أيها الأب”، قالت،  “أريدك أن تنظر إلى ذاك السلم المؤدي إلى غرفتيْ نومهما غير المكتملتين، اللتين على ابننا وابنتنا النوم فيهما مدى حياتيهما. ليس هناك من هي أجمل من ناني ولا من لديها مظهر السيدة مثلها، وهذا هو المكان الذي عليها النوم فيه. إنه ليس أفضل من مربط حصانك، ليس دافئا، بل إنه في الحقيقة أضيق مساحة منه”.

 رجعت سارة بن ووقفت أمام زوجها. “الآن، أيها الأب، أريد أن أعرف في ما إذا كنت تقوم بالعمل الصحيح على ضوء ما تقرّ به. إليك هذا الآن، حين تزوجنا منذ أربعين سنة، وعدتني بإخلاص أنه سيكون لنا بيت مبني في تلك البقعة بالذات من الحقل قبل انتهاء السنة ذاتها. قلت بأن لديك المال الكافي، وبأنك لن تطلب مني العيش في مكان  كهذا. إنها أربعون سنة الآن، وأنت تدخر المزيد من النقود، وقد كنت أنا نفسي أساعدك في ادخارها دوما، وأنت لم تبتنِ البيت بعد. لقد بنيت سقائف وحظائر أبقار ومخزنا جديدا، والآن تريد أن تبني مخزنا آخر. أيها الأب، أريد أن أعرف في ما إذا كنت تفكر بأن ذلك الفعل هو الفعل الصحيح. أنت تأوي بهائمك الخرقاء أفضل مما تؤوي دمك ولحمك. أريد أن أعرف فيما إذا كنت تظن بأن هذا صحيحا”.

 ” ليس لدي ما أقوله”.

 ” لن تستطيع قول شيء دون أن تملكه، أليس صحيحا أيها الأب! هناك شيء آخر ـ أنا لم أتذمّر؛ لقد ماشيتك أربعون سنة، وأعتقد أن باستطاعتي ذلك أربعون سنة أحرى، فإذا لم يكن من أجل هذا كله ـــ إذا لم يكن لدينا بيت آخر فلن تستطيع ناني العيش معنا بعد زواجها. عليها الانتقال إلى أي مكان آخر لتعيش بعيدا عنا، ولا يبدو أنني أقدر على ذلك، من المستحيلات أيها الأب. لم تكن هي قوية أبدا، لقد اكتسبت لون بشرة مقبولا، لكن لم يكن لها بناء عظمي قوي على الإطلاق. لقد أخذتُ دوما ثقل الأشياء عنها، وهي ليست بتلك الكفاءة لتدير منزلا وتقوم بعمل كل شيء بنفسها ــ ستذوي وسينطبق خارجها على داخلها خلال سنة. فكّر بها إذ تقوم بكل الغسيل والكيّ والخبز بهاتين اليدين الغضّتين شديدتي البياض، وبتينك الذراعين تقوم أيضا بالكنس! لا أقدر على مثل هذا الأمر، من المستحيلات، أيها الأب”.

  كان وجه السيد بن يشتعل بالغضب، أما هي فقد توهجّت عيناها الذابلتان. لقد عرضت سبب ألمها الصغير ببلاغة مثل “وبستر”؛ لقد انتقلت من  إبداء  الصرامة إلى إثارة الشفقة، لكن خصمها استخدم ذاك الصمت المطبق الذي يجعل الحديث غير مجدٍ، وبأصداء ساخرة. نهض أدونيرام برعونة.

 ” أيها الأب، أليس لديك ما تقوله؟” قالت السيدة بن.

 ” عليّ الاعتناء بحمولة الحصى تلك. لا أستطيع الوقوف هنا أتحدث طوال النهار”.

” أيها الأب، ألا تظن أن ذلك قد انتهى، وأن عليك ابتناء بيتنا هناك بدلا من مخزن جديد؟”.

” ليس لدي ما أقوله”.

  تركها  وخرج. اتجهت إلى غرفة نومها. وعندما عادت، كانت عيناها حمراوين. أحضرت لفة قماش قطني غير مبيّضة. فردتها على طاولة المطبخ، وبدأت قصّ قمصان جديدة لزوجها. انضمّ فريق مساعدة للرجال الذين يحفرون الحقل عصر ذاك اليوم؛ كان باستطاعتها سماع هتافاتهم التشجيعية. لديها قطعة هزيلة للقمصان، لذا عليها أن تخطط  جيدا لتفصيل الأكمام.

  رجعت ناني  من المتجر إلى البيت بمزخرفاتها،  فجلست تتابع أشغال إبرتها.  كانت قد أزالت اللفائف الورقية من شعرها قبل ذهابها، فظهرت خصلة من الشعر الأشقر  ناعمة وملفوفة مثل هالة فوق جبينها؛ كان وجهها ناعما وصافيا تماما مثل البورسلين. فجأة رفعت نظرها، وحمرة الخجل قد وهّجت كلّ وجهها وعنقها. ” أمي”، قالت.

 ” ماذا، قولي؟”.

 ” كنت أفكر ــ إنني لا أفهم كيف سيكون لدينا  أي حفل زفاف  ــ  في هذه الغرفة. سأكون خجلة إذا لم يكن هناك متسع لأقاربه، هذا إذا لم يكن لدينا أي أحد غيرهم”.

” ربما نستطيع تدبير ورق جدران جديد قبل ذلك الحين، أستطيع إلصاقه. أظن أنه لن يكون هناك داع لأن تخجلي مما تنتمين إليه”.

” يجب أن يتم حفل الزفاف في المخزن الجديد” ، قالت ناني بنكد خفيف. ” ماذا يا أمي، ما الذي يجعلك تبدين كذلك ؟”.

  كانت السيدة بن قد ابتدأت التحديق  فيها بتعابير وجه مثيرة. عادت إلى عملها، وفردت بعناية نماذج تفصيلات القميص فوق القماش.  ردّت عليها: “لا شيء”.

   في ذلك الوقت تبختر السيد بن في الساحة بعربة نفاياته ذات العجلات، واقفا أمامها بافتخار كسائق عربة روماني. فتحت السيدة بن الباب ووقفت هناك لدقيقة تنظر خارجا مع تعاظم أصوات هتافات الرجال.

  بدا الأمر لها وكأنها خلال أشهر الربيع لم تسمع هتافات التشجيع  وضجيج المناشير والمطارق. تنامى المخزن الجديد بسرعة. كان صرحا جميلا لمثل هذه البلدة الصغيرة. أتى الرجال أيام الآحاد الجميلة ببذلهم الرسمية التي يوفرونها للمناسبات الاجتماعية، وقمصان صدورهم النظيفة، ووقفوا حوله مبدين إعجابهم. لم تتحدث السيدة بن عن ذلك، ولم يذكر لها زوجها ذلك،  مع أنه أحيانا، بعد العودة من تفحصّه، كان يبدو وكأنه يحمل  في نفسه كبرياء مثلومة.

” إنه من الغريب كيف تشعر والدتك إزاء المخزن الجديد”، قال  لسامي بثقة، ذات يوم.

  نخر سامي من أنفه فقط بشكل غير لائق لصبي؛ لقد تعلم ذلك من والده.

   قد أُتمّ المخزن بشكل جاهز للاستعمال في الأسبوع الثالث من شهر تموز. خطط أدونيرام نقل ما يُعنى به يوم الأربعاء؛ وفي يوم الثلاثاء تسلّم رسالة غيّرت ما خطط له. دخل البيت حاملا إياها في الصباح الباكر.  “كان سامي في مكتب البريد” قال، ” وتسلمتُ رسالة من هيرام”. كان هذا أخ زوجته الذي يعيش في فيرمونت.

  ” حسن” ، قالت السيدة بن ، ” ماذا يقول عن الأهل والأقارب هناك”.

 ” أظن أنهم كلهم بخير. يقول بأنه يعتقد أنني إذا غادرت الآن مباشرة، ستكون هناك فرصة لأشتري تماما نوع الحصان الذي أريد”. حدّق بانعكاس مباشر من النافذة باتجاه المخزن الجديد.

  كانت السيدة بن تصنع الفطائر. تابعت رقّ العجين بأداة الرق، بالرغم من شحوب وجهها وخفقان قلبها بصوت عال.

” لا أعرف إذا كان من الأفضل أن أذهب الآن”، قال أدونيرام. “أكره الذهاب الآن ، تماما في منتصف الموسم. لكن العشرة فدانات مساحة كبيرة للحصاد، وأظن أن روفاس والآخرين قادرون على تدبر الأمر بدوني لثلاثة أو أربعة أيام. لا أستطيع الحصول على حصان يناسبني هنا، وعلي أن أمتلك واحدا آخر من أجل نقل الأخشاب في الخريف. أخبرتِ هيرام أن يراقب، وإذا ما توقع على حصان جيد أن يخبرني. أظن أنه من الأفضل أن أذهب”.

 قالت بهدوء” سأخرج قميصك، وقبّتك النظيفة من الخزانة”.

  وضعت بذلته التي يلبسها أيام الآحاد وملابسه النظيفة على السرير في غرفة النوم الصغيرة. جهزت ماء حلاقته وموساه كذلك. أخيرا زرّرت له قبّته وشدّت ربطة عنقه السوداء.

 لم يضع أدونيرام قبتّه وربطة عنقه أبدا سوى في المناسبات غير الاعتيادية. شمخ رأسه عاليا، بوقار مزعج. عندما كان مستعدا تماما، بعد أن نُظِّف معطفه وقبعته بالفرشاة، حصل على غداء من فطيرة وجبن في كيس ورقي، تمهّل على عتبة الباب. نظر إلى زوجته، فكان سلوكه ذاك بالتأكيد ينمّ عن الاعتذار. ” إذا ما أتت البقرات اليوم، فإن سامي يستطيع إدخالهن إلى المخزن الجديد”، قال؛ ” وعندما يحضرون القش، يستطيعون تصفيفه هناك”.

 ” حسنا”، أجابت زوجته.

  أمدّ زوجها وجهه الحليق إلى الأمام وابتدأ رحلته. عندما اجتاز عتبة باب البيت، استدار ونظر خلفه بنوع من الرزانة العصبية. قال: “سأعود يوم السبت إذا لم يحدث شيء”.

 ردّت زوجته: ” كن حذرا، أيها الأب”.

  وقفت في الباب ومعها ناني متكئة على مرفقها وراقبتاه يختفي عن ناظريهما، نمّت عيناها عن تعبير غريب، شاكّ، وتقطّب جبينها المسالم. اتجهت إلى الداخل، وتابعت الخبز ثانية. جلست ناني تطرّز، كان يوم زفافها يقترب، وكانت تزداد شحوبا ونحولا مع تطريزها المثابر. تابعت أمها التحديق بها. فسألتها: “هل شعرت بذاك الألم في جانبك هذا الصباح؟”. ” قليلا” أجابتها.

   تغيّر وجه  السيدة بن، بينما كانت تعمل، انبسط جبينها المندّى بالعرق، ثبّتت عينيها، وزمّت شفتيها. شكّلت قناعة قصوى لنفسها، رغم تنافرها مع أفكارها غير المرسومة بحروف.” الفرص غير المُستَجدية هي خطوط أعمدة دلائل من الرب لطُرق الحياة الجديدة”، أعادت بصوت مؤثّر، وعزمت أمرها لتنفيذ خطة عمل رسمتها.  ” على فرض أنني كتبت لهيرام “. غمغمت وهي في غرفة المؤونة ــ” على فرض أنني كتبت، وسألته فيما إذا عرف عن حصان؟ ولكنني لم أفعل. ووالدك يذهب ولا يقيم وزنا لما أفعل أنا. يبدو أنها عناية إلهية”. رنّ صوتها عاليا جدا حين قالت جملتها الأخيرة.

 ” عن أي شيء تتحدثين يا أمي؟”. نادتها ناني.

 ” لا شيء”.

  أسرعت السيدة بن في الخبز، وفي الحادية عشرة كانت قد انتهت منه تماما. أتت حمولة القش من الحقل الغربي بطيئا على الطريق المحزّز بعجلات العربة لتكرار ذهابها وإيابها، واتجهت إلى المخزن الجديد. ركضت خارجا. ” توقّفوا !”، صرخت فزعة، ” توقّفوا!”.

   توقّف الرجال ونظروا، وظهر سامي من بين جمّة حمولة القش، وحدّق في والدته . ” توقفوا!” صرخت من جديد. “لا تضعوا القش في ذلك المخزن، ضعوه في المخزن القديم”.

“لماذا؟ قال بأن نضعه هنا”، ردّ أحد القشّاشين متعجّبا. كان شابا صغيرا، ابن أحد  مجاوريهم، استأجره أدونيرام مطلع السنة ليساعده في المزرعة.

” إياكم أن تضعوا القش في المخزن الجديد، هناك متسع كاف في المخزن القديم، أليس كذلك؟” أعادت  صارخة.

 ” متسع كاف”، رد الشاب الأجير بنغمات صوته الغليظة الساذجة. ” لا نحتاج إلى المخزن الجديد، مستحيل، لكن، لطالما أهمّه الاتساع. حسنا، أظن أنه قد غيّر رأيه”. وأمسك برسن الحصان.

  عادت السيدة بن إلى داخل البيت، وحالا أعتمت نوافذ المطبخ، وفاح في المكان عبيرُ كأنه أريج عسل دافئ. وضعت ناني تطريزها جانبا. ” ظننت أن والدي أرادهم أن يضعوا القش في المخزن الجديد؟” قالت بتعجّب. ” حسنا” ، أجابت أمها.

انزلق سامي من فوق حمولة القش، ودخل إلى المطبخ ليرى في ما  إذا كان الغداء جاهزا.

” لن تكون هناك وجبة غداء منتظمة اليوم، طالما قد ذهب والدك”، قالت أمه. ” لقد أطفأت النار. باستطاعتك تناول بعض الخبز والحليب وفطيرة. أظن أن باستطاعتنا البدء”. وضعت على طاولة المطبخ بعض الصحون العميقة مملوءة بالحليب، بعض الخبز وفطيرة . “من الأفضل  تناول غداءكما الآن”، قالت لهما. ” ويجب أن تُنهيا  ذلك أيضا. أريدكما أن تساعدانني فيما بعد”.

 حدّق كل من سامي وناني في بعضيهما. كان هناك  شيء غريب في تصرف أمهما. لم تتناول أي شيء من الطعام. دخلت غرفة المؤونة، وسمعاها تحرك الصحون فيما كانا يتناولان طعاميهما. أحضرت سلة الملابس من السقيفة، ورصّت الصحون داخلها. راقبها سامي وناني. أخرجت الفناجين وصحونها ووضعتها جميعا مع الصحون.

  ” ماذا ستفعلين، يا أمي؟” استفسرت ناني بصوت لطيف. شعور بحدوث شيء غير عادي جعلها ترتجف، وكأنها ترى شبحا. نقّل  سامي نظره فوق فطيرته من أعلاها  إلى أسفلها.

 ” سترون ما سأفعله”. أجابت. ” إذا ما انتهيت يا ناني أريدك أن تصعدي إلى الطابق العلوي وتحزمي أشياءك، وأريدك أنت يا سامي أن تساعدني في إنزال سرير غرفة النوم”.

” أوه، يا أمي، ولماذا؟” غمغمت ناني من بين شفتيها.

” سترين”.

  خلال الساعات القليلة التي تلت، كان عمل فذّ  تنجزه هذه الأم البسيطة الورعة من نيو انغلند والذي كان متساويا  في الفعل مع اقتحام ” وولف” مرتفعات أبراهام. لم تكن لوولف عبقرية وجرأة وسرعة بديهة أكثر، لأن يُبهج جنوده المنتشرين على تلك المنحدرات الوعرة، تحت أعين  الأعداء الغافلة، مما كان لسارة بن على رأس ابنيها، وهما ينقلان كل محتويات بيتهم القليلة إلى المخزن الجديد، في الوقت الذي كان فيه زوجها بعيدا عنه.

 اتّبع سامي وناني تعليمات أمهما دون أية همهمة، بالفعل، لقد كانا مسيّرين.  هناك سجيّة أمهما المؤكدة التي تأخذ ببراعة  وبقوة بشرية خارقة تلك التعهدات، بنقاء وبأصالة كما لن تفعل أية امرأة سواها. تنقلت ناني بحملها الخفيف ما بين المكانين، وكدح سامي بطاقة عنيدة.

   في الساعة الخامسة من عصر ذاك النهار أفرغ البيت الصغير نفسه في المخزن الجديد، ذلك البيت الذي عاشت فيه عائلة بن مدة أربعين سنة. كلّ منا يبني شيئا ما لأهداف غير معروفة،  هو متنبئ بمقياس آخر. فمهندس أدونيرام المعماري، حين كان يصمم المخزن من أجل راحة حيوانات تدبّ على أربع، قد خطط له أفضل مما يعرف، ولو أراد ذلك، لراحة البشر. لحظت سارة بن إمكانياته بلحظة خاطفة. صناديق الاسطبلات هذه المغطاة بأغطية أمامية، ستفي بغرض غرف نوم أفضل بكثير عمّا كانت تحتله لأربعين سنة، كما هنالك أيضا غرفة عربة شحيحة المساحة إضافية. غرفة عدّة سرج الأحصنة بمدخنتها وبرفوفها، ستكون تجسيدا لمطبخ أحلامها. المساحة الواسعة في المنتصف ستكون الردهة، وعما قريب، سيكون البناء مناسبا لأن يبدو قصرا. في الطابق العلوي هناك متسع مساو لما عليه في الأسفل. بقواطع وبنوافذ، أيّ منزل سيكون ذلك! تطلعت سارة إلى صفّ الدعامات العمودية أمام المساحة المخصصة للأبقار، وعرفت أن مدخل بيتها سيكون هناك.

 في الساعة السادسة كانت المدفأة قد نُصبت في غرفة العدّة، وإبريق الغلي يعلن عن  جهوزية الماء، والطاولة أُعدّت من أجل تناول الشاي. بدا الأمر وكأنه يكاد يوحي بأنه كما كان عليه في المنزل المتباعد في حال اجتياز الساحة. ساق الشاب الأجير البقرات، ووجهته سارة بهدوء بأن يحضر الحليب إلى المخزن الجديد. أتى متفاوت السرعة، فسقطت لطخات قليلة من الرغوة على العشب من تلك الدلاء المملوءة للحافة.

قبل صباح اليوم التالي كانت قد انتشرت قصة انتقال زوجة أدونيرام بن إلى المخزن الجديد في كلّ أنحاء البلدة. اجتمع الرجال في المتجر وجالوا في الأمر، اندفعت النساء بالشالات تغطي رؤوسهن في بيوت بعضهن البعض قبل أن ينهين أعمالهن. أيّ تحوّل في النمط العادي لهذه البلدة الهادئة كان كافيا بأن يوقف كلّ مظاهر الاستمرارية فيها.  توقّف لبرهة كلّ واحد لينظر إلى المبنى الرزين المستقل هناك، على الطريق الجانبي. كان هناك اختلاف في الآراء حول المرأة مع كامل التقدير لها. تناولها البعض كمخبولة، والبعض الآخر كروح متمردة ثائرة لا تخضع  لأي قانون.

  يوم الجمعة، ذهب القس لرؤيتها. كان ذلك قبل الظهر، وكانت هي على باب البناء تفرط البازيلاء لتعدها طعاما للغداء. رفعت نظرها وردّت على تحيّته بوقار، ثم تابعت عملها. لم تدعُه للدخول. تعبير الطهر على وجهها بقي ثابتا كما هو، لكنه اكتسى بغضب متدافع. وقف القس أمامها، بغير براعة، وتحدّث . كانت تمسك بحبات البازيلاء وتلقي بها في الوعاء، وكأنها رصاصات. أخيرا رفعت نظرها إليه، وأشاعت عيناها الروح التي اكتست بها جبهتها الخانعة طيلة حياتها.

” لا فائدة من الحديث، مستر هيرسي”، قالت.” لقد فكرت في الأمر وقلّبته على كافة الوجوه مرارا، وأعتقد أنني أفعل الصواب. لقد جعلت من ذلك موضوعا لصلاتي، وإن ذلك ليرضيني ويرضي الله ويرضي أدونيرام أيضا، ليس هناك علاقة لأي أحد أن يقلق من أجل ذلك”.

  ”  حسن ، طبعا يا سيدة بن ، إذا ما سألت اللّه في ذلك وجعلته موضوعا لصلاتك، وأنت تشعرين بالرضى، إذا إنك تفعلين الصواب”، قال القس، وقد أُسقط في يده. كان وجهه النحيل ذو اللحية الرمادية مثيرا للشفقة. كان رجلا عليلا ، فترت همّته الشابة المتحمسة، لكن كان عليه أن يعذّب نفسه ببعض واجباته الرعوية تماما مثل كاهن كاثوليكي، وبعدها يخرّ ساجدا أمام من هو أّكثر ذكاء.

  ” أعتقد بان ذلك صحيح تماما كما أعتقد بأنه كان لأجدادنا الحق في أن يأتوا هنا من موطنهم الأصلي، إذ إنهم لم يحصلوا على ما يملكونه”، قالت ونهضت. وجب أن تكون عتبة المخزن “صخرة بلايموث” حتى تتحمّلها. ” لا أشك في نواياك الحسنة ، مستر هيرسي”، قالت،” لكن هناك أشياء يجب على الآخرين عدم التدخّل بها. لقد كنت عضوا في الكنيسة لأكثر من أربعين سنة. لديّ عقلي الخاص بي وكذلك قدميّ، ولذلك سأفكر تفكيرا خاصا وأسلك طريقا خاصا بي، ولا أحد سوى الله سيُملي عليّ، إلاّ إذا فكرت بأن أسأله. ألن تدخل وتستريح؟ كيف حال السيدة هيرسي؟”

 ” إنها بخير، شكرا لك”، أجاب القس. أضاف مزيدا من جمل الاعتذار المنمّقة، ثم عاد أدراجه.

   كان يستطيع تطويق التعقيدات في كلّ فصل دراسي من الكتاب المقدس، كان مؤهلا ملمّا بأسماء الحجاج إلى الديار والمهاجرين الآباء، وكلّ الرواد التاريخيين، لكن سارة بن تفوقت عليه. كان باستطاعته التعامل مع الحالات الابتدائية البسيطة، لكن المعقدة منها كانت تظهر ضعف حجته. لكن، علاوة على ذلك، بالرغم من بعدها عن قناعته، تعجب أكثر كيف يمكن لزوجها التصرّف معها أكثر مما قد يستطيع الله. كلّ واحد قاسمه هذا التعجب.

  عندما وصلت بقرات أدونيرام الأربع الجديدة، أمرت سارة بن بأن توضع ثلاثا منها في المخزن القديم، والأخرى في سقيفة المنزل حيث كانت تنتصب مدفأة المطبخ سابقا. هذا بالتأكيد قد أضيف للإثارة والدهشة في البلدة. وقد هُمس بأن كل البقرات الأربع  الجديدة قد حُشرت في المنزل القديم.

    قرب المغيب من يوم السبت، حيث كان توقّع عودة أدونيرام للبيت، كانت هناك حلقة من الرجال في الطريق قرب الممر الجديد. لقد حلب الرجل الأجير البقرات، لكنه بقي معلقا حول المبنى والأراضي التابعة له. أتمت سارة بن إعداد العشاء، خبزا محمصا وفاصولياء محمرة وفطيرة كسترد، كان ذاك العشاء الذي يحب زوجها تناوله ليلة السبت. ارتدت فستانا لطيفا من قماش قطني منقط، وحمّلت نفسها برباطة جأش. بقي سامي وناني يدوران في كعابها. كانت عيونهما متسعة، وكانت ناني معبأة برجفة انفعالية. فبالنسبة إليهما لا يزال هناك مزيد من الإثارة، أكثر بكثير من كل ما سبق. فقد أنبتت نفسها ثقة وليدة داخل أمهما تتفوّق على ما في داخل أبيهما.

   نظر سامي إلى الخارج خلال نافذة غرفة العدّة.  ” ها هو”، أعلن في همسة مُروَّعة. بصبص هو وناني من حوالي الإطار الخشبي للنافذة. تابعت أمهما عملها، راقب الاثنان والدهما يترك الحصان الجديد واقفا في الممر، فيما هو اتجه إلى باب المنزل. كان قد سُدّ بإحكام. استدار إلى السقيفة. نادرا ما أغلق ذلك الباب ، حتى عندما كانت العائلة جميعها خارج المنزل. داهمت ناني فكرة كيفية تفاجئ والدها بوجود البقرة هناك. أمسك بحنجرتها نشيج هستيري. انتقل الأب من السقيفة ووقف ينظر حواليه بنظرات زائغة. تحركت شفتاه، كان يقول شيئا ما، لكنهم لم يسمعوا ما كان يقول. كان الرجل الأجير يبصبص حواليه من زاوية المخزن القديم، لكن لم يره أحد.

   أخذ أدونيرام الحصان الجديد من رسنه، وقاده خلال الساحة باتجاه المخزن الجديد. التصق سامي وناني بأمهما أكثر. فُتحت أبواب المخزن إلى الخلف، وهناك وقف أدونيرام، بوجه الحصان الجميل، “لندي” الأصل وسليل المزارع، يطلّ من أعلى كتفيه.

 بقيت ناني خلف أمها، لكن سامي خطا فجأة إلى الأمام ووقف أمامهما. حملق أدونيرام في الجمع، “بحقّ كلّ شيء على الأرض، ما الذي جاء بكم جميعا هنا؟” قال.  “ماذا أحلّ بالبيت؟”

  ” أتينا هنا لنعيش، يا أبي”، قال سامي. انطلق صوته الحاد بجرأة من حنجرته.

  “ماذا”  وعطس أدونيرام ـ “ماذا كأنها رائحة طبخ؟”. خطا إلى الأمام ونظر من الباب المفتوح في غرفة العدة، ثم استدار باتجاه زوجته. شحب وارتعب وجهه المغطى بالشعر القاسي الخشن  من نمو لحيته غير الحليقة. ” بحقّ كل شيء على الأرض، ما معنى هذا، أيتها الأم؟”

“ادخل هنا، أيها الأب”، قالت سارة. سارت أمامه ودخلت غرفة العدة وأغلقت الباب. ” الآن، أيها الأب، لا حاجة بك للخوف. أنا لست مجنونة. ليس هناك أي شيء تتكدّر من أجله. لكننا أتينا هنا لنسكن، وسنسكن هنا. لنا الحق تماما هنا مثلما هو للأحصنة والأبقار. لم يعد المنزل مناسبا لنا، وصممت بألا أبقى هناك. لقد قمت بواجبي تجاهك لأربعين سنة، وسأقوم به الآن؛ لكنني سأسكن هنا. عليك أن تضع بعض النوافذ والقواطع، كما عليك شراء بعض الأثاث.”

  ” لماذا، أيتها الأم!” مغمغ الأب من بين شفتيه.

 ” من الأفضل أن تخلع معطفك وتغتسل ــ هناك حوض المغسلة ــ ثم سنتناول عشاءنا”.

  ” لماذا، أيتها الأم!”.

   مرّ سامي بالنافذة يقود الحصان الجديد إلى المخزن القديم. رآه الأب فهزّ رأسه دون كلام. حاول خلع معطفه، لكن نقص قوة في ذراعيه خانه. ساعدته زوجته. صبّت قليلا من الماء في حوض المغسلة القصديري، ووضعت قطعة صابون. أحضرت المشط والفرشاة، وسوّت شعره الرمادي الخفيف بعد أن غسله. بعد ذلك وضعت الفاصولياء، الخبز الساخن والشاي على الطاولة. دخل سامي، واقتربت العائلة من المائدة. كان الأب ينظر بزوغان بصر إلى صحنه، وهم جميعا كانوا ينتظرونه.

  ” ألا تريد أن تطلب البركة، أيها الأب؟” قالت سارة. فأحنى العجوز رأسه وهمهم.

   توقف عن طعامه في أوقات متقطعة خلال الوجبة, وحملق بغضب شديد  في زوجته، لكنه أكل جيدا. كان يطيب له مذاق الطعام البيتي، وبنيان جسده الخارجي السليم، أقوى وأصلب من أن يؤثر عليه عقله. لكنه بعد العشاء خرج، وجلس على عتبة الباب الأصغر من يمين  المخزن الذي قد اختاره مسبقا من أجل أحصنته التي أحضرها من نيوجيرسي لتمرّ منه منتصبة تماما، لكن الآن،  فقد صممته سارة من أجل مدخل بيتها الأمامي؛ وأرخى رأسه بين راحتيه.

 بعد الانتهاء من إزالة صحون طعام العشاء عن المائدة وغسل أواني الحليب، خرجت إليه سارة. كان الشفق يتعمّق. كان هناك ذلك اللون الأخضر الصافي المتوهج في السماء. أمامهما، امتد السطح المستوي للحقل، وفي البعد كانت عناقيد أكوام القش تمتد مثل أكواخ في قرية. كان الهواء باردا جدا وهادئا ومنعشا. من المؤكد أن هذا المنظر الطبيعي مثالي تماما لساعة الطمأنينة والسلام.

 انحنت سارة ولمست إحدى كتفي زوجها النحيلتين لكن القويتين. ارتفعت وانخفضت كتفا العجوز على نحو إيقاعي… كان ينتحب.

 “لماذا! لا تفعل ذلك أيها الأب”، قالت سارة.

 ” سوف  ـ أضع ـ القواطع، و ـ كل شيء ـ تريدينه، ــ أيتها الأم”.

  رفعت سارة مريلة عملها إلى وجهها. كانت قد فازت بفرحة نصرها.

   كان أدونيرام كحصن ، جدرانه دون مقاومة فعّالة، انهارت تماما في اللحظة التي بدأ فيها استعمال أدوات حصاره. ” لماذا أيتها الأم” ، قال بصوت أجش، ” لم يكن لدي فكرة عن مدى ضيق تعيشينه، حتى حصل هذا”.

              **********************************************

 ماري ـ إليانورـ ويلكنز فريمان : كاتبة أمريكية  من مواليد العام 1852. بدأت مسيرتها الكتابية في القصة والشعر للأطفال وهي في سني المراهقة، للمساهمة في تأمين أسباب العيش لأسرتها،  كثيرة التنقل بين الولايات . امتهنت الكتابة بعد فوز إحدى قصصها القصيرة في مسابقة لذاك الجنس الأدبي. وبالرغم من نتاج أدبي غزير من مجموعات قصصية وشعرية، وروايات  في رصد وتصوير الحياة الريفية وما تعيشه النساء بوجه خاص، إلا أن هذه القصة المترجمة the  revolt  of  mother  اعتبرت من أعلام القصة القصيرة العالمية لدعوتها الصريحة للنساء بوجوب إحداث ( انتفاضة) من أجل انتزاع حقوقهن، وتأثيرها أدبيا ومجتمعيا في محيطها، كإحدى رائدات الحركة النسوية أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.  رحلت العام 1930. وبقي بيتها حيث عاشت كما هو، كمستقرّ أخير لها، بعد اعتماد بلدية نيو جرسي له ــ أحد معالم المدينة المميزة حتى الآن.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *