وحدة الفاعليَّة النفسيَّة في قصتين للقيسي والزعبي

(ثقافات)

وحدة الفاعليَّة النفسيَّة في قصتين للقيسي والزعبي

محمد سلّام جميعان

كثيراً ما ينوي أحدنا الذهاب في مشوار إلى مكانٍ، فيقلب نِيَّته وينعطف إلى مكان آخر، ومع أنَّ موروثنا الشعبي لا يستقبل تغيير النِيَّة بفألٍ حسن، إلا أنه في الوقت نفسه يمتدح من يقول ويُغيِّر، لأنَّ هذا هو شأن الإنسان الخَيِّر. ولهذا الكلام مناسبة، فقد كنت عزمت الأمرَ على الكتابة عن المجموعة القصصية < ورقة واحدة لا تكفي> للقاص باسم الزعبي، وما كاد هذا العزم يستحيل إلى فعل، حتى قرأت له في ملحق الرأي الثقافي لجريدة الرأي يوم 16/1/2004، قصة <رواية الفصول الأربعة> فسبق القلمُ عليها عَذْلَ الكتابة عن المجموعة القصصية، فالقصة المفردة التي نشرتها “الرأي” دفعتني لأن أصطاد عصفورين، وأكفِّر عن خطيئة الإبطاء في الحديث عن قاصين مُهمين هما: باسم الزعبي، ويحيى القيسي اللذين تشابهت خيولُهما في مضمار الإبداع. وأكتفي هنا، بالوقوف عند قصتين على أن أُتبع آثاري قصصاً عن إبداعهما في مقالة أخرى. للقاص يحيى القيسي قصة في مجموعته <رغبات مشروخة> عنوانها: <المزدحم> كتبها في العام 1990. وفي العام 2004، ينشر باسم الزعبي قصة <<رواية الفصول الأربعة>. وحين قرأتها حضرت إلى ذاكرتي قصة <المزدحم>، فقلت لنفسي إنَّ الخيول تتشابه، فهذه ليست تلك، ولكي أدرأ الشك باليقين عدت إلى مزدحم القيسي، فوجدت بين القصتين ما هو أبعد من التشابه الظاهري، ففيهما تشابه في البِطانة النفسية وتوترات الحالة الإبداعية وارتباكات الأجواء المشحونة بلحظة القلق المُحفِّز على إطلاق الصرخة في وجه الواقع. إنَّهما ساخطان على جُبن الواقع الإنساني غير القادر على الفعل، العاجز عن المواجهة، ولهذا فهما واقعان في حيرة غامضة نحو تكييف الحدث القصصي ليبوح بالمكنون المضمر جُوّاهما، فكلاهما يقرِّر أن يكتب قصة، ويأتي هذا القرار في مُفتَتح القصِّ مسروداً بضمير الأنا الصادر عن ذات عليمة بما تنوي قوله؛ فقط تحتاج إلى الحسم في إخراج المكبوت، فلدى الزعبي” ثلاثين مرّة أجا وراح الصيف، وأنا أنتظر فرحة أُودعها روايتي، لم أحظ بلحظة فرح…ها أنا ذا أحسم أمري لا بد أن أكتبها قبل أن تتبخَّر الفكرة… أُمسك القلم أغمسه في مداد الذاكرة يا إلهي، مداد كثير، الصور تتدفق الشخصيات الأحداث”. في حين تتفاعل لحظة بدء القصّ عند القيسي على النحو التالي:<كان يا ما كان في قديم الزمان…لا لا هذه لا تصلح مقدمة لقصتي العظيمة…إنها معروفة…ترى ماذا سيحدث لو أنني بدأت بشيء مختلف، مثير… سأجعل الحبكة مفككة… سأمهد للحدث بعناية، أخلق له جواً خاصاً>. الثيمة التي تتحرك فيها البدايتان هي اللغة الشعبية، فثلاثين مرة أجا وراح الصيف تقابلها: كان ياما كان… والصور التي تتدفق وكذلك الشخصيات والأحداث، تعادل الاختلاف والإثارة، فالتدفق لا شك مبهج ومثير لدى الكاتب ويعطيه أُنساً عند السيطرة على ارتباكات لحظة الإبداع؛ وإذا يحسم الزعبي أمر كتابة المكنونات في ملفوظات يقرر القيسي ويحسم على طريقته الموازية في جعل الحبكة مفكَّكة، وسيمهد للحدث بعناية. لقد وصل كلاهما إلى نقطة الانطلاق نفسها في ترجمة القرار المضمر إلى فعل قصصي يعبِّر عن الواقعة التي تعانيها الذاكرة والمخيلة. قد يقود المكر إلى أن يقول القارئ ما يشكك في المطابقة والمقابلة، ولكنه حين يعود إلى النَّصين في مظانِّهما ويستجليهما هناك، دون اختصارات أملتها ضرورات النشر، سيصدع معي بوحدة الفاعليَّة النفسيَّة الكامنة في لحظة توتُّر الإبداع والمبدع، وسيؤشّر من دون تحفُّظ على التشظي والاستدخالات الشعورية التي تحكم النصين وتفصح عن بقاء الحالة القصصية داخل الذات، والتعامل مع أحداثها بنجوى داخلية، فالأحداث تدور داخل ذات القاص. وكلا القاصين منتشٍ بالبطل الثري بالإمكانات والقدرات المميزة له بحسب تخطيط مسبق بالصفات التي تجعله في موقع الأوَّلية والفذاذة. فبطل القيسي أو كما يتخيله: < إذاً سيمسك البطل المصباح…هائل القوة، عضلاته نافرة، أصلع له خصلة شعر يتيمة في مقدمة رأسه…عيناه ناريتان، له قدرة على حَمْل الجبال الضخمة…هَدْم مدن بأكملها…ماذا لو تدخَّل الجِني بالسياسة>. ولنصغِ للزعبي ونقول بعدها “يا مُيَسِّر”:< هو ذا بطل روايتي يبرز من حطام السنين..بطلي محامٍ- المحامي أفضل نموذج للمثقف- سأجعله ذا ماضٍ سياسي، لا، بل الأفضل أن أجعل له مستقبلاً سياسياً>،< بطل يسير عكس التيار..بطل لا يعرف الخوف ولا تُرهبه كل وسائل القمع>. في مزدحم القيسي يخرج الجنّي/ خادم البطل، من القنينة، في حين يبرز بطل الزعبي من حطام السنين، فالبروز والخروج فعلان يجسِّدان معنى الظهور، وكلا القاصين مسكون بإيجاد البطل ذي الصفات المثالية القادر على إحداث الأمنيات التي يسعى السرد القصصي طوال القصتين إلى تحقيقها، وتجسيد حالة التفاؤل لدى المُضطهَدين، وكلا البطلين يعمل في السياسة، والمصباح الَّذي يمسكه بطل القيسي يعادله القانون الذي يُفعّله المحامي بطل الزعبي، فالمصباح والقانون كلاهما يقود إلى نور الحقيقة والحق، ويقيم ميزان العدل بين الأشياء، وكلا البطلين يعيش تحت وطأة الوجود الإسرائيلي والأميركي على الأرض العربية. والقيسي يخاطب العفريت: <أيها العفريت الطيب الرائع…مشكلتنا الوحيدة هي إسرائيل..نعم صديقي العفريت…احتلت أرضنا… رُمّلت نساؤنا… ذُبح أطفالنا… أُكل برتقالنا>..في حين يتطابق بطل الزعبي في همومه مع العفريت، الَّذي هو رمز للشعب وإرادته، والسياسي هو من يمثل الإرادة الشعبية في لحظة صدقه، وبنص عبارة الزعبي < سأجعله ناشطاً سياسياً يقود المظاهرات ضد أميركا وإسرائيل. أميركا تحرِّض على الحرب على العراق>، حتى عندما يخذل البطل صانعه، يصف القيسي بطله بأنه < غبيّ دون أحاسيس، مطيع لا يناقش…>، وهي صفات مقارِبة لصفات بطل الزعبي < بطلي لا يفعل شيئاً، يظل مستلقياً على الكنبة أمام التلفاز يتابع مشهداً سخيفاً عن تحطيم تمثال…> وينتهي كلا البطلين بالهزيمة الروحية والمعنوية حين يصدمهما الواقع الشرس < إذن يجب أن أوضِّح للقرّاء بأنَّ بطل قصتي سيقول ما يقول وهو يبكي… ينتحب… ذلك أقرب للواقع>. قصة المزدحم/ أما بطل ” رواية الفصول الأربعة” فيقول عنه الزعبي: < مللت بطلي المُحبَط> إذ يشتري ستالايت ليستمتع بالبرامج الترفيهية وينتهي على هذا النحو هو وزوجته: < ثم عدنا نقرقش البوشار ونلتهم أحداث الفيلم الأميركي..>. إن ما هو أهم مما سلف، القول في الفضاء القصصي لدى القاصين، هذا الفضاء الَّذي يتحرَّك ضمن نسق نفسي واحد قوامه الأمل الَّذي ينتهي بالإحباط، والتعلُّق بالقوة التي تؤول إلى ضعف، والبطولة التي يقلِّصها الجبن، فالواقع أشرس من الآمال المعلَّقة على الحاضر والمستقبل. وإذا تتبعنا حركة الحدث في القص ألفيناها تتوحَّد في الصعود والهبوط وتتذبذب بصورة تعبّر عن تراجيديا الشخصية الرئيسية/ البطل الَّذي لم يفصح عن اسمه، وكأنه أمل غائم أو حالة مرتجاة، تشبه البحث عن المهدي المنتظر، الَّذي لا يتيح له الزمان تحقيق رسالته في الاقتصاص وإقامة العدل ومحو الشرور. وإذا كان مُسمّى البطل مُغيَّباً في القص، فإن صفاته تحيل على شخصية سياسية في الواقع المشهود، أو على الأقل تحيل إلى اتجاه إيديولوجي مُشخَّص في الحياة الحزبية العربية، وليس من المبالغة إذا قلنا إنَّ كلا البطلين لدى القاصين ينتميان إلى الاتِّجاه الإيديولوجي نفسه. ذكرت في البداية التاريخ الَّذي انوجَد فيه كلا النصين، وهما تاريخان ذوا دلالة، فحرب الخليج الأولى كانت العام 1990 والخليج الثانية عام 2003، فإذا افترضنا صدور القصتين عن تلك الأجواء يتيسَّر لنا فهم الوحدة الشعورية التي أفضت إلى كتابة هذين النصين اللذين تتواشج بينهما العلائق النفسية، سواء استدخال الحدث أو طرائق التعبير عنه، فالصورة النفسية وأثرها الشعوري في النفس العربية واحد، والجامع بينهما هو الإحباط بعد فشل “المهدي المنتظر” في غسل المرارات من النفوس المروَّضة بالشَّراسة، حتى أغلق عليها الكَبت نوافذ الأمل، وكتم أنفاسها عن البوح والإفشاء، فكان من الطبيعي والحالة هذه أن ترتد سيرورة الحدث إلى داخل القاص، فالأحداث تتوالى وتتصارع داخل ذات السارد في القصتين، والملفوظات القصصية تفصح عما يحدث في الداخل حيث يكمن الصراع مع الذات، وما لا يمكن أن يُجهر به يستعيض عنه كلا القاصين بالترميز له عبر الإشارات النقطية للدلالة على المسكوت عنه، وهو كثير لدى القاصين اللذين يجتهدان في بناء الحدث بطريقة تحرّض ولا تصدم، ثمة خوف يتوازى مع لحظة الارتباك التي ترافق بداية الشروع في البوح. إنهما قصتان تقولان ما تقوله المرحلة على تباعد زمن <المزدحم>عن زمن <رواية الفصول الأربعة>، وكلاهما زمن مريض.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *