من رواية (خرائط النسيان) للأديب محمد رفيع

من رواية (خرائط النسيان)..

مَا رَآهُ السَاحِرُ «مِنْ ثُقْبِ البَابِ»

محمد رفيع

_________

في أقصَى الزَّاويَةِ الجَنوبيّةِ لِضِفَّةِ «شَرقيِّ المُتوسّطِ» الطَويلة، وعَلَى بُعدِ «اثنَيْ عَشَرَ مِيلاً بَحريّاً» مِن «شَاطِىءِ تلكَ الزّاوِيَةِ»، جَاءَ أحَدٌ وأقامَ «عَمُوداً أسطوريّاً» طَويلاً من «البَازِلْتْ»، قَاعِدَتُهُ في البَحرِ ورأسُهُ في السَّماءِ. ثُمَّ جَاءَ أحَدٌ آخرَ، وأنشأ عَلى العَامودِ الأسطوريِّ «بَابَاً أسطُورِيَّاً» من «الرُخَامِ». بَابٌ أسطُوريٌّ بـِ«مُفَصَّلَةٍ» واحِدَةٍ، و«مِصرَاعَيْن».

ثُمّ جَاءَ ثَالِثٌ خَبيثٌ، لَم يَرَهُ أحدٌ، وقِيلَ أنّهُ «سَاحرٌ»، وحَرَّكَ البَابَ الأسطوريَّ، بـِمِصرَاعيْهِ، بِـحَرَكةٍ خَفِيِّةٍ، و«سِرِّيّةٍ»، لَم يُدرِكها، ولَم يَعرفها، أحَد. فـ«انغَلَقَ» المِصْرَاعان الأسطوريّان لِلبَابِ، عَلَى «شَرقيِّ المتوسّطِ وجَنوبيّهِ». فَـ«انْسَدّتْ الدُّروبُ» القَصيرةُ إلى «المَشرقِ القَريبِ»، عَلى «أهلِهِ وأرضِهِ وسَمائِهِ وكائناتِه»ِ.

أمّا السَاحِرُ الخَبيثُ، فَوَحدَهُ، ظَلَّ يَستطيعُ مُراقَبةَ حَيَاةِ النَّاس خَلفَ المُتوسّطِ مِنْ «ثُقْبِ البَابِ..». فَرأى، وحَدَّثَ، وقالَ:

«مِنْ ثُقْبِ البَابِ..

أرَى الجَريمةَ في الشارعِ. والمَوتُ يَتحوّلُ إلى حَادِثةٍ فَرعيّة. والشارِعُ هَادِئ.

أرَى ضَحَايا يُقادُون إلى مَوتِهم بِخِداعٍ فَريد.

أرَى قَتلَةً، مِن فَرطِ انهماكِهم، لا يَرونَ وُجوهَ قَتلاهَم.

أرَى رَصاصةً تَبحثُ، كَولدٍ مَذعورٍ، عن أيِّ صَدرٍ أو ظَهرٍ عَابِر.

أرَى إحباطاً، قَبيحَاً، يَسري في عُيون الأطفالِ وأوصالِهم.

أرَى أوطاناً، تُطلِقُ الرَصاصَ على نَفسِها، وتَنتظرُ، مُحدِّقةً، ببلاهةٍ، رَصاصَ أعدَائِها.

أرَى أُنَاساً تَحوّلَ النَّهارُ، فِيهم، والشَّمسُ سَاطِعةٌ، إلى موضوعٍ قابلٍ للخِلافِ والاختلاف..؟!

أرَى حَاكِماً يَتَحَوّلُ إلى مُبشّرٍ بانهيارِ سُلطَتِةِ ودَولَتِةِ.

أرَى مثقّفَاً يَتَحَوّلُ إلى مُنظّرٍ لحُروبٍ أهليّةٍ ووَطنيّةٍ، وبأنّها مَسائلُ هامشيّةٌ، ولا تَدخلُ في جَوهرِ الأشياءِ.

أرَى بَشَراً يَشُكُّون في أنفسِهم، بعدَ أن تَسَلَّلَتْ إلى نُفوسِهِم، وحَياتِهم اليوميّةِ، عاداتُ تَعميمِ الشَّكِّ والشُبهةِ.

أرَى مُحارِبينَ قُدامَى، يَستبدلونَ «الخَاكى..» العَسكريَّ بياقاتٍ أوروبيّة.

أرَى ثُوَّاراً جُدُداً، يَلتحفونَ عَباءاتِ «أنبياءٍ غَاضِبين..»، وتَحتَها قِيافَةُ «يَانكى..» أمريكيّةٌ رَسميّة.

أرَى عَبيداً، يَتظاهرونَ بالإنحِنَاء.

مِنْ ثُقْبِ البابِ.. أرَى؛

أرَى قَاتِلاً يُصلِّي، بِخُشوعِ نَبيٍّ، قُربَ جَريمته. فالقَتلَةُ، أيضاً، يُؤمنونَ بالله..!

وَمِنْ ثُقْبِ البَابِ، أرَى حِبَالَ لِيفٍ مَنصوبةً تَحتَ الحَناجرِ. وفَجأةً، تَستحيلُ الحِبالُ الخَشِنَةُ إلى رَبطاتِ عُنقٍ أنيقةٍ، على صُدورِ الرِجال».

May be an image of 1 person and text

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *