(ثقافات)
عدي مدانات في ذكراه
ــــ راحلان … ودعوة موحّدة في كتاب ـــ
” يرحل الجسد.. وتلوب الذكريات والصور في أوجاع قسوة صقيع صمت صاحبه مع توالي الأيام. وفي هذا اليوم إذ تّنهي سنتها السادسة، تتطابق تماما مع تسميتها الذاتية بتاريخها، فيلسعنا بقوّة ذاك الصقيع الممتد. ولا نريد المراوحة في تلك الحالة، ولن يكسر قسوة الصمت المُمتهن، ويقلّل من أوجاع لسع صقيعه، إلا نصّا مكتوبا بتوهّج فعل الكتابة، في لحظة اندماج كليّ بين مكنونات نفس إنسانية وقدرات عقلية بمقوّمات ذاتية. فيتجسّد صاحبه المتطابق معه ليعطي اكتمالا حيّا … كي نستجيب للدعوة.”
×××××
قصة “الصباح ـ مرة أخرى”
ــــ عدي مدانات ـــ
لم يكن صباحا مُسرًّا كما تاقت.
في لحظات تبدّد كل ما حلمت به وصبت إليه، فبكت. لم يخطر ببالها أبدا أن يتحوّل عتبها له إلى شجار دامٍ، وكأنما ترقّبا ، هي وهو، لحظة كهذه لينفجر ما في داخليهما بمثل هذه القوة والقسوة. فجأة كشف كل منهما عن مخزون هائل من المرارة.
رغبت بشيء آخر مختلف تماما عمّا حصل. فحينما كانت تغلي القهوة نظرت دون قصد من نافذة المطبخ، فرأت ما أثار فيها اضطرابا. كانت ستارة البيت المقابل للمطبخ ترتعش بفعل نسمات الصباح، وهبت ريح خفيفة فتحركت الستارة، وفضحت شيئا مما يجري داخل الغرفة، كان زوجان شابان يتداعبان وجسداهما معرّيين. أبعدت نظرها عن النافذة. اكتأبت. حين حملت له فنجان القهوة، تصرّفت برقّة غير مألوفة، تأكدّت من إغلاق الستارة، نزعت عن جسدها قميص النوم وجلست قربه. فكرت أن تهمل فكرة العتاب هذه، وأن تلتصق به فقط، أن تتكئ على كتفه وتستكين. ودّت لو إنه يحنو عليها قليلا، يأخذها بين يديه. ولكن صوتا لم تتعرف عليه ، في البداية، خرج منها متلعثما، متشربكا، ومسببّا لعتاب. غير أن زوجها انتفض، وابتعد قليلا عنها. تدفّق منها كلام لم تعتقد من قبل أنها قادرة عليه، ولم تكن ردّة فعل زوجها هيّنة أيضا، فتشاجرا.
دخلت إلى الحمام، غسلت وجهها وعادت. تناولت ثوبا من الخزانة وارتدته، ولم تقل شيئا هذه المرة. اعتقد زوجها أن العاصفة قد هدأت حتى أنه تجرّأ قليلا ومدّ يده إلى الستارة، فأبعد طرفها قليلا ونظر إلى الخارج، ثم أهملها ونظر إلى زوجته.
شعرت باشمئزاز لا مثيل له، وبأنها تكرهه، فقرّرت أن تحسم الموقف في الحال، فطلبت الطلاق. نظر إليها دَهِشا، ولم يبدِ رد فعل. كان فقط غاضبا ومخذولا.
ـــ تقول إنك كريم معي… هذا الثوب بلى من كثرة اللبس.
فتحت باب الخزانة بعنف وتناولت ثوبا آخر، نزعت القديم واستبدلته.
ـــ هذا الثوب هدية ابنة خالي، لولاها لم يكن لدي ثوب مناسب أخرج به.
بلغ الجرح مداه في أحشائه. كان في هذه اللحظة حاضرا وغائبا ومعزولا.
ـــ إنك حقا مقيتة وتافهة. اتركيني واذهبي إلى أهلك أو إلى ابنة خالك او من تشائين، لا أريدك في بيتي لحظة واحدة.
ــ إنك تخطط لهذا منذ زمن، ولذلك تظلّ صامتا طوال الوقت، لا تحدثني كما يفعل الزوج مع زوجته عادة، ولذلك ترفض أن تنجب مني طفلا. اطمئن، سوف يتحقق لك ما تريد، أنا ذاهبة.
بحثت عن الحذاء أسفل السرير، التقطته، ووجدت حقيبتها على المنضدة، تناولتها، وغادرت غرفة النوم. لكنها بقيت في غرفة مجاورة، وأحدثت جلبة. وضع قبضته على جبينه وضغط، أزاح يديه، ودفع رأسه إلى الخلف، استقرّت عيناه باتجاه السقف.
شرعت في نحيب حادّ متقطّع، بدّد ما لديه من قدرة على الاحتمال. نهض وسار في الغرفة. خطا نحو الباب، توقّف عنده، مدّ يده إلى المقبض، همّ بفتحه ثمّ ابتعد. استلقى على السرير، غادره. بحث عن علبة التبغ، وجدها، فأشعل لفافة، أطفأها، وأشعل أخرى، عبّ منها نفسا طويلا. اتجه إلى الباب ثانية وفتحه.
ـــ تقولين إنك ذاهبة إلى منزل أهلك ــ ها … أنا لا أصدّق ذلك. إنك فقط تجلسين هنا وتنتحبين، لماذا؟ لكي تزيدي من آلامي!… أي ذنب اقترفته معك؟ … ألا يكفيني ما أنا به من تعاسة؟ أنهك فكري وجسدي، لتسديد ثمن هذه الشقة التي كنت مصرّة على شرائها. حقّقتُ رغبتك، فماذا كانت النتيجة؟ … ماذا تبقّى مني الآن؟ .. لا شيء … أين ذهبت أحلامي القديمة وأمانيّ؟ .. لم أعد سوى مستهلك غبي، عصا تدور في رحى الطاحون. تظنين أنني لا أريد طفلا، إنني أتشوّق لذلك، إن إنجازا طبيعيا وبسيطا كهذا لم أحصل عليه. حتى الحيوانات تفعل ذلك. لم تكن فكرة عدم الإنجاب فكرتي أنا، تذكّري ذلك! حين تحدثنا عن الإنجاب، تحدّثت أنت عن تأمين مستقبل الأطفال، فقبلت رأيك مُذعِنا. لم يكن همّك تأمين مستقبل الأطفال، كان همّك أن تُظهري لأهلك وأقاربك أن زوجك قادر على شراء شقة، وأن تتباهين … هذه الشقة اللعينة، أليست هي القفص الذي حبسنا أنفسنا داخله حتى قضت على آمالنا التي يوما ما كانت كبيرة، وأحالتنا إلى صراصير؟ أخرجي الآن. اذهبي إلى بيت أهلك أو إلى أي مكان آخر، أنا لا أريدك أيضا زوجة لي، ولا أريدك في هذا البيت لحظة واحدة.
ـــ لا يحقّ لك أن تطردني هكذا… تذكّر أنني ساهمت أيضا بقسط من ثمن هذه الشقة، وأنّ لي الحقّ أن أبقى فيها إذا رغبت.
ــ إذن ، أترك لك أنا الشقة وأذهب.
ابتعد ليرتدي ملابسه.
صرخت به : ـــ اطمئن، لا أريد هذه الشقة، إنني ذاهبة في الحال. لم أعد أطيق رؤية وجهك البائس، أنت قتلت فيّ الرغبة في الحياة، وليست الشقة التي فعلت ذلك…
نهضت، صفقت الباب بعنف وغادرت. كان يتعيّن عليها أن تهبط درج طابقين حتى تصل إلى الشارع، ولكنها لم تفعل. توقّفت بعد بضع درجات واتّكأت على دربزين الدرج. امتلأت عيناها بالدموع وبكت.
اتجه إلى الخزانة، تناول حقيبة من على سطحها، مسح الغبار المتراكم عليها ثم وضع ملابس زوجته فيها حتى امتلأت. أخذ الحقيبة ولحق بها، فتح الباب، شاهدها. ترك الحقيبة من يده ووقف مكانه. فُتح أحد الأبواب وصُفق، انتصبت ثم تابعت هبوطها الدرج. أخذ الحقيبة ولحق بها. نادى بصوت جاف : زينب …
التفتت إليه ولم تقل شيئا … ثم تابعت سيرها.
نادى مرة أخرى بصوت أعلى، التفتت بغضب: ماذا تريد مني هذه المرة ؟
ــ إنك لم تأخذي ملابسك.
ــ سأرسل أخي لإحضارها، مساء.
ــ إذن أنت جادّة في ما تفعلين!
قالت محاولة إظهار اشمئزازها: ــ أكثر مما تعتقد.
ــ اذهبي إلى الجحيم إذن. لست بحاجة إليكِ.
ــ الجحيم أفضل من الحياة معك.
هبطت ما تبقّى من الدرجات وغادرت العمارة.
لحق بها إلى الشارع، راقبها وهي تتابع سيرها ببطء، داخله إحساس بالندم والشفقة. حاول أن يلحق بها فسار خلفها خطوات، لكنه لم يتابع. عاد إلى الشقة وألقى بنفسه على كنبة. فكّر بالمجابهة المقبلة مع والدها، ماذا يقول للرجل المحترم، هل سيبدو أمامه ضئيلا إلى هذا الحد؟… ترك الكنبة ولحق بها، سيعتذر لها، إنها ما زالت طفلة بعد، فلماذا يقسو عليها وعلى نفسه؟ قبل أن يصل نهاية الدرج بوغت بها عائدة. وقف مكانه، يفصله عن مدخل العمارة بضعة أمتار كافية لمشاهدتها وهي تتحرك.
بدت له في مشيتها المضطربة ووجهها المكتئب، تلك الصبيّة التي أُولع بها. تدلّت خصلة من شعرها على جبينها أضفت عليها مظهرا طفوليّا محبّبا. شعر وكأن حملا ثقيلا أزيل عن كاهله، اقتعد الدرج. حين صارت في مواجهته، وقفت ولم تقل شيئا.
سألها: هل تريدين شيئا؟
قالت بانكسار: النبتة… عدت لأوصيك بها، أنت تعرف… إنها عزيزة على نفسي.
ـــ سأعتني بها من أجلك … ولكن كيف أفعل ذلك؟
ـــ المسألة بسيطة، اسقها مرتين في الأسبوع الآن، وفي الشتاء يكفي مرة واحدة. امزج قليلا من السماد مع الماء، مرة كل أسبوعين.
ـــ هذه المسألة بسيطة.
جلست قريبا منه. دخل أحد المجاورين، ابتسم لمرآهما، وصعد الدرج.
ـــ أتعرف كيف تسقي النبتة؟ اسمع. لا تدفع الماء بقوة إلى مكان واحد، تلطّف وأنت تسقيها. حرّك يدك وكأنك تصنع دوائر واسكب الماء برفق…
حرّكت يدها، مثلما حين تسقي النبتة. تابع يدها بشغف.
ـــ اترك النافذة مفتوحة ليدخل الهواء والضوء، وحدّثها إذا لم تجد أحدا تحدّثه. النبات يألف الأصوات والأشخاص.
انساب صوتها في أذنيه، شلالا دافئا. اختلس نظرة إليها، كانت تشخص إلى البعيد، وفكّر. ودّ لو أنه يحتضنها الآن …. اقترب منها وأحاطها بذراعه. اتكأت على كتفه….
ـــ امسح الغبار عنها، ولكن لا تفعل ذلك بقسوة كما تفعل معي.
… فاضت عيناه بالدموع، فبكى هو الآخر بكاء هادئا.
ـــ احمل محرمة نظيفة جافة، ولا تُمسك أوراق النبتة بيدك، حرّك المحرمة بلطف.
مسّت يدها يده بذات اللطف الذي تحسّ به. استكان… تغلغلت لمستها إلى أعماقه … كفّ عن البكاء.
ـــ إذا توفّر لك مبلغ صغير، اشتري نبتة أخرى. النبات أيضا لا يحب الوحدة.
أبعدت يدها عنه، افتقدها… احتضنها من جديد. قال:
ــ لماذا لا نذهب إلى العمل الآن. لقد تأخرنا كثيرا.
نهض ونهضت، سارا معا مترافقين على الطريق. قال لها : لماذا لا نتناول الغداء خارج البيت اليوم… ثمّ نشتري نبتة أخرى؟
ابتسمت وقالت: سنزيد من أعبائنا.
ضغط على يدها بحنوّ، ولم يقل شيئا.
***************************************
في تقديم المجموعة القصصية
بقلم : “ناهض حتر”
ـــ بهجة الفن ــــ