*بشار عليوي
اشتهر ” بيير بورديو ” عالم الاجتماع الفرنسي , في العقدين الأخيرين بسبب التزامه بتبني القضايا العامة للمجتمع , وقد فرض نفسه كأحد أكبر الشخصيات في علم الاجتماع المعاصر ،فبين أول دراسة له عن علم الاجتماع الصادرة في الجزائر عام 1958 وآخر إصداراته القائمة على محاضراته في الكولا جدي فرانس , كتب ما يزيد على 30 كتابا.
عدد من المقالات كانت جميعها نقلة نوعية في علم الاجتماع وتغوص أفكار ” بورديو ” بجذورها في تجربة شخصية , فهو ينتمي إلى عائلة شعبية من بيارن في جنوب فرنسا , وقد نجح بورديو في الدخول إلى معهد المعلمين العالي عام 1951 , وهو لم يعبر عن أفكاره بسهولة دون ان يمر بجهد دائم يقوم على المراقبة ،وبدا يختلف كلياً عما يمتاز به زملاؤه الآتون من البرجوازية من سهولة ويسر.
لقد انغمس هؤلاء في طفولتهم في عالم الثقافة العالمية ،حيث اللغة السائدة هي اللغة الطبيعية ،ويتلقى هؤلاء الطلاب المتميزون إرثاً ثميناً ،مع انه غير واضح للعيان إنه الثقافة ،فداخل هذه النخبة الثقافية لا تنتقل القيم بالمال بل بالمدرسة ( الرأسمال الثقافي ) وأفضل عناصر هذه الطبقة هم الذين يقدر لهم متابعة الدراسة في أفضل المدارس وهم الذين يقدر لهم الانضمام إلى جسم الدولة ،وقد خصص ” بورديو ” لذلك في ما بعد أحد كتبه .
ولأن ” بورديو ” لا ينتمي لهذا العالم فقد شعر عندما كان شاباً بهذا الخلل بين عالمه بالأصل وبين العالم الذي يذهب إليه ،وهذا الخلل بالذات هو ما أتاح له ان يرى ما لا يراه الآخرون ،كالقوانين المضمرة والروتين والقواعد الأساسية التي تحكم عالم الأفكار. وانطلاقاً من ذلك راحت كل أعمال بورديو في اتجاه جعل العالم الاجتماعي طبيعياً والكشف عن قواعد لعبة عالم المثقفين والعلماء والمفكرين .وفي احد كتبه يصف هذه الآلية غير المرئية الخاصة بالانتفاء الاجتماعي من خلال المدرسة ،فمجتمعات النظام القديم تورث صفاً ولقباً ووضعية لأن المجتمع البرجوازي يقدم لأبنائه رأسمالاً وإرثاً ،فالجمهورية تحت اسم المساواة بين الجميع ،وقد أوجدت من دون ان تشعر أو تعرف حواجز طبقية جديدة كحاجز الثقافة الذي ينتقل بالدبلوم ،والإرث الثقافي ارث ثمين اكبر مما يظهر للعيان ، لقد أراد بورديو ان يبرهن ان الذوق هو من مسؤولية الوسط الاجتماعي حيث لا تعتبر أفكاره مجرد حتمية صارمة لا تقوم بشيء سوى بإحالة الفكر إلى شروط إنتاجه الاجتماعية ،ففكرة السلوك المكتسب التي تشكل لب أعماله تهدف إلى الإشارة إلى هذه الحتميات اللاواعية والتي تضغط على تمثلاتنا وعلى القدرات الستراتيجية والخلاقة حيث يحدد بورديو السلوك المكتسب بوصفه نسقاً من الاستعدادات الدائمة التي تقوم بوظيفة مبدأ منظم ومحرك للممارسات وللتمثلات .فهو نظام سلوك يسمح بالعمل والتفكر في وسط معين , أما الحقل فهو فكرة رئيسة أخرى في نظرية بورديو ،والكلمة مستعارة من عالم الأدب ومن العالم الفني والسياسي والديني والطبي والعلمي ،وقد أعطاها بورديو تحديداً بسيطاً ،الحقل هو عالم صغير مستقل داخل العالم الاجتماعي الكبير .
ومن هنا لا بد من دخول آلية أخرى مركزية في علم اجتماع بورديو ككتاب” العنف الرمزي ” وهو عنف هادئ ومقنع يمارس بتواطؤ على من يخاض عليه وهو عنف لا ينسحب على الأجساد بل على العقول وهو يأخذ أحياناً وفي العالم الاكاديمي شكل خطاب السلطة أو خطاب المعلم . لقد كانت أعمال بورديو عرضة للعديد من الشروحات وللقراءات النقدية أيضاً فقد تناول النقد فكرته حول الثقافة الشعبية وفكرة السلوك المكتسب وتناول أيضاً عجز علم اجتماعه عن التفكير في التغير. وفي الواقع تشترك هذه الانتقادات بأمر مشترك أننا لا ننفي القيمة الكشفية التي تتمتع بها فكرة السلوك المكتسب مع ان معظم الكتاب قد رفضوا ان يجعلوا منها نظام سلوك صارم ،فالسلوك المكتسب موجود ولكن في مجتمعاتنا المفتوحة يخضع الأفراد إلى إطارات مختلفة من عمليات التأقلم الاجتماعي ولا احد يسجن الفاعلين في قفص حديد .وإلى ذلك فإن رؤية السيطرة بواسطة السلوك المكتسب أو بالعنف الرمزي لا تسمح بإدراك سيرورات التغير والتفتح كما عند المرأة أو عند الشبيه الخارجة من أوساط غير مناسبة وهم يخرجون منها والفئات المتعددة الخاضعة للسيطرة الذين يستطيعون بأكثر من طريق تجاوز ظروف السيطرة ولا يظلون خاضعين للشقاء الأخلاقي ولا للخضوع السلبي.
_______
*(المدى)