بين الشرق والغرب: الجمال وسؤال الكينونة

بين الشرق والغرب: الجمال وسؤال الكينونة

الدكتور سامي محمود إبراهيم الجبوري

رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة الموصل/ العراق

       إن الجمال في الإسلام ينبع من الإيمان، إذ يشكل الوجدان الإنساني أروع ألوان الذوق الجمالي، خاصة في أشكال العبادات والعلاقات البشرية، انطلاقا من جمالية الصلوات ولوحاتها الحية الراقية في تأنيس العمران البشري. وهذا كله يدل على ان نظرة الإسلام إلى الجمال تدعونا إلى التفكر في حقيقة وجودنا الكونية المعرفية والوجودية.

بهذا نجد أن الطابع المميز للجمالية الإسلامية هو ما يميز ثقافة المسلمين، ومن لم يتمثل هذه الروح، فأنه لا يستطيع أن يكون معرفة عن الإسلام وثقافته الجمالية. خاص ان الجمال لا يمكن إدراكه إلا بعرض مادته على القلب والعقل معا.

لقد قدم الفلاسفة المسلمين من خلال مفهوم الجمال فلسفة واقعية تقبض على الوجود المحسوس وتنفذ إلى أغواره بأقصى ما تستطيع من التحليل والعمق والأصالة، في نظام محكم من التصورات. وهي أخيرا طلب دائم للمعقول الذي هو شغلها الشاغل، لتقيم صرحا شامخا لا يفارق الأرض، قواعده أوليات العقل وبديهياته، ولبناته الوقائع المحسوسة.

وهذا يعني أن الجمال هو التكامل والانسجام بين الروحي والمادي، وفي هذا الصدد نجد ان مفهوم الجمال بلغ من العمق والاتساع إلى الحد الذي جعله من ابرز صفات العالمين الطبيعي والإلهي، ذلك ان أغلب المسائل التي تناولها العلم الطبيعي والعلم الإلهي كانت خاضعة لمفهوم الجمال فما من مسألة إلا ويدخل الجمال في أحد جوانبها.

إلى هذا الحد نحن هنا أننا أمام حياة متكاملة، أمام رؤية جمالية تجاوزت الاستيعاب والشرح للفكر اليوناني. بحيث أعطتها وعيا متطورا للجمال والفن، ومكنتها من إحداث قطيعة فعلية مع عدد من المفاهيم التي ظلت بمثابة معوقات أمام تطور النظر الجمالي.

كما نجد ان الفلاسفة المسلمين يعلنون صراحة أن النص القرآني والعقيدة الإسلامية هما أساس فهم الجمال الكوني والإلهي، لذلك ليس ثمة جمال نافع ومفيد أو جمال مغلوط إنما هناك جمال لمعانيه ومالاته. ومن ذلك جمال المساجد حيث اتصفت بطابع جمالي مميز، كما يقول حسين مؤنس: فسواء أكنت في قرية صغيرة خافية في بطن الريف، أو ساكنة خلف كثبان الرمال في الصحراء, أو راقدة في سفح جبل، أو كانت في عاصمة كبيرة، فإن المساجد بمآذنها وقبابها تضيف عنصرا مهما من الجمال.

وهكذا نجد أن الجمال في المعرفة الإسلامية كان أمام مقدس يحافظ على لفظه ومعانيه، ومن هنا ندرك أهمية تأكيد الفلاسفة المسلمين على مراعاة اللغة العربية وأصولها. أما في المعرفة الغربية فكان الجمال إزاء شكل لا يمتلك قداسة اللفظ ولا المعنى. فمثلا وجدنا الحكم الجمالي عند كانت تذوق فقط. وهنا لا معنى لدعوى كانت بأن الحكم الجمالي يرتد إلى أصول سابقة، خاصة انه يحصر الجمال في الشكل دون المضمون.

 وعلى هذا لا يمكن ان تكون معايير القيمة الجمالية ذات نسق معين. لذلك نجد أن فلسفة الجمال الغربية المعاصرة هي فلسفة التمزق بالمعاني والتيه بالمفاهيم.

هذا من جانب، من جانب اخر نجد ان برجسون يرى أن للكون وجود واحد ينحل ويتركب في صور أخرى عديدة. وغاية فلسفته هذه هي إلغاء الثنائية بين خالق ومخلوق، بل ونفي خالق لهذا الكون. ولا تجد في تعريفه لما يدركه الحدس برهانا، ولا في تعريفه مفهوما واضحا، بل تجد المجاز تلو المجاز والتأويل ثم التأويل المضاعف إلى ان يموت المعنى.

ومن المعلوم ان الفلسفة لا تقوم على المجازات المضاعفة ولا التأويلات المنفتحة الى غير نهاية، بل لابد من لغة عامة مفهومة بمعانيها. لذلك علق هربرت ريد على برجسون بأنه نبه الإنسان إلى الرؤية الفنية التي تخاطب حس الإنسان بلغة الشكل ما دامت حياتنا الحسية لا تتصل بالعقل. فالمواد التي يقدمها العقل قد دخلت مقدما في عملية صهر وامتزاج، ثم تصلبت بعد ذلك، ثم أخذت شكل معان يأتي بها الروح دون استئذان.

وهكذا فبالرغم من أن أعمال فلاسفة الجمال، مثل كانت، وكروتشة وهيجل، وبومجارتن قد فتحت آفاقا نحو الامتداد بالجمال إلى عوالم أكثر اتساعا، إلا أن الانشغال بتحليل اللغة وإهمال القيمة الجمالية قد أضفى على الجمال سمة اللعب بالأفكار والتلاعب بالعقول. ومن المعلوم ان الحضارة الغربية اليوم تشهد انهيارا للمعنى، وتراجعا لكل ما هو جميل وقيمي إنساني أصيل.

وفي الفكر الفلسفي الإسلامي، نجد ان الجمال يلتزم بضوابط حتى لا يقع في إسقاطات ذاتية أو إيديولوجية مثل تلك التي وقعت فيها بعض الاتجاهات الغربية ما بعد الحداثوية.

ومن هنا يشكل مفهوم الجمال عند الفلاسفة المسلمين مخرجا علميا ودينيا مناسبا في عصرنا للتخلص من الاتجاهات الرجعية التي تحاول بعض الأهواء اعتناقها، محرضة عن مستجدات العصر وتطوراته العلمية والحضارية من ناحية، وناسية أو متناسية ذلك الأفق المفتوح لسيل المعاني والمفاهيم الإلهية التي يمكن أن يصل إليها الفكر الإنساني. فالإنسان جميل، بل هو أجمل مخلوق في الأرض، وفي هذا يحدثنا القران الكريم أن الله تعالى قد خلق الإنسان في أجمل صورة وأحسنها، بل وقارن بينه وبين سائر الحيوانات. قال تعالى: ﴿ اَللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اْلأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ (غافر: 64). ان الفكر الإسلامي انطلق متحليا بالجمال إلى جميع جوانب الحياة. ومن آيات الجمال الرباني في هذا الكون نرى لوحات رائعة يصدقها قوله تعالى: ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا به حَدَائِقَ ذَاتَ بهجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ﴾ (النمل: 60). قرانا في الصحف عن لوحة جميلة اسمها أزهار السوسن رسمها (فان جوخ) وهو جالس في الحديقة. فكيف باللوحة الطبيعية التي أبدعتها يد الخالق جل وعلا؟ نعم كل ما تقدم لا يعبر إلا قليلا عن معاني ودلالات ومفاهيم الجمال في الفكر الإسلامي.

أما المعنى في الجمالية الغربية المعاصرة فهو نقطة الارتكاز الرئيسية لأجله يستنفر الجمال كل طاقاته ليبني معنى آخر، لذلك تتعدد المفاهيم والمعاني التي يكتشفها العقل بتعدد التأويلات، خاصة وأن اللامعقول في فضاء المعرفة الغربية المعاصرة أخذ يقتطع مساحات كبيرة من ساحة المعقول. ولا مفر للجمال من مواجهة الموت والعدم، لان الحقيقة غائبة بل ومغيبة، والمعنى الجديد الذي تولده العملية الفنية من الجمال لا يحمل صفات وخصائص الجميل نفسه. ذلك ان الهرمنيوطيقا لا تبحث عن تأسيس صروح جمالية فلسفية، كما كان الحال مع الفلسفة الحديثة، بقدر ما هي فلسفة مختلفة تمارس التأويل على كل الثوابت واليقينيات، اذ لا توجد حقائق وإنما فقط تأويلات. وهذا ما اقره نتشه.

         لذلك أيضا أصبحت الأخلاق قضايا ذهنية تجريدية أكثر مما هي واقع عملي حياتي. والأمر عند الفلاسفة المسلمين مختلف تماما فالمعاني تضمن استمرار الجمال وتحميه من الزوال. وبذلك يتم الربط بين الإلهي والإنساني.

ولذلك كانت المفاهيم الجمالية بحد ذاتها تثير من خلال توصيفها اختلافا بينا بين مفهومها الإسلامي الذي يمثل الجمال فيه ركيزة أساسية وسبيلا إلى الاجتهاد، وبين مفهومها الغربي القائم على تأويل الجمال من خلال إقرار المنفعة واللذة، وانه قابل لان يحمل معاني لا يحملها أصلا. إن التباين راجع إلى عدم امتلاك الغرب لميزان القياس الجمالي وشروط الروح وحياة ما بعد الموت، والذي يفقد الشعور بالجمال. فإن الذي يلبس نظارة سوداء لا يمكن أن تظهر أمامه الدنيا إلا معتمة قاتمة ويائسة بل وبائسة.

هكذا أعلن الفكر الإسلامي التزامه بشروط الجمال، لا كما يظن الذين أرادوا التستر بالفلسفة لإيهام العالم بأصالة الفهم الغربي للفن والجمال بهدف إحلال الدين الطبيعي محل الدين الإلهي، وصولا إلى إحلال النموذج الغربي في التقدم والنهوض محل النموذج الإسلامي في النهضة والمدنية. وهي مقاصد تقطع الطريق عليها منهجية الفلاسفة المسلمين وبحثهم عن مفهوم الجمال وحقيقته.

إلى هذا الحد ما تزال شروط إمكان الفهم الغربي للجمال بعيدة عن المواصفات الموضوعية لكونها خاضعة للإكراهات الإيديولوجية ومحكومة بالعشوائية لأنها منقاد إلى العبث والعدمية.

وهنا نحن بإزاء أزمة إنسانية وقلب للقيم ونسف للثوابت، فالدراسات الجمالية ما تزال تبعد الوقائع الغيبية والحقائق الدينية لصالح الفهم النيوي ومقاربات العقل المجرد.

ان فهم الجمال لا يخضع إلى المعطيات التجريبية والنظرية فقط. وهذا ما أكد عليه الفكر الإسلامي كمرتكز لفعل الإحساس بالجمال والنفاذ إلى جوهر الدلالة في الذوق الجمالي والمعنى الروحي.

وعلى ذلك فان الاختلاف بين الفلسفتين الإسلامية والغربية في مفهوم الجمال واضح من حيث سياق قوانين الطبيعة سواء تعلق الأمر بالخلق وعلاقته مع الخالق، أم كان ذلك بين الخالق ونواميس الطبيعة.

هذا بالإضافة إلى ان حتمية الاختلاف بين الجمال في الفكر الفلسفي الإسلامي والجمال في الفلسفة الغربية تؤدي بالضرورة إلى حتمية طرائق الوازع الثقافي، فبينما يستخدم الأول طرائق القياس الافتراضي، يستخدم الثاني معالم الأسلوب الذاتي الذي من شانه ان يسوغ تعزيز التخمين والانتقال به إلى معنى مغاير تماما لمعنى ومفهوم الجمال. خاصة ان المجتمعات الغربية اليوم تعاني من التفكك الأخلاقي والقيمي، وانعكس ذلك في فلسفة الجمال بتعدد لا نهائي في الآراء، وهو ما صير مفهوم الجمال غامضا، لا يمكن تحديده في تلك الثقافة، على حين أن تمجيد الله في الفلسفة الإسلامية، أعلى من شان الإنسان، إذ ربطه بالمطلق، وأحاله إلى مرجعية واحدة، وجعل كل المخلوقات مسخرة له لتحقيق معنى خلافته في الأرض.

كما إن إشباع الحاجات الجمالية لدى الإنسان لو تأملتها تجدها لا تخرج عن معنى حاجة الإنسان الفطرية إلى التعبد والسلوك الروحي. ولذلك فإن الإنسان الغربي بدل أن يسلك بإنتاجه الجمالي مسلك التعبد لله الواحد الأحد، مصدر الجمال الحق، ثم ينحرف بها إلى إشباع شهواته بعدها يمارس نوعا من الوثنية. ولذلك كانت فنونه الجميلة تميل إلى التجسيم ومحكومة بمثل قوله تعالى:﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ﴾ (الأعراف:148). من هنا إذن اقر الإسلام الجمال بمفهوم العبادة، حتى يصح الاتجاه في مسيرة الإبداع، ويستضيء الفنان المسلم بثوابته مصدر الجمال الحق، وتلك هي جمالية التوحيد.

وكأنما الفرق في الجمالية بين مفهوميها الغربي والإسلامي كالفرق بين الحقيقة والخيال. كما لم تكن الصورة التي يبدعها المسلم ثابتة في المتحف والمعرض والساحة، ولكنها صورة حية يشكلها بإبداعه الوجودي بين ركوع وسجود ومناجاة وحوار تعبدي.

يقول (سوريو):” إن الروحية الإسلامية لها ضمانات مميزة في الفن التجريدي”، الذي يبتعد عن التشخيص. وهو خلاف التجريد الغربي، إذ أن مصطلح التجريد في الفن الإسلامي له مدلول يختلف عن مدلوله في الحضارة الغربية. لهذه الأسباب نجد ان الوضع الفني والجمالي في الغرب قد وصل إلى أفاق ضيقة. فالزائر الذي يتجول في أرجاء متحف للفن، لو انتقل من قاعة تضم لوحات انطباعية إلى قاعة أخرى تضم لوحات حديثة من الفن التجريدي أو التجسيمي، لاجتاحه شعور بالانتقال من عالم إلى عالم آخر، وإحساس بالغربة عميق. بينما السلوك الإسلامي انطلق متحليا بجماليته إلى جميع مناحي الحياة. فكانت له في كل ذلك تجليات خاصة تتميز بخصوص المفهوم الإسلامي للجمال. وأهمها انه لا شيء في هذه الدنيا الفانية يزعج المؤمن فهو دائما راض عما قسمه الله تعالى له من نعم وجمال، لأنه يعلق آماله على الفوز بالحياة الأبدية الباقية المؤدية إلى سمو الروح والمشاعر. ولا زالت طرائق تحسين الأخلاق ذات مناهج متنوعة منها توظيف الفنون الجميلة لترقيق الطباع وغرس التربية الجمالية والذوقية في النفوس والخالية من الرذالة والابتذال.

يقول الرصافي ان الفنون الجميلة تجعل مشاعرنا رقيقة تغني جمال الحياة:

تلك الفنون المشتهاة هي التي          غصن الحياة بها يكون وريقا

وهي التي تجلو النفوس فتمتلي             منها الوجوه تلألُؤا وبريقا

وهي التي بمذاقها ومشاقها                 يمسي الغليظ من الطباع رقيقا

وهكذا توسع الفنون نطاق فكرنا، وتجدد حركتنا، وتلهم مشاعرنا بقوة الجمال وروح الإبداع.

فالإنسان يحمل خلاصه في داخله، فإنسانيته كامنة فيه بالقوة، ولا يحتاج إلى اكتسابها من غيره.

فالجمال اية من آيات الله التي أودعها في خلقه، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾. فقد تضمنت الآية جمالا من الطبيعة ومظاهرها، ما يدعو المرء إلى النظر والتأمل فيها، بل إن هذا الجمال ما ذكر هنا ليحفظ ويعلم فحسب، ولكنه ذكر أيضا كي يستمتع به الإنسان. فعن جمال السماء والكون، قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ صدق الله العظيم.

فالطبيعة بكل ما تحتويه تصلح ميدانا رحبا للجمال. قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾. فهذا المشهد العظيم لوحة من الطبيعة، التي لا تحدها الأنظار ولا تحيطها العقول.

كما ان الجمال من أبرز سمات الإنسان قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾.

هذا الموقف بعيد عن الفلسفات الغربية التي تضع الإنسان في مرتبة أدنى من الحيوان، فتطلب منه العيش بغرائزه بدلا من العقل.. إنه موقف يعطي الإنسان معنى وجوده والحياة. فالدين والفن يتناقضان إذا كانت النظرة الدينية ناقضة للقيم والأخلاق والذوق جاحدة للفطرة الإنسانية السوية. يتناقضان إذا كان الفن يساوي اللذة والمتعة فقط.

لهذا علينا أن نتبنى التخطيط لصحوة ذوقية فنية إسلامية معاصرة تتبنى إصلاح ما تبقى من هدم الذات وهدر الكرامات والذوق السوي، وترهف حسها بمواطن الجمال في هذا الوجود صنعة وعيش.

وهذا تأمل يقود إلى اكتشاف حقيقة وجودنا واكتشاف قانون الانسجام والتناغم الحاصل في علاقة بعضها ببعض، فكل مفردات الكون موضوعة في قانون الهي موحد محكم ومتين في غاية الجمال.

لقد مر معنا ان الفن الجمالي اليوناني قد تمثل الصراع الفوضوي الشاذ بين الآلهة والإنسان، خاصة ان الإنسان عندهم تائه، يسعى لإثبات ذاته من خلال مصارعة القدر. كما وجدنا بعض فنون الغرب تحارب المجتمع والقيم الخيرة واهمها الوجودية التي تؤكد على العزلة والفردانية .

   في ظل هذه الفوضى أنتج الفن الأوربي روائع إنسانية بارعة ولكنها روائع مشوهة بسبب تلك الانحرافات. إن ما فيها من روعة التصوير لدقائق الحياة ليأخذ الإنسان فيتمنى أن لو كانت سلمت من هذه الانحرافات اللاإنسانية التي تفسد الجمال وتشوه الحقيقة، كالصراع  من اجل الفوضى الى حد التناقض. وعبثا يطاول الوعي الجمالي أعالي الجمال المبهر والكينونة الازلية. أليس على الجمالية، وقد استضاءت بالألوهة أن تبدأ ببلورة بشرية جميلة بتوازنها وإيقاعها الإنساني النبيل. أيضا وجدنا التجربة البراجماتية عند جون ديوي الذي تناول مفهوم الجمال من خلال الفصل بين الذات والموضوع . فالإحساس الجمالي إنما هو تلذذ.

 كما يربط جون ديوي بين الفن والمنفعة لذا يرفض الفصل بين الفنون الجميلة والفنون التطبيقية.

فهو يرى أن التفرقة بين الفنون الجميلة والتطبيقية نشأت عن ظروف في المجتمعات الغربية الحديثة أدت إلى ظهور فكرة المتحف باعتباره مكان الأعمال الفنية وبالتالي فان الأعمال الفنية ليست قائمة بذاتها ومستقلة عن الحياة اليومية. وبالتالي استطاع إحالة الفن إلى مجرد نشاط أداتي لخدمة غايات أخرى حيوية أو اجتماعية فتحول عنده إلى مجرد إدراك حسي نافع.

الى هذا الحد نلاحظ وجود اختلاف واضح معرفي ووجودي بين التصور الإسلامي للفن والجمال والتصور الغربي. اذ تنحصر مصادر المعرفة الغربية في الوجود إلى واقعنا الحسي، تمتد في المقابل المصادر الجمالية الإسلامية لتشمل الوحي وما وراء المحسوس.

   أيضا نجد ان مفهوم الجمال في منظوره الغربي الما بعد حداثوي هو مفهوم متشظي ومتهافت يبحث عن المعنى ولا يجده.

    مع ذلك التشتيت نجد ان بعض اتجاهات الحداثة وما بعدها تشير إلى اتجاهات جمالية مهمة غيرت نظرة الإنسان نحو فضاءات اجمل. ذلك ان الحضارة الشاملة تتأسس على الخير وجمال القصد. وما قتل الفن الغربي وجمال رؤيته للحياة إلا الولع بسجن المنفعة واللذة بشتى صورها الجامدة وحركتها الوهمية المصطنعة مع سيولة قصدية تعمل على إذابة الحواجز وسائر أنماط العيش الكريم. لذلك نجد ان الوضع الفني في أوروبا والغرب قد وصل إلى الطريق المسدود. مشاعر عدمية غامضة، وإحساس بالغربة عميق يتخلله سوء هضم في الأمعاء الروحية لمجرى النفس. منتهى الانحدار نجده في حضارة اللاجدوى والتوحش، حضارة ما بعد البعد.

فقد يخفى على الإنسان وجه الجمال في شيء من الأشياء لكون الإنسان عاجزا عن إدراكه، ولعل مجال الجمال المعنوي أكبر دليل على ذلك، إذ لو لم يتم تنزيله لما أدركه الإنسان. فالجمال آية تدل على قدرة الخالق وإبداعه، إذ إنه لم يخلق الخلق فحسب، ولكنه خلق فأحكم.

فالطبيعة بكل ما تحتويه من أرض وسماء، وإنسان وحيوان، ونبات وجماد، تصلح ميدانا رحبا، ومجالا فسيحا للجمال. فهذا المشهد العظيم لوحة من الطبيعة، التي لا تحدها الأبعاد والأنظار، يسرح فيها العقل والبصر.

ظلت البشرية قرون عديدة لا تفهم معنى الحياة، حتى جاء الإسلام الذي وازن بين الأرض والسماء في نظام كوني عجيب يعتمد قانون السببية، الذي يرفض الصدفة والاتفاق كما يرفض الضرورة. وبالتالي يقدم نظرة جديدة للعالم، نظرة تجعل من هذا الكون كلا متماسكا منسجما يسير الى غايته المقصودة. هذا النظام هو الأثر الناتج عن ذلك التناسق والتناسب والتعادل والتوازن والترابط بين الأشياء. قال تعالى: (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن، 7). وقوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد، 8). هذه الحقائق التي يقدمها القران ليست عصية على الإنسان، بل يدركها بفطرته السليمة في كل ناحية من نواحي الوجود كله وغاية الوجود الإنساني. إنه عالم الغيب والشهادة، لا عالم الشهادة فقط. إنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها، الموت ليس نهاية الرحلة إنما هو مرحلة في الطريق. وما يناله إنسان من شيء في هذه الأرض إنما هو قسط من ذلك النصيب. وان الرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون كبير وفي سعة دائمة.

وهذه الروح المنبثة في العالم أجمع والجاعلة منه كيانا منظما ليست بعيدة عن عقول فلاسفة الإسلام ونتائج فكرهم في مختلف مناحي الفن والجمال، حيث إن كل مادة تصبح حاملة للروح، فلقد ادرك العقل الفلسفي هذه الحياة السارية في الكون كله، وحقيقة اتجاه روحه الى خالقه، بالإلهام الذي فيه، ولكنها كانت تغيم عليه وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس، ولقد استطاع أخيرا ان يصل إلى اطراف قريبة من حقيقة الوحدة في بناء الكون، ولكنه لايزال بعيدا عن الوصول الى حقيقة روحه الحية الواقفة على امر الله تعالى.

فالكون متجه بحركة روحه إلى خالقه: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)(الرحمن، 6) . وقوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)(الإسراء، 44).

فهذا الكون قد يبدو لغير المسلم جامدا لا يحس ولكنه في تصور الإنسان المسلم يتمتع بالحياة والإحساس والإرادة . قال سبحانه: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا…)(الأحزاب، 72) . وهكذا يبدو الكون مشاركا للإنسان في أسمى صور مشروعه الوجودي والمتمثلة بعبادة الله سبحانه وتعالى. هذا الشعور الإنساني الرفيع المتساوق مع الفطرة السليمة والمنبعث من الإيمان بالله وتوحيده، يعتبر شرطا مهما في ادراك المفهوم الإسلامي للجمال. ذلك ان فكرة الجمال في الإسلام واضحة تنبع من الإيمان والتوحيد فإذا ذهب الإيمان غاب الجمال .

فلا بد ان يتوفر الجمال في ذات الإنسان وجوهره وفطرته اذ ان الله سبحانه خلق الإنسان في احسن تقويم، خلقه على الفطرة لتحمل معها كل عناصر الجمال فإذا فسدت الفطرة وانحرفت واختل الإيمان واضطرب بما كسبت يدا الإنسان ارتد الإنسان وفقد بذلك كل عناصر الجمال في نفسه ثم في وعيه وإدراكه. ومصداق هذا الاختلال والاضطراب في إدراك الجمال وتذوقه وجدناه في الفلسفات الغربية، اذ نشهد لديهم تلك الحيرة والارتباك فيما طرحوه من نظريات متناقضة حول الجمال وحقيقته. اذ انحصر موضوع علم الجمال في الفلسفات الغربية على جمال الفن الذي يقصي الواقع، لا يوجد الجمال الحق إلا في مالا فائدة منه، كل ما هو مفيد وأصيل ونقي.

إن هذا الاضطراب الذي ساد المفهوم الجمالي في الفلسفة الغربية راجع إلى اختلاف المنطلق العقيدي الذي يبدأ منه المفكرون وإن تزعزع القيم الدينية في الغرب والموقف السيء الذي وقفه المفكرون والأدباء والفنانون عامة من التصورات الكنيسية وتاريخها قد ساعد على محاولة إقصائها عن الحياة والفكر والفن بصفة عامة، وهي ظاهرة خصام بين الكنيسة والفن كما حدث بينها وبين السياسة والعلم وقد ساهم هذا الموقف في انحرافات خطيرة للفلسفات والآداب الأوربية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقلت عدواه الى بلدان العالم الإسلامي والشرق بصفة عامة على الرغم من عدم وجود مبررات حقيقية لهذا الخصام في اطار المفهوم الإسلامي، لأن الإسلام يقدم مفهوما واضحا للجمال من خلال رؤية كونية شاملة يمليها العقل المستقيم والفكر السليم.

من هنا يمكن القول بأن جمالية الدين تتجلى عندما يحول الإنسان تدينه حبا نحو الحياة بدل الموت. والعلم أشبه بالدين في هذه المسألة فجمالية العقل العلمي تتجلى في التنازل عن جبروته والتأسيس لعالم يتسع للجميع. عالم يتعايش فيه الإنساني والإلهي معا.

إن التفكير في معنى الحياة يقتضي فلسفة حقيقية للانعطاف تدخل الحكمة الإلهية كبعد أساسي ضمن ممكنات التفكير الفلسفي والجمالي. انها فلسفة تنعطف جهة المقام الحميمي الذي صنع وجهة الحداثة لإعادة نسج خيوطها، وجهة العلاقة بين الحداثة والدين، وبين الإنسان والله، ليكون الانعطاف بذلك ضربا أصيلا من التفلسف لا يفيد التوجه نحو ماض ولى، ولا يعني نمطا من الدفاع المحموم عن عقيدة دينية معينة، ولا يعني مهاجمة كلبية للعقلانية وللحداثة .

ولما كانت كل حركة للإنسان في هذا الوجود يجب أن تصدر باسم الله تعالى، الذي تتجلى رحمته بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فستكتمل عندها الصورة، وسيتحقق الانسجام الكامل في حركة الوجود. وإن صح التعبير فإن الدين هو الرياضة التي تعلمنا كيف نحقق الانسجام مع حركة الكون، لنكتشف أن الكون يبلغ في انسجامه غاية الجمال والكمال. أما الخروج على تعليمات وإرشادات الخالق الحكيم فهي الحركة العشوائية التي تجعل الإنسان يبرز كنغمة شاذة في لحن الكون الرائع.

         إنها قناعة، وقرار للكائن الإنساني الحر أن ينسجم طواعية مع حركة الكون المستسلم فطريا. إنها لحظات جليلة، يكتمل جلالها عندما يستحضر الإنسان ضميره في جمال هذه الحقيقة، ويدرك أنه يعيش لحظات الانسجام الكوني وجمال الوجود.

         فإذا كان الخير هو التهيؤ نحو الانسجام الكوني، فإن الشر هو الحركة نحو التباين والفوضى، وهو الشذوذ المؤذي للفطرة، وهو التبعثر المشوه لجمال الصورة. لذلك لا يمكن للشر أن يدوم، لأنه مناقض للفطرة ولقانون الوجود. ولا يجوز لنا أن ننتظر حتى يلقى الشر مصيره، باعتباره معاكسا لحركة الوجود، لأننا جزء من هذه الحركة. من هنا كان الأمر بالمعروف بالخير والنهي عن المنكر والشر من أبرز الفروض في الشريعة الإسلامية.

يأتي هذا الفهم على النقيض من العدمية التي باتت تجتاح العالم المعاصر، وهي علامة على الأفول الروحي للإنسانية الغربية التي أبدعت الميتافيزيقا وأهدتها لمجموع البشرية، إذ المعتبر في السؤال عن معنى الحياة هو اتصال بين الإنساني والإلهي، وهذا لا يفكر فيه إلا عندما تغدو الحياة غارقة في الأزمة، التي تظهر في عجز حقيقي أمام أسئلة الشر والعنف والإرهاب. وهي عدمية مزدوجة يمينا ويسارا، شرقا وغربا، هي في نهاية المطاف ضد الإنسانية.

شاهد أيضاً

سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في أبوظبي للكتاب

(ثقافات) سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في جناح مؤسسة العويس بمعرض أبوظبي للكتاب   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *