بقعة عمياء

(ثقافات)

بقعة عمياء

قصة قصيرة

خلود الإبراهيم

استيقظتُ مبكرة، من المزعج الاستيقاظ في وقت مبكر في يوم اجازة، بقيتُ في السرير افتح عينيّ ثم أغلقهما أقاوم كسلاً لذيذاً، استدرتُ جانباً، شرعتُ عينيّ فوخزتني أشعة الشمس، مددتُ يدي بكسل فأسدلتُ الستائر التي فوق رأس السرير، اخذتُ أتأمل ضوء الشمس المنبثق من خلف الستائر الشفيفة، مُشكلاً ممرات مضيئة  تتراقص فيها ذرات الغبار، يتمّطى الضوء ثم يستلقي بسلامٍ أمام عتبة الغرفة، داهمتني أفكار كثيرة مرّة واحدة، فكرة المشي في شوارع عمان وهي خالية من المارة دفعتني إلى النهوض كطفل يستعجل النهوض في صباح يوم العيد.

 منذ زمن طويل لم أجب شوارع عمان القديمة، واستنشق هواءها الصباحيّ و اتسكع في وسط البلد كزائر أجنبي مشدوه بسحر الشرق، روتين العمل في المكتب و التقوقع على كرسي خلفهُ جعلني اتحول إلى أحد اقدام المكتب الاربعة التي ينتصب عليها ولا يستغني عن إحداها، نهضتُ على عجل وقد غادرني الكسل فجأة، يمّمتُ شطر المطبخ أعدُّ فنجاناً من القهوة، يمدني بصحو استثنائي لأقوى على ممارسة نشاط مبكر في يوم إجازة، شربتُ قهوتي على مهل في شرفتي التي تطّل على عمان التي راحتْ في سباتٍ بعد ليلةٍ ضجتْ بالصخبِ والأضواءِ و بهجةٍ عاشها من صنعوها، تنام كهرٍ كسول غفا من فرط التعب، ثمّة طيور تتقافزُ على غصن شجرة التوت التي تمطتْ اغصانُها الى شرفتي، و ارتدتْ خضرتَها التي جلبها آذار معه بعد شتاء كثير المطر و الخير، عمّان تستحقُ خيرَ السماءِ و خير الأرض، على عجل رشقتُ وجهي بالماء و نظفتُ أسناني و ارتديتُ ثيابي، لففتُ وشاحاً ربيعيّ الألوان حول عنقي، ربطتُه بعناية، بالغتُ بالاهتمام بمظهري، وكأني على موعد مع من أحب.

خرجتُ الى حيث تقفُ سيارتي امام العمارة، كباقي السيارات التي تقف في الشارع و لم يخصص لها موقف داخل العمارة كالذي فرضته الأمانة، لا ألوم الأمانة على فرض هذا الأمر، فالمدن التي اعتنقتْ التطور الحضاري لا تقف سياراتها في الشوارع، لا زلت أرى صور أوروبا في عمّان، الحياة القصيرة التي عشتها في أوروبا جعلتني لا اتوقف عن المقارنة، مقارنة مدينة في بداية نموها كعمان بمدينة ناضجة في اوروبا، مقارنة يعول عليها إن كانتْ في ضمير من يقع على كاهلهم بناء الوطن، لا انكر ان لكل مدينة بصمة تميزها عن غيرها، فالمدن لا تتشابه، ولن تجدَ أربعين مدينة تشبه مدينة ما.

ثمة قطرات ندى عالقة على زجاج السيارة، تلتصق بحنو بالزجاج، تكثف في الجو بردٌ لذيذٌ، غسل روحي مما علق بها، عبّأتُ صدري بالهواء و حبسته لبعض الوقت ثم زفرته على مهل، قلتُ في نفسي كيف لي أن احبس هذا الهواء و أتنفسه متى اشاء، ضحكتُ في سري على فكرتي الطريفة، دسستُ نفسي في السيارة ثم ارخيت جسدي على الكرسي، أهيئ نفسي على عبور عالم السحر، شغلتُ المذياع تدفق صوت فيروز عذباً يدغدغ العاطفة، إنها صباحٌ آخر، انطلقتُ الى وسط عمان حيث قلب عمان النابض، شعرتُ بي طفلاً يركض باتجاه حضن أمه يفيض قلبه بالبهجة لا يعكر باله شيء، الشوارع فارغة من المارة، الصمت يؤثث المكان، انحدر بي الشارع ثم ارتفع بي، اصبحتُ على روبةٍ تطل على وسط عمّان، كنت أسابق خيوط الشمس للوصول إليها ، المحال مغلقة، الشوارع لا يعبرها احد، صوت طيور تحلق في سماء صافية، وقفت بسيارتي مقابل المدرج الروماني احدق بهيبته سافرتُ الى ازمنة كان يجتمع فيها الشعب الروماني هنا، يتحاورون و يتشاورون ويحتفلون….

على حين غفلة مني استيقظتْ في خاطري صور الطفولة، أراني اتسلق درجاته ووالدي خلفي يحذرني من السقوط، اصعد درجة تلوى اخرى دون ان انظر خلفي لكي لا ارى ملامح الخوف على أمي وأبي ، تسلل الحزن إليّ، ونفرتْ دمعة من عيني، افزعني طرق طفل صغير على النافذة يبيع العلكة، يرجوني ان اشتري منه، بملابسه البالية و هيأته البائسة و عيونه الذابلة وقف يتوسل الي بكلمات اوجعتْ روحي، فتحتُ النافذة، ثم نظرتُ في عينه أسأل روحه من الذين ذبحوا طفولتك و براءتك و ألقوا بك بين انياب الذئب، الذي لم تسمع عنه لأنك لم تعش طفولة يُحكى فيها عن قصة ليلى و الذئب، مددتُ يدي لأصافحه، فصافحني وابتسم، قدمتُ له مبلغاً صغيراً، قدم لي العلكة، فرفضتْ أخذها، سالته عن اسمه فرفض اخباري ثم اشاح بوجهه عني غاضباً وقد تبدلتْ ملامحه بدا خائفاً مني، يظنني من جهة أمنية أريد اخذه، ثم فرّ هارباً و هو يدسّ النقود في جيبه و علبة العلكة تحت إبطه، ظللتُ ارقبه وأنا اصارع دمعة تقاوم البقاء، حتى اختفى في الزقاق، سكنتني ملامحه المتعبة، شعرتُ ان البهجة التي حمّلني إياها الصباح بدأتْ تتلاشى، توجهتُ بالسيارة الى قلب وسط البلد طافتْ عيناي بالمكان، لم تعد البلد تشبه ما كانت عليه عندما كنتُ صغيرة، أشياء كثيرة تغيرتْ، بنايات شاختْ و أخرى تصّدعتْ، وبنايات هُدمت  و صعدتْ مكانه اخرى، ابنية هجرها سكانها و اخرى تعجو بقاطنيها، بعد ان رُمِمتْ و جُمِلتْ و تبرجتْ لتليق بمدينة، على ناصية الرصيف ثمة امرأةٌ تحتضنُ صغيرها الرضيع وقد افترشتْ الرصيف هي وبعض انواع الحشائش التي تبتاعها، ترشقها بالماء تارة و تلقم طفلها ثديها تارة اخرى، اخذ يصرخ باكياً بعد أن افلتَ ثديها الضامر؛ فلم يعد فيه ما يُسكتَ جوعه، اخذتْ تهزه بقوة ثم دستْ اصبعها في فمه محاولة اسكاته، يممتُ شطرها بعد ان سمحتْ لي الاشارة الضوئية بضوئها الاخضر بالمرور، لم يكن لي حاجة في الحشائش التي تبيعها، حتى أني بالكاد أعرف اسماء بعضها، لكنّ صوت الطفل اوجع قلبي، اقتربتُ بسيارتي منها ولم أترجل، ما أن فتحتُ النافذة حتى حيّتني بابتسامتها، رغم تجاعيد العمر التي حُفرتْ في وجهها و وجع الحياة الذي انهكها الى ان ابتسامتها شقتْ سماءً وأحيت ارضاً مقفرةً، نما ربيع على تخوم قلبي رغم حزني على حالها وعلى ما تركه بقلبي ذلك الطفل الذي يبيع العلكة، اخبرتها ان لا حاجة لي بالحشائش لكن لدي شيء لطفلها، قدمتُ لها مبلغاً صغيراً مع دمية من القماش كانتْ معلقة على الزجاج الخلفية من السيارة، نظرتْ الى المال و الدمية، و ثم رفعت يديها الى السماء و دفعت بسيلٍ من الدعوات النقية التي لم يدنسها النفاق، انسحبتُ من أمامها بسرعة فلم استطع ان اسمع صوتها المنكسر و لم اقوى على رؤية ماء وجهها يُراق أمامي، كنتُ خجلة من نفسي، شعرتُ ان حفرة هائلة تريد ابتلاعي، سألتُ نفسي: هل المال هو الشيء الوحيد الذي استطيع تقديمه؟

ابتعدتُ وصوت الطفل يرن في اذني، و كأن قلبي إجتثّ من صدري ورقد بجوار المرأة ينزف، استدرتُ الى شارع فرعي، تلفتتُ يمنة و يسرة باحثةً عن يافطة تدلني على المطعم الشعبي الذي كان أبي يأخذنا إليه عندما كنا اطفالاً، شعرتُ انّ من كان يشدني الى البلد هو وجه ابي و حضن امي. لقد كانت ذاكرتي البكر ممتلئة بهم، وهذا ما جعلني على قيد الحياة، اني أعْتاشُ على الذكريات، غمرني الحنين إليهم ، وباغتتني رغبة في البكاء، اريد ان اركض وارمي نفسي في حضن عمان و ابكي، و احدثها عن نشيجٍ في صدري يهزه و يتعبني منذ سنين.

توغلتُ في الشارع ثم أخذني الى طريق فرعي آخر، كان أقل اتساعا، يحوي عدداً قليلاً من المحال القديمة المتهالكة التي لم ترمم بعد، في مكان قصي معتم ثمة ثلاثُ نساء بدا عليهن بائعات هوا خرجن لتو من حانة،  يتمايلن في الطريق و يتبادلن سيجارة و ينفثن دخانها ثم ينصعن لتأثيرها  فيتضاحكن و يترنحن، انتبهن لوجودي، فوقفن كمن ينتظر أحدا، كانتْ  كل واحدة منهن ترتدي عباءة تشفّ عما تحتها من ثياب كشفتْ اجزاءً من جسدها، ارتعش قلبي من الخوف وآثرتُ الابتعاد حين اتجهن نحوي، لم اظنّ يوما اني سأرى شيئاً كهذا، عدتُ بسرعة للخلف و اخذتُ طريقاً أخر، بدأ السوق يعج بالأصوات و النداءات و الروائح، إلا أنّ رائحة الفلافل المقلي تطفو على السطح و تثير جوعي و حنيني في آن واحد.

توغلتُ في الطرق، بدا فارغاً معتماً بارداً موحشاً حينها ادركتُ أني اضعتُ الطريق، على بعد ثلاثة امتار تقريباً لمحتُ كومةً على الرصيف تتحرك، لم يكن واضحا لي ماذا يمكن ان تكون، رغم ما عُرفتُ به من شجاعة الا ان خوفاً غامضاً تسلل إلي ، كابدتُ خفقاً مباغتاً في قلبي، اخذتْ اصوات الباعة و ابواب المحال التي تُفتح تتصاعد، اطمأننتُ لعودة الحياة  من حولي وأنا في اكثر الزقاق ظلمة و قذارة، كانتْ رائحة القمامة تتقاطع مع رائحة الرطوبة، اغلقتُ النوافذ، ثم أطفأت المذياع  غاب مزاجي الهادئ الذي حفلتُ به هذا الصباح، خُيلَ إليّ أنه كلب يتكوم تحت قطعة من القماش البالي و الكرتون، اقتربتُ اكثر بسيارتي، سعل من كان تحت الكومة ، رجل! انه رجل في عقده السادس، يرتدي قبعة غطى بها عينيه، نحيل الجسد ضامر الوجه، قذر الثياب ورائحة البول تفوح منه، فرش امامه خرقة بالية تناثر فوقها خبز جاف عفن، لمم معطفه على نفسه سعياً للدفء، رفع رأسه ثم ازاح القبعة عن عينيه المحمرتين، فضحتْ ملامحه قسوة الحياة التي مرت به، زحفت الشمس رويدا رويدا الى كبد السماء، خطفاً تمرّ الصباحات بنا، بدا الظلام يزحف بعيدا، و اخذتْ ملامح الرجل تتضح اكثر، رغم وجهه المخيف الا انه يضج بالأسى و الانكسار، حافظتُ على مسافة آمنة تفصلني عنه، مسكتُ هاتفي النقال ابحثُ في محرك البحث عن موقع المطعم، (مطعم السعادة الشعبي) لم يُظهر اي نتائج، توغلتُ بالضياع اكثر فاكثر، كنتُ على بعد عدة امتار من الرجل الذي اخذ يلتهم كسرة خبز جافة بنهم، لمتُ نفسي، كيف لي ان ابحث عن مطعم و رجل مسن يأكل ما يجده على قارعة الطريق، كيف لي ان اترك جوعه و عطشه و عريّه امامي وارحل، كعارٍ سقط في حقل اشواك اخذتْ روحي من أقاصيها تتألم، رحتُ في نشيج مر وانا اضرب بكلتا يدي على المقود، فجأة سمعتُ طرقات على نافذة السيارة، رفعتُ رأسي و الدموع لازالت تسّح من عيناي، فوجدته يقف يحمل منديلاً و يومئ لي بأن افتح النافذة، ترددتُ في فتحيها، مضى وقت قصير قبل ان افتحها، لكنه بقي واقفاً ينتظر، فناولني المنديل، نظرتُ الى يديّه المرتجفتين من الوهن، ثم رفعتُ بصري اليه، قرات في عينيه الف رواية من التعب و الشتات، شكرته وانا امدّ يدي و اتناول المنديل، سألني إن كنتُ تائهة، فأجبته بنعم، ثم سألته كيف اصل الى الطريق العام، فدلني بكلمات قليلة واهنة، لكني لم اتحرك من مكاني، ظل واقفا ساهما بي، بصوت مختنق يقف على اعتابه البكاء سالته عن بيته، استدار ثم يمم شطر الزقاق بخطوات متمهلة واجابني بصوت شققه الأسى :

تحت هذه السماء فوق هذه الارض اسكن، لا اعرف العناوين ولا تعرفني.

ثم اختفى في فم الطريق، عيون قلبي انفجرت بالدموع، كنتُ اظن ان الصباحات تأتي لتطرد الليالي المظلمة، لم أكن أدرك ان في قلب كل صباح بقعة عمياء لا تعرف الضوء، كنت أكذبُ على نفسي حين كنتُ احدثها عن بهجة الصباح لم اكن ادري ان ثمة شموس تسطع بسوطها لتضرب به من اكل الزمان من اجسادهم وارواحه و شرب. ثمة نشيج يجيء من مكان قصي في روحي، ونيران تأكل ما كدّسته الذاكرة، لملمتُ رماد الذكريات وكأنني اشيع ابي وامي للتو، وعدتُ من حيث أتيت.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *