ربيعة جلطي .. شاعرةٌ ترتقُ أزرارَ الليل

ربيعة جلطي .. شاعرةٌ ترتقُ أزرارَ الليل

أحـمـد الـشَّـهـاوي

معرفتي الشعرية بربيعة جلطي ابنة الفلسفة والتصوف والتراث العربي والإنساني تعُود إلى ديوانها الأول
” تضاريسُ لوجهٍ غير باريسي”الذي صدر سنة 1981في دمشق . ولم أعُد أذكرُ الآن من أين اقتنيتُه ، وكُنتُ فرحًا به ؛ لأنها كانت الشاعرةُ الجزائرية الأولى التي أقرأ لها كتابًا شعريًّا ، فلم تكُن الكُتبُ الجزائريةُ تصل إلى القاهرة ، ولم تكُن ربيعة مثل ما هي عليه الآن تصدرُ أعمالها بانتظامٍ في المشرق العربي خصُوصًا سورية ولبنان ، وهي التي درست سنواتها الجامعيةَ في العاصمة السورية دمشق . وتوالت إصداراتها الشعرية وكانت هناك توقفاتٌ في مسيرتها تراوحت بين خمس وست سنوات من التوقف عن نشر الشِّعْر ، لكنَّ المدهش أنها منذ عام 2010 ميلادي ، وهي تصدرُ رواياتٍ بانتظامٍ ، بحيث صار المتنُ الروائيُّ غالبًا على النصِّ الشِّعري الذي اشتهرتْ به ربيعة التي تعرَّفت إليها في الجزائر ثم القاهرة ، فتونس ، ومدن أخرى بعد ذلك شاركنا معًا في مناسباتها الثقافية ، فمن أعمالها الروائية :الذروة، دار الآداب، بيروت، 2010،نادي الصنوبر ، 2011،عرش معشق، 2013،حنين بالنعناع، 2015،عازب حي المرجان2016، والروايات الأربع صدرت جميعها عن دار الاختلاف في الجزائر ، قوارير شارع جميلة بوحيرد، دار ضفاف، بيروت، 2018، قلب الملاك الآلي، دار الاختلاف، الجزائر، 2019، جلجامش والراقصة، منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، 2021 .
وكانت فرصة لي أن أقرأ ديوانها “النبية تتجلَّى في وضح الليل” الذي صدر في سنة 2015 ميلادية ، وهو ديوان في شكل قصيدة واحدة طويلة مُتعدِّدة المقاطع ، ذكَّرني بنصِّ الشَّاعر اللبناني أنسي الحاج (1939 – 2014) ، وهو أيضًا كان عبارة عن قصيدةٍ في شكل ديوان عنوانها ” الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” وقد صدر عام 1975 .
وديوان ربيعة جلطي مُهدَى ” إلى مكتبة والدي حديقتي الأولى ” ، حيثُ تعترفُ كثيرًا بفضل سنوات التكوين الأولى على مسيرتها ، وكان للأب الدور الأول والرئيس في أن تقرأ وتكتب ، وتسعى إلى المعرفة .
في هذا الديوان – الذي كلما أعدت قراءته منحك كشفًا جديدًا – تقدِّم رؤيةً ثانيةً لليل ، لا تشبهُ الرؤى السَّابقة عليها ، رؤية غريبة وعجائبية وسوريالية ، غير مسبوقةٍ حتى أنني رأيتُ أنَّ القسمَ الأول من الديوان ، يشكِّلُ كتابًا شعريًّا وحده ، من فرط جِدَّته وبُنيانه المُحكَم ، وشطح ربيعة وتجلِّيها وإشراقها وعفويتها ومغامرتها في النصِّ ، إنها خمسون صفحة في سياقٍ واحدٍ ، رأيتُها فتحًا للشاعرة ، وإضافةً جديدةً ل ” الليل ” ، ذلك الليل الذي لا نعرفهُ ، حيثُ صار على يديها إنسانًا من دم ولحم ، وربيعة جلطي كأسلافها العرب تحبُّ الليلَ ، وتتخذه أساسًا في نصِّها وحياتها ، حتى أنها تدعوه ليشاركها ما تحبُّ : ” تعال نكتبْ أيُّها الليل ” .
لا تحب الشَّاعرة العقل البارد للغة ، وهي مثل الليل تستاءُ من ميُوعة اللغة ، فجاءت جملتها مشدُودة ، ومتخلِّصة من الأثقال ، ودالة على ما تحملُ روح الشَّاعرة ؛ فهي تكتبُ من مقام الوهج والوله والوجع.
ومن نصُوص الجزء الأول من القصيدة الديوان نقرأُ :
” الليلُ أيضًا يخافُ الظَّلامَ
جاحظ العينين يبيتُ
حتى تشعلَ الأرضُ قناديلَها
فينام “
” أيُّها الليلُ الحالكُ ، نجومُك تلك أم رَصاصٌ طائش”
” الليلُ الحزينُ ، يفتشُ جيوبَه عن قطعةِ نهارٍ ؛ ليمسحَ دموعه “
” ياليل
حكيمةٌ هاته الياء التي تجلسُ بين لاميْك / منذ أمدٍ ، تصالحُ بينهما “.
“مثل جنرالٍ مهزُومٍ
يخلعُ الليلُ نجومَه “
” الليلُ
عينُ النهار المغمضة “
فليل ربيعة له ” أكمام وجيوب واسعة ” ، حيثُ ” النوم .. أخطرُ الرياضيات ، تدرُّبٌ يوميٌّ على الموت “
في هذا الكتاب الشعري نحن أمام صوتٍ باحثٍ مُغامرٍ مبتكر مجازف بالكلمة التي تأخذ لونًا آخر وعلاقات جديدة ، بحيث يتم إنتاج نصٍّ مغاير وحي ، يذهبُ هذا الصوتُ الشعريُّ بعيدًا بخياله ، خالقًا عوالمه الأسطورية ، قلقًا من زمانه الوجودي ، ومُستفيدًا من خبراته ومعارفه ورحلاته ، طازج في التشكيل ، حتى أنَّ التخييلَ نال رتبةً أعلى مما ينتظرُه مُتلقٍّ وعارفٍ بتجربة الشَّاعرة ، مُؤمنًا بأن ” بعض الحقيقة فيما لا ندركُه ” .
يخطفُ الحدسُ الشاعرةَ لتصيرَ حكيمةً ، كأن من واجب الشَّاعر أن يجدَ الحلول ، لا أن يطرح الأسئلة .
يلحظ قارئُ الديوان تعدُّد المستويات في اللغة ، التي تنتقلُ بخفةٍ بين لغة الباطن والخيال الشَّاطح ، و بين لغة السَّرد التي تهيئ للشِّعر أن يبدأ القول ، مُستخدمةً اشتقاقات وتراكيب ؛ كي يصيرَ النصُّ لوحة بانورامية يشبهُ العمل الأوبرالي أو الملحمي .
وتسرِّبُ الشاعرة سيرتَها الشخصية ومواقفها ورُؤاها وتفاصيل حياتها وشُؤونها الصَّغيرة داخل النص ، تنحازُ إلى ذاتها وذات الإنسان الذي تتوجَّهُ إليه ؛ لأن الشِّعر لديها هو الحُرية ، والحرية هي أن يكتبَ الشاعرُ أو الروائي كما يعيشُ ، هناك اتساق .
تحبُّ ربيعة أن تحتكمَ إلى التجريب ، حيثُ تنقلُ مفردتها من حيزٍ تقليديٍّ متعارف عليه إلى فضاءٍ ثانٍ مختلف وغير متوقَّع بحيث تتحرَّرُ المُفردة من سجنها المُعجمي وتأخذُ وضعَها الجديدَ في نصِّ ربيعة جلطي
ففي هذا الديوان تتحدَّث الشَّاعرةُ إلى كائناتٍ غير مرئية ؛ وتكتب هذا الحديث الباطني بشكلٍ غير تقليديٍّ مؤمنةً أن النصَّ الشعريَّ ما هو إلا عنقود من الصور .
ربيعة جلطي تكتب انحيازها مُتخلِّصة من الشِّعار والأيديولوجيا التي إن حضرت تكون شفيفة في خلفية الجُملة حيثُ لا زعيق ولا هتاف . فلم تفقد صوتها ولا قناعاتها السياسية .
إنها شاعرة تحدَّت وقاومت بالكتابة ، في وقتٍ توقف فيه أغلب الرفقاء عن الكتابة ، وأغلقوا أبوابَهُم وانسحبوا وتقوقعوا ، خصوصًا في سنوات ” العشرية السوداء “

* عن نصف الدنيا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *