محمّد طمّليه: كتابة قلقة ومُقلقة

(ثقافات)

كتابة قلقة ومقلقة

 

يحيى القيسي

 

 

منذ قرأت النصوص الأولى لمحمد طمليه وأنأ أشعر بانشدادٍ عجيب إلى طريقته السرديّة الشائقة التي تورّط القارىء في النص من أول كلمة إلى آخر نقطة، وبنفَسٍ واحدٍ لاهثٍ، فهو يكتب نصوصاً مُتوهجة، نابضة بالحياة ، و قصيرة مثل نصل خنجر لتغوص عميقاً في العظم كما قال الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف، إذ  ينثال سرده  حارَّاً،  له مذاق حرّيف، لاذع.

دوما أشعر  بأنّ نصوصه مُفخَّخة، مليئة بالدلالات، والصور.  تجرّ القارئ إلى عوالمها المُشظّاة، ثم تنسفُ طمأنينته بلا هوادة، ولا سيما عند الانتهاء من النص بشكل مباغت،في قفلة حادة تشبه حالة الضغط على الزناد، أو سحب الحزام ليتفجّر بمن يحمل، وهي استراتيجية لئيمة، وأنا هنا أستعير لغته التي أُحب، إذ  يتبّعها الرجل ليكتب نصوصاً مختلفة ومغايرة للسائد، وتكون النتيجة نصَّاً شديد التكثيف، شديد المُخاتلة، يقول ويواري، للعوام منه نصيب، وللقارىء الذكي حصته أيضا في معادلة السهل الممتنع، وما أندر النصوص التي تضجُّ بالحياة في مقابل النصوص المعلّبة، البلاستيكية الروح التي تزدحم ُبها مجلاتنا وصحفنا، وكتب أدبائنا..!

  من الواضح أنَّ طملية كان يكره التكرار والاجترار، والنصوص التي عفا عليها الزمن، ولهذا ينزاح بالكلمات العادية نحو تعابير جديدة أو يزاوجها بكلمة أخرى لأول مرّة وهنا تشحن هذه الكلمات بطاقة تعبيرية جديدة،وهي استراتيجية لا يتقنها إلا كبار الأدباء.

ذات مرَّة قرأتُ له مقالاً قصيراً يختصر سيرة حياته، ويشير إلى ذلك الخراب الذي أحدثه انشغاله بالأدب دون غيره، إنَّه مقال ساخر بامتياز يدين مرحلة كاملة، ويؤشر على طرائق التفكير التي كانت سائدة إلى حدّ بعيد عند الأدباء العرب المُقلدين لسير الكتاب الغربيين الصعاليك، والناشرين القلق بشكلٍ خارجي في لباسهم وشعورهم وسلوكهم على أساس أنّه من مكمّلات الكاتب المتمرد، يقول طمليه في هذا النص الذي حمل عنوان خراب:

 ألوم التالية أسماؤهم : المدعو ديستويفسكي.. المدعو لوتر يامون… المدعو البير كامو.. المدعو كافكا… و سيئ الصيت والسمعة المدعو بيرون . ألومهم بل إنني مزمع على  زيارة أضرحتهم من أجل أن أُعلّف الدود الذي لاك لحمهم .. قسماً أن أبصق على تلك القبور، وأن أهتف بملء حنقي : حلت عليكم اللعنة أيها الرعاع …!!

لماذا ..؟

لأنهم أقنعوني أنه يتعين على الشخص الموهوب أن لا يكترث بشيء: الشهادة الجامعية ،الوظيفة ، الزوجة .. كلها مظاهر من مظاهر الهراء، وأنَّ الرصانة، والوقار، والحكمة هي مفاهيم تناسب الأشخاص الداجنين، والطامحين في شيخوخة هادئة ( بكل ما في هذه الشيخوخة من بلغم ) .أقنعوني أنّ بإمكان المرء الموهوب أن يدهن مقدار ملعقة من الغيم على كسرة من الخبز ويأكل، وأن يعصر مقدار كوب من الوهج ويشرب ،وأن يفترش مقدار غابة من الزغب تحت إبط عصفور وينام …!!.

 

 ولكن السؤال المحير هنا تلك الرسالة القصيرة التي كتبها طمليه قبل رحيله لأحد أصدقائه أنه إن عاد إلى الحياة مرَّة أخرى فإنه سيختار السيناريو نفسه، اي الصعلكة النبيلة، والكتابة وحتى مرض السرطان،وهكذا يبدو أن لعناته التي أطلقها هنا قد ذهبت أدراج الرياح ..!

  • نشر المقال في نوفمبر 2008 بمجلة عمّان

شاهد أيضاً

فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“

(ثقافات) فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“ بقلم: إدريس الواغيش في البَدْءِ كان جمال الطبيعة وخلق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *