“بعد الحياة بخطوة” للقيسي: روايةُ الأمل في عالم المستقر

“بعد الحياة بخطوة” للقيسي: روايةُ الأمل في عالم المستقر

  • ميسر السردية

يصفُ أستاذُ النقد محمّد برادة الرواية “إنّها التوتر والمتعة ‏والوهم والحقيقة والتصدع والتوحد وارتياد عوالم التصوف في ‏رحلة لا تنتهي، تحكيها الرواية الملتصقة بالإنسان وأحلامه” ‏وبذا تكون قيمة الأدب وروعته بمقدار قدرته على خلق واقعٍ ‏خياليّ أحسن من الواقع المعيش حيث العدل والسعادة.‏

في اللحظة الأولى عند تناول رواية يحيى القيسي “بعد الحياة ‏بخطوة” ترد إلى خاطر القارئ بأنّه سيجد شيئًا من إيحاءات ‏‏”رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، و”الكوميديا الإلهيّة” ‏لدانتي، و”ما بعد الحياة” لكولون ولسون، وقصيدة “الرجال ‏الجوف” ل ت.س إليوت. إلّا أنَّ الرواية تُشكّل حالة من ‏عتبات الفكر الصوفيّ وتجلياته وانثيالاته، وبشكل عام هي ‏أقرب إلى ما ورد عن ابن عربي في “الفتوحات المكيّة”.‏

الاشتمالية البنائيّة والشكليّة

الكاتبة والإعلامية ميسر السردية

تُعتبر ثيمة الموت وما بعد الحياة البؤرة الرئيسة في بناء الرواية ‏المرتكزة على استلهام الفكر الصوفيّ، والتراث الديني والثقافيّ، ‏وطرق أبواب جديدة بعيدًا عن التبسيطيّة، وتسجيل وقائع ‏وتواريخ واستثمار مادة من عوالم تُعد شبه مجهولة، وتحتمل ‏رؤى متعددة، وانطباعات مختلفة لدى البشر على مختلف ‏دياناتهم وأساليب إيمانهم، وحتى ثقافاتهم شرقاً وغرباً.‏

في “بعد الحياة بخطوة” التي نستطيع تقسيمها إلى جزأين، ‏الأول: العروج في رحلة مقاربة الموت، والثاني: العودة إلى ‏الحياة، تتجلّى حوارية تستجلي عمق الأشياء عبر حوار موزع ‏على عدة شخوص للغوص في أعماق الوجود والوعي ‏والتصارع مع الذات والغير، بواسطة المتخيل الغيبيّ في لغة ‏تسيطر عليها عدةُ أصواتٍ أرضيّة وعلويّة في فضاءات ‏وعتبات متعددة؛ فنجد الصوت المونولوج بوضوح في حالة ‏الاسترجاع وارتداد الذاكرة، إضافة للصوت الصامت المتمثل ‏بالتخاطر والصورة والإمارة مرةً، ومرةً أخرى عبر المحكي ‏المباشر في العوالم الغيبيّة، والصوت عبر اللغة المتعددة على ‏لسان المحيط الاجتماعي الأرضيّ، وفي كلا الجزأين تكون ‏اللغة الحسّية الشعرية؛ ضرورة اللغة الصوفيّة – غالبة في ‏تصوير المشاهد التأمّلية عبر مختلف فضاءات السرد التي  ‏يتلازم في بعض نقلاتها الزمكان “كونتوب” واللازمان – في ‏ذات السياق تشكّل “الباروديا” المحاكاة الساخرة عبر توظيف ‏الأمثال والحكم والشعر واضحة المعالم، وخاصّة في الجزء ‏الثاني حيث معاناة “الشخصية الرئيسة” حاملة رسالة الأمل ‏لأهل الأرض التي ترى أنّ الموت ليس فناءً “من التراب إلى ‏التراب” إنّما رجعة سعيدة إلى رحمة ” الحبيب” ورضوانه.‏

شخصيات رئيسيّة وثانويّة

الشخصيّة الرئيسة حاملة القضية هو معلم مدرسة بعمر ‏الأربعين يتعرّض لجلطة دماغية في الغرفة الصفيّة، ويُنقل ‏على إثرها إلى المستشفى ونتيجة خطأ طبيّ بزيادة جرعة ‏التخدير يدخل في غيبوبة يفقد فيها الإطباء أملهم بعودته إلى ‏الحياة.‏

هُويته الشخصيّة “معلم” وهنا يقدّم نفسه طيلة الرواية كصاحب ‏رسالة معرفيّة توجيهية تحاول أن تصحّح أفكاراً مغلوطة لدى ‏العامة، ومردُّ معرفته تلك يعود لتعمقه بالفكر العرفانيّ ‏الروحانيّ.  يتضح ذلك في لازمة سن الأربعين ومكانته ‏التأويليّة (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي ‏أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ‏وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ‎ (15)‎‏)  15 – الأحقاف.‏

الشخصيّة البؤرية هو الجدُّ علي الذي توفي قبل ولادة السارد؛ ‏كان مزارًا لأهالي القرى للتداوي على يديه من خلال الطب ‏البديل والرقى والكرامات التي ورثتها ابنته فيما بعد، وقد أطلق ‏الناس على عائلته لقب “الفقرا”. وهي درجة صوفية أيضًا، ‏وطابع مركزيّة الشخصيّة هذه يعود لتأثر السارد به حيث أطلق ‏على ابنه البكر اسم جدّه علي، إضافة إلى اعتباره ممن تمكنوا ‏من الوصول الصوفي في الترقي للعتبات العليا، فذكره وأخبار ‏كرامته متوارث في القرية، وهو من يرافق معلمنا من لحظة ‏وصوله إلى العالم الآخر، ويشرح له المكنونات والتجليات ‏الغيبيّة، ويظل الجدّ حاضرًا بدرجات متفاوتة ومتقطعة طيلة ‏السرد، وفي جميع الفضاءات العلوية والأرضية.‏

الشخصياتُ الثانويّة تنقسم إلى قسمين: فاعل بقوة وفاعل ‏متوسط، بغضّ النظر عن مكان الحركة سواء أكان ملكوتيًا ‏كالأم التي رحلت جراء مرض السرطان، وعادة في العالم ‏الآخر لحالة الشباب أو الأخت مريم التي رحلة طفلة، وأيضًا ‏صارت شابّة في دلالة على عدم توقف نمو الحياة وتواصلها، ‏وإن بصورة أخرى في تلك العوالم.‏

‏ كذلك “عبدالله” ابن خال الشخصيّة الرئيسة الذي مات بمرض ‏السّكّري، والصديق الصحفي “محمود” الذي راح ضحية العمل ‏الإرهابي في انفجار فنادق عمان 2005، عندما كان يجري ‏حوارًا مع المخرج الكبير “مصطفى العقّاد” إضافة للوكيل تلك ‏الشخصية الغيبيّة الغامضة التي تشكّل همزة الوصل بين سكان ‏عتبات حياة ما بعد الموت، وبرزخ البرازخ حيث “الحبيب”، ‏وتشرف على مختلف تفاصيل المعارف والحيوات.‏

أمّا شخصيات العالم الأرضي فهي “الأب”  السبعيني الذي ‏أصرّ على الزواج بعد وفاة أمّ السارد، وهناك “الزوجة” معلمة ‏المدرسة المتّصفة بالسلبية تجاه تجربة زوجها، وهناك الشاعر ‏الصحفي “فرحان” الحافي الأناني، وثمة مُعدّة البرامج “مايا” ‏وهي أوّل من شكّل حالة إيجابية في قصّة تصديق مشاهدات ‏العالم الآخر، والتي تنهي حياتها بطريقة غامضة، كما هناك ‏شخصيات المجموعة الروحانيّة المهتمة بالاطّلاع على تجربة ‏مابعد الانتقال، ينبع ذاك الاهتمام إمّا عن تجارب شخصيّة أو ‏عن بحث عن شعاع أمل. وأبرز شخوص هذه المجموعة ‏المهندس المعماري الذي لا ييأس من محاولة المساعدة في ‏إيصال رسالة الكشف والأمل عن ما بعد الموت.‏

الفضاءات الرئيسة والعتبات الفرعيّة

تشكّل القريةُ الفضاء الأوّل من خلال عمليّة ارتداد الذاكرة في ‏مرحلة الغيبوبة الأولى حيث يبدأ السّارد بتذكر أدقّ تفاصيل ‏حياته الخاصّة ومحيطة القروي في مراحل تطوره كافّة، من ‏خلال عدّة عتبات تفصيليّة، ويكون وصفها عن طريق اقتصاد ‏السرد وتكثيفه في كلمات وجملٍ قصيرة، يكون توثيقها أشبه ‏بنبضات القلب، أو حركة نقاط الجلوكوز المتّصل بوريده وهو ‏في غرفة العناية المركزة.‏

العتبات

‏  عتبة البيت التي تستشعر منه نكهات الطعام من خلال ‏تعداد أصنافه؛ المجدّرة والزلابية والهريسة، سليقة القمح، وروائح ‏الصابون، ومعجون الأسنان بماركاته القديمة. فضلًا عن ‏الحشرات، والتحطيب، ومكوّنات الدّكان في القرية، ومواسم ‏الزراعة، الأفراح، والأغنيات الشعبيّة، شقاوة الأطفال، ‏وارهاصات المراهقة، ومرادفة موس الكباس، ومجلات أجنبية، ‏وصور النساء، وأحاديث الفتيان، وتجارب فترة البلوغ، المذياع ‏والتفزيون ومقالب غوار، طقوس موت الجدّة، وابن الجيران ‏الذي راح ضحية انفجار لغم، وتطور مُبسّط لتاريخ القرية ذات ‏البيوت الطينيّة من خلال تطور أدوات وسبل المعيشة.‏

‏  عتبة التعليم التي تنقسم إلى قسمين ينزّان في دفقات ‏الاسترجاع أو الانثيالات الحارّة في كلا الغيبوبتين مثل: ‏المدرسة والجامعة في الغيبوبة الأولى حيث يصوّر المدرسة ‏في طفولته والطلاب وفقرهم، ومحيط المدرسة والأساتذة، وحنق ‏التلاميذ والمناهج التلقينيّة، وقلّة الإمكانيات، في حين يتذكر ‏المدرسة في الغيبوبة الثانية بصفته معلمًا مثل: غبار ‏الطباشير، بلادة التلاميذ، مقصف المدرسة، مفتشي وزارة ‏التربية والتقارير الظالمة، الجهد الضائع.‏

أ

مّا عتبة الجامعة ففيها تتوسع المدارك وتتميّز بحشد الأفكار ‏الأيديولوجيّة على المستويات كافّة، فتظهر أسماء الشخصيات ‏الجدليّة والمنظمات والأفكار على الساحة العامة: صدّام ‏والخُميني، القذّافي والسّادات، جبهة شعبية.. ديمقراطية.. ‏قوميون.. فتح.. (…) ومظاهرات، كامب ديفيد، الفكر المقاوم ‏من خلال ذكر قصيدة شاعر الرفض أمل دنقل “لا تصالح”، ‏الفكر التكفيري متمثلاً بأبي قتادة زميل الدراسة.‏

هذه العتبة الأرضيّة تُقابلها عتبة جامعة في العوالم العلوية ‏حيث تختفي كل هذه الأفكار والمصطلحات، فيما تبرز ‏الأبحاث والدراسات التي يجريها من انتقلوا إلى هناك لإفادة ‏سكان الأرض مرةً أخرى عن طريق الإلهام والإرشاد والتنبؤ  ‏وإعمال التأمّل والتفكّر.‏

الفضاء الثقافيّ والإعلاميّ

تستمر الروايةُ بتوصيف الفضاءات العامة من خلال عملية ‏الاسترجاع في التذكّرات وصوت المونولوج والصوت المُباشر ‏لسارد الحكي؛ سواء أثناء الغيبوبات أو الاحتكاك بالآخرين ‏برصد المشاهد المرئيّة، أو المُستلهمة، وتقديم مقارنات ‏مقصودة بين عوالم عليا وأرضيّة ماديّة.‏

عتبة الثقافة تتشكّل ملامح ثقافة الشخصيّة الرئيسة من القريّة ‏حيث تبدأ مع الاطلاع على المجلات المختلفة ثم تتصاعد فترة ‏المراهقة بقراءة أدب تأسيسي متنوع: العقّاد ومصطفى محمود، ‏المتنبي وإحسان عبد القدوس، وارتياد دور السينما، تتصاعد ‏حالة الثقافة في تذكرات الغيبوبة الثانية بسرد عدد من أسماء ‏الأدباء والشعراء وأمّهات الكتب العالميّة.‏

وفي المقارنة مع الما وراء يسرد رؤاه؛ فهناك المسارح ‏والموسيقى، وأمّ كلثوم وأحمد شوقي والحلاج وشكسبير ‏ودافنشي، وغيرهم في عالم الجنّة والمحبّة.‏

لاحقًا؛ وبعد الاستفاقة يؤلّف كتاب “الرؤى والأسرار” حيث ‏يصف فيه ما شاهد من مخفيات، وما أُوكل إليه من رسائل، ‏كما يورد في الكتاب عدّة فصول متنوعة عمّا يرغب الناس ‏معرفته مما خُفي عنهم.‏

عتبة الإعلام عتبة ناقدة ومحبطة، حيث يزور صديقه الشاعر ‏المثقف “فرحان الكافي” في الصحيفة لإهدائه كتابه؛ علّه يجد ‏طريقه للإشهار من خلال العرض والنقد في الصفحات ‏المختصّة بالأدب، ويتم ذبح الكتاب بالانتقاص من قيمته ‏المعرفيّة والأدبيّة لاحقًا، في إشارة للقراءة السطحيّة والأنانية ‏داخل أجواء شبكة المثقفين الذين كما يتضح تسيطر عليهم ‏المصطلحات الأيديولوجية والاستعراض اللغوي.‏

في مواجهة ذلك تأتي مقارنة حالة الصحفي “محمود” الذي ‏التقاه السارد في النعيم، ومحمود كان صاحب رسالة صحفيّة ‏إذ يكشف الفساد، ويدافع عن العدل وحقوق الفقراء. ‏

إضافة لنقد حالة طباعة الكتب ودور النشر والتوزيع، ينتقد ‏طريقة إعداد البرامج الحواريّة ومقدميها، وآلية اختيار ‏المشاركين فيها، وتلقي الناس للمادة الإعلامية، ومن خلال ‏تجربته الشخصية حيث يركّز أهله ومعارفه فقط على مشاهدته ‏في التلفزيون ولم يلتفتوا لفحوى البرنامج، وفي هذا السياق يُكثر ‏من “الباروديا” عبر عدة تشبيهات مثل إسقاطه على الحالة ‏قصّة الكاتب تشيخوف “النشوة”، “على من تقرأ مزاميرك يا ‏داوود”.‏

فضاءات العروج إلى المواطن الأصليّة

يُقسّم “ابن عربي” مراتب الوجود إلى ثمان وعشرين مرتبة تبدأ ‏تصاعديًّا من مرتبة المراتب وحتى النهاية حيث العقل الأول ‏‏”القلم”، ويحتاج التّسامي النفسي للمريد إلى تشرب وتيقّن هذه ‏المراتب وما يقابلها من الأسماء الإلهيّة، والحروف الرمزيّة، ‏حتى يصل إلى مرحلة الكشف والترقّي والوصول.‏

ويستندُ العروجُ والكشفُ في الرواية على شحصية الجدّ العارف ‏الذي وصل لأعلى المراتب، وصار ملهمًا ودليلًا للحفيد الذي ‏دخل في غيبوبة، وظلّ معلقًا ما بين الموت واللاموت، والزمان ‏واللازمان، مرتبطًا جسده الأثيري بالمادي بواسطة “الخيط ‏الفضّي” حيث يعود لوعيه الفائق أحيانًا ليستمع ويرى ما يدور ‏في المستشفى بين الأطباء وبين ذويه، دون مقدرته على ‏التحدث معهم، ثم يعود مراتٍ أخرى للكشف عن عوالم ما بعد ‏الموت بمرافقة أخته وأمّه وجدّه وآخرين، ومن خلال هذا ‏التناوب يصوّر لنا العوالم التي تنتظر المنتقلين إلى دار البقاء ‏في فضاءات الممر والمُستقر والحضيض، في صورة تقريبيّة ‏تأويليّة عامّة، أقرب ما تكون لما ورد في القرآن الكريم، ‏وخاصة في سورتي الأعراف والواقعة.‏

فضاء الممر

يُشكّلُ هذا الفضاءُ مرحلة انتقالية ما قبل الولوج إلى الحياة ‏النهائيّة، وفي هذه المرحلة يمرّ المرء بحالة من الاسترخاء ‏والراحة، “مرحلة التقديس في المخيال الشعبي الأردني في ‏القرى لمن يمرون في حالات الغيبوبة” يصف فيها مكونات ‏البيئة، التراب والعربات والحيوانات والناس، حيث يلتقي بأهلة ‏وجدّه الذي يتولى دور المُجيب على التساؤلات، ويروي شغف ‏المعرفة للسارد من خلال لغة تخاطر الأفكار والصور واللغة ‏المباشرة أحيانًا، وفي هذه المرحلة تُجرى التّجارب كما عرف ‏من “عبدالله” ابن خاله، تُجرى على الأدوية وتطبيقها على ‏أجساد من هم في الممر، كما حالته في المستشفى ومحاولات ‏الأطباء لإفاقته، وذلك كله عن طريق الإلهام والإرشاد.‏

فضاء المستقر

ينتقلُ إلى المستقر بمعيّة جدّه وعائلته ويرى بيتهم حيث ‏اللازمان، لا ليل ولا نهار ولا حرّ ولا برد، وفي هذه المرحلة ‏يطّلع على كثير من الأسرار والمعارف عن طريق مشاهداته ‏وإجابات جدّه الذي يسكن الطابق الأخير في العمارة إشارة ‏لمكانته، فالبيوت من الأحجار الكريمة التي يسهب في تعداد ‏أصنافها وأنهارها ومشاربها ومأكلها وطبيعة ترابها الذي تنبعث ‏منه الروائح العطريّة والفواكة والزهور، حيث يضيق المكان عن ‏وصف أشكالها. وكما قال النفري: “كلما اتّسعت الرؤية ضاقت ‏العبارة”‏

أمّا الناسُ فهم أكثر إشراقاً من أهل الممر، تعرف مراتبهم من ‏خلال هيئاتهم وثيابهم والنّور الفائض من بشراتهم “نورهم يسعى ‏بين أيدهم” كما يعرف هؤلاء موعد انتقال أقاربهم من الأرض ‏الماديّة إلى عالمهم، وذلك ما قد تفسره الرؤيا للشخص ما قبل ‏الموت، وما قد ينطبق على من هم في العوالم الأخرى بتأويل ‏‏”فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد” 22 ق.‏

‏ كما يخبره الجدُّ بأنّ هناك مرشدين وحفظة لمن هم على ‏الأرض، يرافقونهم ويوجهونهم عن طريق الإلهام( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ ‏عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا ‏يُفَرِّطُونَ‎ (61)‎‏61 الأنعام.‏

أمّا أهم ما يميّز سكان المستقر فهو تخلصهم من الأحقاد ‏والحسد والخبث، ولديهم حقيقة الإيمان الصادق من الداخل ‏وليس الظاهريّ فقط، وهو ما يحيل إلى مفهوم” الطهارة ‏الثمانيّة” في الفكر الصوفي ” طهارة  الجوارح ” “اللسان والقلب ‏والفرج واليد والرجل والبطن والعين والأذن”.‏

رأى في المستقر أُممًا شتّى من أهل الديانات المنزّلة، ومن ‏غيرهم، وأُناسًا توقّع أنّهم يتلظّون بنار جهنم، كما كان يسمع ‏في الأقوال والمواعظ التخويفيّة الأرضية التي تصادر مفاتيح ‏رحمة من بيده وله يُرجع الأمر كله. قد يكون ذلك إشارة إلى ‏مفهوم حقيقة النسبيّة في طبيعة الإيمان كما رأها بعض رواد ‏الصوفيّة.‏

فضاء الحضيض

يظلُّ شغف الأسئلة مهيمنًا على الجوّ العام، فنجد السّارد يرغب ‏بالاطّلاع على المكان الذي تُعاقب فيه الفئة المحرومة من ‏الخلود في المستقر، يوافق جدّه بعد موافقة “الوكيل” بالطبع، ‏وضمن شروط؛ منها عدم البوح بما سيرى هناك بعد عودته ‏إلى حياة الأرض. يدخلون الحضيض بصورة تنكريّة، يصف ‏مشهديّة مخيفة، حيث الأرض بركانيّة صخريّة كبريتيّة تفوح ‏منها روائح كريهة. تتناثر على سطحها أكواخ بائسة وأناس ‏بأسمال بالية وشعور شعثاء، يتشاتمون ويتلاومون. يُخيّل إليهم ‏وحوش تأكلهم ونيران تصليهم. رأى من بينهم الحكام ‏وحاشيتهم، والقتلى والمفسدين في الأرض واللصوص ‏والمغتصبين، وبعض من التكفيريين الذين فرّقوا بين الناس ‏وأدّوا بهم إلى الاقتتال.‏

الخروج من الحضيض ليس مستحيلًا، ولكنّه مشروط بإصلاح ‏النفس إصلاحًا ليس خطّيًا إجباريا من الأعلى، وإنّما ينبغي أن ‏يكون نابعًا من الرغبة في التغير، فهناك ضوء في آخر النفق،  ‏بعيداً عن التجبّر والتكبّر والحقد والشّرور مع ضرورة الإقرار ‏الإيماني، والإشارة هنا إلى الحديث الشريف الصحيح الذي ‏ترتكز عليه الصوفيّة في عدم تكفير الناس “من مات وهو يعلم ‏أنّه لا إله إلا الله دخل الجنة”.‏

خاتمة الأمل

رغم كلّ محاولات السارد، ورغبته بقطع الخيط الأثيري الذي ‏يربطه بجسده المسجّى في غرفة العناية الحثيثة لمواصلة الحياة ‏الهانئة اللذيذة في العوالم الأخرى، إلا إنّ جدّه والوكيل يخبرانه ‏بأنّ وقت وصوله إلى مرحلة النفس المطمئة لم يحن بعد، وأن ‏عليه العودة ومواصلة رسالته في بثّ الأمل في النفوس اليائسة ‏والخائفة والمكتئبة، التي يكابد بعضها متلازمة حزن ما بعد ‏وفاة أحبائهم. في الوقت ذاته لا يستطيع السارد رغم كلّ ‏محاولاته بطرح الأسئلة الحصول على الجواب الشافي بمعرفة ‏المزيد عن “الحبيب”، فهذه من الأسرار التي يخبره صديقه ‏‏”عبدالله” أنّها موقوفة فقط على العارفين الواصلين لنهايات ‏مراتب المعرفة والتجلي.‏

يعود معلم المدرسة إلى الحياة من جديد، بصورة أقرب إلى ‏المعجزة في نظر الأهل والأطباء الذين فكروا في لحظة بنزع ‏الأجهزة عنه لعدم وجود فائدة تُرجى، وتوفير في الفواتير على ‏أهله من جهة، وعلى موازنة المستشفى من جهة أخرى.‏

بعد أيام الاستشفاء يحاول بثّ وصية جدّه ومن التقى بهم في ‏الملكوتات العلوية، إلّا إنه يواجه أول الإحباطات من والده ثم ‏من سخرية زوجه ومحيطة. الجميع يقنعونه بضرورة مراجعة ‏طبيب نفسي، وأنّ كلّ ما يراه ليس أكثر من إيهامات جراء ‏الغيبوبة والمحاليل الطبية وضرب من أحلام وكوابيس.‏

يستمر في إصراره على نشر رسالته عن طريق مجموعة من ‏المهتمين والمؤمنين في وجود حياة أخرى أجمل من حياتنا على ‏الأرض. يبدأ بالتعاون مع صديقه الجديد المهندس المعماري ‏المؤمن بتجربته، بعقد النشاطات والمحاضرات  للتحدث عما ‏رأى من حقيقة لا يصدقها بعضُ الناس الذين يرون الموتَ ‏نهايةَ الرحلة وخاتمةَ الوجود.‏

كثيرةٌ المواعظ والجمل التي تستحق التوثيق في هذه القراءة ‏ولكن سأختمها: ” تخفّف من أحمالك حتى تسطيع الصعود ‏دون صعوبة، واجعل همّتك نحو الأعالي”.‏

‏- – – – – – – – – – – – ‏

•بعد الحياة بخطوة – رواية – المؤسسة العربية ‏للدراسات والنشر 2018.‏

  • عن مجلة أفكار 2022

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *