اوسكار العجوز

أوسكار العجوز

 

قصة قصيرة

تأليف: كونستانتين باوستوفسكي

ترجمة عن الروسية: عدنان مدانات

 

كالعادة، اتسم الحديث مع الملحن العجوز في مقهى مظلم بشعور من المرارة. كان العجوز في كامل قواه رغم أنه في الستينات من العمر. يستذكر وهو يبكي، حين يكون سكرانا، سنوات خدمته – كان مدرسا للغة الألمانية في إحدى المدارس – ويحاول أن يدس خفية في كمه صفحات نوتة موسيقية ألفها.

لقد كتب أوبرا رائعة، لكن ما من مسرح وافق على إنتاجها، بالرغم من أن العجوز كان يؤكد أنها ليست أسوأ من اوبرا “تريستانا” لفاغنر.

-أنظروا إلى أصابعي! – يصرخ ويهز رأسه بأسى.

-هذه الأصابع للأوتار والمفاتيح. آه يا هاينريش هاينه،[1] هاينريش هاينه، لماذا مت قبل الأوان؟ أحب حياة الغرب القديمة، أولئك الناس القادرين على الضحك ويفهمون الموسيقى. حتى أنني أحبكم كلكم رغم أنكم في المدرسة كنتم تهزئون من نوفاليس. قلت لكم مئات المرات: “لا تتعلقوا بالحياة. تجولوا، كونوا من المتشردين، اكتبوا القصائد، أحبوا النساء، لكن تجاوزوا الناس الرصينين مسافة حيين”.

شربنا النبيذ المز بصمت ودخنا. كانت المدينة الجنوبية تضج تحت نجوم أيلول البيضاء.

جاء ستاشيفسكي – واثقا وساخرا. ابتسم الرجل العجوز بتعب وصمت.

-ألق وعظمة الحياة! – قال ستاشيفسكي فجأة، وهو ينفث سحبا كثيفة من الدخان. وكرر: “ألق وعظمة الحياة”، وصمت. قال بطريقة متقطعة. كان الربط بين كلماته مستحيلا بالنسبة لشخص لا يعرفه جيدًا.

-اوسكار! – صرخ بحماس. –اوسكار، أكتب أوبرا بحيث تنبض بالحياة في كل لحظة. افهم، الحياة حمقاء، تصرخ مثل الببغاء في القفص. وماذا، هل الموضوع سيء؟ أرسل زوجاتك بثيابهن القطنية إلى الجحيم، اهجر جزر الكناري وارحل إلى فيينا. هذه المدينة مناسبة لك. اشرب هناك، ابك على مصير العاهرات، تسكع في الأسواق، ارجع إلى غرفتك في الفجر مع روائح الزهور والملفوف، -وستكتب اوبرا رائعة.

ارتجفت يدا اوسكار.

-هو سكران، – قلت بهدوء وأبعدت الكأس عن ستاشيفسكي.

-من الغباء الجلوس هنا. تمتص الكونياك الممتلئ بالحشرات وتتذمر من الحياة المدمرة. الموت آت ولا داعي للشكوى من الله.

ضرب الطاولة بقبضته.

استنفر النادل. انطفأت نجمة بعيدة واختفت في البحر. سارع اوسكار فجأة وخلع نظارته.

-لا تصرخ يا ستاشيفسكي، -قال والتفت نحوه. –الله يرحمك، أسكت عشر دقائق. لا تقاطعني، سأحدثك الآن عن الحياة الجيدة. ترعرعت بين الحظائر، حيث تتراكم ثلاث طبقات من الغبار الأبيض وتتكدس أكياس حبوب القمح حتى السقف. كان والدي يعمل موزعا للحبوب. كان في منزلنا الكثير من الطاولات التي يجلس أخوتي حولها منحنين على دفاتر الحسابات ويملئونها بمئات وآلاف الأرقام. محاسبة! كل كوبيك يجب أن يتطابق مع الاخر، لذلك، فإن المحاسبين عادة ما يكونون من أولئك الأشخاص التافهين.

ضاقت عيناه والتمعتا. أصبح صوته خافتا مع رجة خفيفة. بدأ المقهى يفرغ من الرواد.

-حتى في صغري، – قال اوسكار بهدوء، وكأنه يتذكر، -كانت عندي فكرة واحدة – تأليف تلك الموسيقى التي تجعل الرأس يدور. كانت لي أصابع طويلة منذ طفولتي، وصوت رنان وأفكار جريئة. ثم المدرسة، والعلامات المنخفضة، وشقاوة الطفولة، والأيدي المتعرقة الملطخة بالحبر. كنت أحب أن ألحسه، فهو حامض جدا ويشد الجلد.

كان وجه والدتي، بشعرها المعقود خلف رقبتها وحذاءها ذو الرباط المطاطي، يبدو دائما وكأنها شربت من مستخلص الشيح[2]. حقا، لا يوجد ما يُسر. كان أخوتي يسيرون مرتدين ثيابا سميكة ويربطون الأكياس حول خصورهم، وتفوح من غرفهم رائحة جواربهم العفنة والقطران. كان أكبرهم مريضا بالسل. كنت أكرههم.

كان والدي صارما، صامتا وغاضبا. كان يضع نظارات وله شارب حاد، مثل شارب القيصر المحبوب. أنا ألماني سليل المهاجرين، من أصحاب القبضة الحمراء الشريرة! رغب والدي أن يجعلني تاجرا.

-أبي، أريد أن أكون موسيقيا!

-موسيقيا؟ أبله! تريد تعليم الفتيات وتعزف للراقصين في الكرنفال؟ تريد أن تكون عازف بيانو؟ حيوان!

كنت ضعيفا وغالبا ما كنت أبكي. هززت رأسي في ذلك الحين، وسيطر والدي علي.  لكني مع ذلك اخترت عملا أفضل من التجارة. أصبحت معلما.

ثم حدث الزواج. كيف، لماذا – يشهد الله، لا أعلم. الزوجة – شابة هزيلة من عائلة غنية تحمل لقب وصيفة[3]. جلبت معها إلى غرفتي بودرة بنفسجية وطائر كناري منزلي ورائحة عرق النساء. لا أزال حتى الآن أتقزز من القرف. ثم أولئك الضيوف والأقارب المملون، وجلسات الغذاء في غرفة الطعام، حيث ثمة دائما ضوء أصفر ورائحة بصل لا تطاق تنبعث من المطبخ.

كشف لي الزواج أمورا غير عادية. يدل هذا على أنني كنت لا أزال غبيا. كنت أفهم أن الحياة الزوجية تعني استقبال الضيوف، تناول الغذاء فوق مشمع، معانقة امرأة رخوة بلطف، وفورا بعد “الحب” الشجار بسبب النفقات الباهظة.

لكن الليالي كانت لي. كنت أستيقظ في الليل بعد تعب الصفوف وتصريف مئات الأفعال والاعراب، أشعل المصباح وأكتب. نعم… كنت أكتب في الليل. كانت تنقصني أوراق النوتة. كان هذا أشبه بمعجزة. كنت أسمع – لا تضحكوا! – أسمع بوضوح، كنت أسمع بوضوح الغيوم التي ترعد فوق الأرض، والباسون[4] يعزف رقصة محمومة، والرايات القديمة تصفق في مهب الريح. كتبت وسمعت أسطورة حياة أخرى تزدهر تحت أصابعي، حيث تتكشف أبعاد الشمس بعدا تلو الأخر. أسكنت حشود البحارة المرحين والغجر في المرافئ الفارغة. اندمجت طلقات المسدسات مع دقات الطبول، وتمايلت الأجراس واهتزت تمجد ينابيع القرون الوسطى. أنا أفهم ما معنى البهجة. هل تعرف هذه الكلمة – بهجة؟ صرخ ووقف. -كتبت عن كل شيء: عن مرارة الحب وعظمة ما لا يمكن وصفه، وعن الله والعطش الأبدي للتغيير.

جلس وصمت طويلا.

-ثم… قال بصوت محبط: -آه ماذا بعد.. المخرجون المسرحيون، النقاد، صمت الزوجة المهين، رغيف خبز على الطاولة، تصحيح الامتحانات، قرف.

تجهم فيما كان يبحث عن سيجارة في جيبه.

-هل تعرفون ماذا قالوا لي؟ “موسيقاك جدا غريبة وفوضوية. موسيقاك متعالية. عرضها في أوبرا صعب”.

-حصل، وفي الحقيقة نادرا أن رفضوا بلطف. في العادة يكون الرفض وقحا. عزفت أحيانا في الحفلات الموسيقية، لكن هذا كان مؤلما. تنظيف السترة من البقع في الصباح، عقد ربطة العنق، الذهاب بحالة توتر إلى الحفلة، سماع تصفيق باهت. عيب! كتبوا في الصحف: “نغمات صماء، انعدام ميكانيك الموسيقى”. هل تسمعون، -ميكانيك! الموهبة – مثل الخردل على اللحم، والأهم من ذلك – “ميكانيك الصوت”. كانت هناك سخرية صافية النية من قبل الأصدقاء، وهي أكثر أذى من سخرية الأقارب. نفس الهدوء الناعس والملل في عيون الزوجة، النبيذ الفاسد، المطاعم الرخيصة والبعض منا، الشبان، – هذا كل ما تبقى. أنا مهزوم، لكن لن أستسلم، فأنا منتصر.

هبت رياح قوية، نثرت أوراق الشجر الذابلة على الطاولات.

غادرنا صامتين. وسط صخب الليل والبحر، وكانت الفتيات اللواتي لم يعرفن الحب يناديننا هامسات. ويُسمع حفيف أوراق الشجر تحت الأقدام.

 

 

[1] شاعر ألماني رومانسي

[2] نبات له فوائد طبية إنما مر المذاق

[3] “فراولين” – وصيفة شرف. لقب كان يمنح في البلاط في روسيا لغير المتزوجات ويحرمن منه بعد الزواج

[4] من آلات النفخ

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *