دهشة طفل

(ثقافات)

دهشة طفل

هاني سمير يارد

الزمن: 1970 (ربما)

المكان: إربد، الشام، بيروت وبالعكس

اثنتان من عماتي الأربعة كانتا متزوجتين لفلسطينيين وتقيمان في بيروت. وكنا كل عطلة صيفية تقريبا نقضي جزءا منها عند عمتيّ. وأحيانا نذهب هناك في الشهر الثاني عشر للاستمتاع بعيد الميلاد.

جارنا وصديق والدي وأعمامي عمر أبو . . . كان شابا “مدردح” مغامرا يعمل في التجارة، وهو من يطلق عليهم بلغة العصر الحاضر “رواد الأعمال”، وهي خصلة لم تكن عند أبي ولا إخوانه.

رجع عمر . . . من السعودية في إجازة بسيارة كانت “عجبة” في إربد.

فمثلا، لم يكن للسيارة صندوق خلفي Trunk، فخلف مقعد السائق والمقعد المحاذي له مقعد متصل يتسع لثلاثة مسافرين، وخلف ذلك المقعد مقعد آخر يمكن طيه فيصبح سطحا مستويا يمكن أن يستخدم لوضع أمتعة أو يمكن أن يستغل لنوم ثلاثة أطفال إن كانت الرحلة طويلة. (تذكروا أني أتحدث عن نصف قرن مضى! وما كان عجبة أصبح مملا الآن).

في سهرة جمعت عمر مع أبي وأعمامي في بيت عمي عبد الله، قال عمر بأنه ذاهب غدا إلى بيروت، وسأل إن كان أعمامي وأبي يودون إرسال قهوة مثلا إلى عمتيّ أو زعتر أو شيء من هذا القبيل.

لم تنته السهرة حتى كان أبي وأحد أعمامي قد قررا مرافقة عمر في رحلته. آنذاك لم نكن قد سمعنا بعد بتأشيرات السفر. الناس يسافرون بين الأردن ولبنان والعراق ومصر، ناهيك عن سوريا بدون تأشيرات.

جدي أوصى عمر بأن لا يسير أكثر من 80 كيلو متر في الساعة.

أبي قرر أن يصحبني معه. كان عمري 7 سنوات؛ وعمي قرر أن يصحب ابنته وعمرها 4 سنوات.

الدهشة الأولى، بعد دهشة السيارة “العجيبة”، أن عمر عندما أراد أن يتزود بالبنزين عند “المصنع” تقريبا، أخرج من جيبة السيارة دفترا مطبوعا ومختوما وقطع منه ورقة. فسأله أبي أو عمي عن الغرض منه، قال:

-أعطي هذه الورقة لعامل محطة الوقود لقاء تزويدي بالبنزين.

– ولا تدفع له نقودا؟!

– لا!

ضحك والدي وعمي ساخرين غير مصدقين، أما أنا فقلت في نفسي مستحيل! كيف لعاقل أن يقبل ورقة عوضا عن ورق النقد. فصاحب الدكان في الحارة لن يقبل ذلك مني. لننتظر ونرى.

ترجل عمر من السيارة وذهب إلى عامل المحطة الذي كان مشغولا مع زبون آخر. تحدث مع العامل لثوان . . . نجحت الخطة!

بعد أن استأنفنا كانت دهشة أبي وعمي لا تقل عن دهشتي أنا الطفل. يبدو أن تلك كانت طريقة جديدة للدفع يستخدمونها في السعودية. (تبين في ما بعد أنه هذه تسمى كوبونات).

قضينا أياما في بيروت . . .

في وسط بيروت رأيت سيارة فوق عمارة والسيارة ما تنفك تدور في أعلى العمارة. كيف صعد بتلك السيارة فوق العمارة، وكيف تدور وحدها؟

رأيت في شوارع بيروت سلال الحمّالين. كانت سلالا طويلة تختلف عن سلال الحمالين في “حسبة” إربد. كان أول ما خطر في ذهني أن بيروت تعوزها الرحمة في جعل السلال بذلك الارتفاع، الأمر الذي يعني ضعف ما يحمله حمالو إربد الحنونة.

في مداخل كثير من المتاجر رأيت صحفا باللغة الإنجليزية والفرنسية لأول مرة في حياتي الممتدة 7 سنوات. من يكتب الصحيفة بالإنجليزية؟ ومن يطبعها؟ بل من يقرأها؟

زوج عمتي سمير ة كان موظفا في شركة الميدل إيست.

أخذنا إلى مطار بيروت حيث يأخذنا في كل إجازة، فيبتاع أبي من السوق الحرة بسكويت غندور 3 خمسات، وحرامات وأشياء أخرى.

كان لمطار بيروت ما يشبه شرفة طويلة للمستقبلين والمودعين . . . كثيرا ما ظهرت في الأفلام العربية خاصة الأفلام المصرية التي صورت في بيروت.

زوج عمتي شرح لوالدي وعمي كيف قصفت الطائرات الإسرائيلية مطار بيروت ودمرت عدة طائرات تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط.

. . .

عندما أزف يوم العودة جاءنا عمر بعد أن قضى مصالحه في اليوم الموعود لنعود إلى إربد الصمود (أيام حرب الاستنزاف).

في طريق العودة انتابني شعور غريب . . . شعور بالحزن . . . لم أدر مرده.

عندما كبرت رويدا، أدركت أنه الاشتياق والفراق لمكان جميل يختلف عن إربد، القرية الكبيرة.

وربما أيضا فراق روز التي ألفت اللعب معها، الابنة الوحيدة لعمتي سميرة التي كنا ننزل عندها في معظم الأحيان.

كانت لهجة روز تختلف، وكانت، على جمالها، تسب وتشتم كأولاد الحارة؛ في الواقع كان كل اللبنانيين يشتمون شتائمها دون أدنى حرج، وهي شتائم كانت من المحرمات في بيتنا.

في طريق العودة وبعد أن دخلنا الأراضي السورية تعطلت السيارة . . .

تبين أن إصلاحها سيستغرق ساعات أو حتى يوم.

الأهل في إربد ينتظروننا، أهلنا، وأهل عمر . . . ولا هاتف أو نت أو واتساب.

قرّ قرار الرجال الثلاثة أن يمضي أبي، أصغرهم وأخفهم حركة إلى إربد، وعمي وابنته وعمر يتبعون.

الدهشة كانت عندما أشار أبي لشاحنة، قلاب، تختلف تماما عن كل الشاحنات في إربد. كانت شاحنة أكبر بكثير مما كنت أراه في إربد. الدهشة كانت عندما أوقف سائق شاحنته ورحب بنا أن اصعدا!

كانت الطريق أمامنا، وربما خلفنا، تعج بقافلة من تلك الشاحنات المتشابهة. لا بد أنها كانت تعمل لصالح مشروع ما ضخم.

أذكر أن السائق كان مرحا وتبادل حديثا شيقا مع أبي، لأن صوت أبي كان يبدو مسرورا.

الرجل لا يعرفنا، فلم توقف؟

لما سألت الوالد ذلك السؤال عندما ترجلنا في بعض الطريق قال لي:

– الناس لبعض. لو كانت لك سيارة ووجدت رجلا وابنه على قارعة الطريق ألا تأخذهما في طريقك؟

لم أفهم المقصود بعبارة “الناس لبعض”.

لا أذكر كيف وصلنا درعا وكيف وصلنا الرمثا، لكن لا بد أن وعثاء السفر برحت بنا، كما تبين ذلك واضحا على بدلة الوالد السوداء.

في الرمثا تنكبنا عن الطريق العام ودخلنا في ساحات وسهول وأراض بين بيوت كثير منها كان بيوتا مبنية من الطين والتبن.

– أنا عطشان، وبدي أروح على الحمام.

– اصبر شوي . . .

بعد مسير ليس طويلا وصلنا بيتا أرضيا مبنيا من الإسمنت.

تقدم أبي من الباب الحديدي وقرعه بثقه. لا بد أنه قرعه قبل هذه المرة مرّات.

وأنا أراقب . . .

فتح الباب رجل فلاح خمسيني فلما رأى والدي هش له وبش . . .

كانت تلك دهشة أخرى . . .

يمكن للمرء أن يكون له أصدقاء في أماكن بعيدة (أصلا لم أكن أعلم أن تلك الرمثا وأنها تبعد عن بيتنا في إربد 20 كيلو متر فقط).

عندما وصلنا البيت فزعت علينا الحارة وأولها زوجة عمي: وينهم؟؟؟؟!!!!

* مترجم وكاتب أردني يقيم في بريطانيا

شاهد أيضاً

سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في أبوظبي للكتاب

(ثقافات) سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في جناح مؤسسة العويس بمعرض أبوظبي للكتاب   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *