حمد الخروصي: “كلنا سنموت في لحظة خاطفة”

حمد الخروصي: “كلنا سنموت في لحظة خاطفة”[1]

سليمان المعمري

‏”لا أريد أن تكون حياتي طويلة، أريدها

عميقة!. أن أمر (أنا) بالأيام، لا أن تمر بي!”

شمس التبريزي

ثلاث صور ستظل تتقافز في ذاكرتي عن حمد الخروصي كلما تذكرته. حمد الذي رحل بهدوء تاركًا خلفه حزنا كبيرًا في قلب كل من عرفه، بل وامتد الحزن لمن لا يعرفه، بعد أن رأى الحب الكبير الذي غُمِر به في وداعه الأخير. حمد الشاعر المثقف، المخلص لقصيدته، المدرك لمعنى أن يكون المرء شاعرا، قابض الجمر الذي اختار في الحياة طريقا صعبا قلّما سلكه من كان في مقدرته الشعرية وثقافته العالية، فقد كان بقصيدة مديح واحدة لواحد من الشيوخ أو محبي المدح الموسِرين – وما أكثرهم – قادرًا على أن يصبح ثَريًّا، ولاعبًا بالبيسات والدراهم، وشاعرَ مناسبات، لكنه بدلًا من ذلك اختار أن يكون شاعر الفقراء الذي لا يرهن قلمه ولا موهبته إلا للوطن وقضايا الإنسان العادلة، كائنًا يُؤَوِّل العالم ويعيد صياغته بروحه الشفافة، جاعلًا من الشعر فعلَ حياة وملعبَ حُدوس.

الصورة الأولى كانت مساء الثلاثاء 9 سبتمبر 2013 في الورشة التي قدمها للملتقى الأدبي بخصب لشعراء الشعر الشعبي الشباب (وكنا؛ الشاعرة والأكاديمية فاطمة الشيدي وأنا، قد سبقناه في تقديم ورشتين مماثلتين عن الشعر الفصيح والقصة على الترتيب)، كنتُ حريصًا على حضور ورشته، لأنني كنتُ أعلم مسبقًا أنه من شعراء النبط القلائل الذين يجمعون بين الموهبة الكتابية والحس النقدي العالي، وهو ما أهله للدخول في لجان تحكيم كثيرة، لعل آخرها مشاركته المشرّفة في لجنة تحكيم برنامج “البيت” في قناة “سما دبي”. هناك، في خصب، أَعمَل الخروصي مبضعه النقدي في قصائد الشباب النبطية، محللًا إياها (بتعبير أدق: مُشرِّحًا إياها) قصيدةً قصيدة بحصافة نقدية ثاقبة لم تترك في كل قصيدة شاردة ولا واردة. ولا أظنني مبالِغًا إذا قلتُ إن الاستفادة التي تحصَّلَ عليها الشباب من تلك الورشة هي التي حققتْ هدف الملتقى الذي نشدتْه وزارة التراث والثقافة. أحد هؤلاء الشعراء الشباب المشاركين كان محمد المقبالي الذي كان جالسًا في الصف الأول، والذي سيعبّر لحمد عن سعادته بالمشاركة للمرة الأولى في الملتقى وتقبله للنقد الذي سمعه. وما هي إلا شهور قليلة حتى يذهب المقبالي إلى ربه في 10 مايو 2014، وبعد ثمانية أيام من رحيله نشر الخروصي في ملحق أشرعة بجريدة الوطن (عدد 18 مايو 2014) رثاء له ختمه بهذا المقطع الذي لا يمكن أن نقرأه اليوم إلا بوعي مختلف: “يموت الإنسان ولا يموت الشاعر. يتوقف النبض ولا تنام الروح، فالموت والفناء للجسد، والبقاء والخلود للروح. كلنا سنموت ذات لحظة خاطفة، غير أن الروح هي من تتجلى وتخلد، تحلق في فضاء الكون المترامي، تغوص في محيط الحلم البعيد”. بعد نشر هذا المقال بنحو عام لم يتردد الخروصي في المشاركة في فعالية “نتذكرهم” عن نفس الشاعر (المقبالي) بتنظيم اللجنة الوطنية للشباب، وختم مشاركته بنفس العبارة.”كلنا سنموت في لحظة خاطفة”. أي حدس يحمله الشاعر بين جنبيه، أي روح صقيلة أوحت له بهذا التبصّر العميق!.

الصورة الثانية في مخيلتي لحمد الخروصي وهو يلقي قصيدة “يوم شَبَّتْ في صحار” في تسجيل على اليوتيوب في اعتصامات عام 2011. قصيدة غاضبة لكنها تفيض بحب الوطن. توقفتُ عند قصيدته طويلًا لأنه نادرًا ما نجد قصيدة حماسية تُلقى لجمهور غاضب دون أن يفرّ منها الشعرُ مُخْلِيًا مكانه للخطابة، إلا أن ما أدهشني في قصيدة حمد هو قبضه على تلك الشعرة الرقيقة الفاصلة بين الشعر والخطابة:

يا وطن مغمى عليه، يا وطن متخدر

الوقت أصبح ظهيرة وأنت يكفي نوم

قوم إصحى يا وطنّا واستحم واتمصّر

قوم يا الله ما بقى فوق الشجر من بوم

كان حمد رجل إرادة وحرية بالدرجة الأولى، ولم يكن ليتخلى عن حريته إلا مرغمًا، دون أن يفتَّ هذا في عضده، ذلك أنه يؤمن كأي كائن حر أن سجن المرء يكمن في ذاته الكسيرة وليس بين قضبان. هناك، في سجن سمائل المركزي، حيث كان ذاتًا حرةً بين قضبان، وحيث كان يبعث برسائله الشعرية التي يتجاذبها الأمل والحزن: “أرضنا جدبا / سمانا غيمها ضحكة سجين / باكر الأحلام تورق / مثل زهر الياسمين”، هناك، قرأ ذات ثلاثاء في ملحق “شرفات” الثقافي (بجريدة عُمان) شهادتي عن الشاعر سماء عيسى الذي كان قد اعتُقِل لفترة وجيزة في ذلك الأسبوع من يونيو 2012، وهذه هي الصورة الثالثة.

حرص حمد الخروصي بعد أن خرج من السجن وعاد إلى الصبيخي[2] وتلحف بسمائها الرؤوم أن يخبرني غير مرة – وفي فترات متباعدة – أنه كان يقرأ في ذلك المكان القفر حيث “ما نشوف إلا الجبل / يتصيد الغيم / ماسك بالأمل” شهادتي بسعادة، وأنها خففت عنه ألم فراقه لأهله وأطفاله، هو الذي تخلى عنه في تلك الفترة أغلب أصدقائه، الذين تباروا بعد رحيله في رثائه في فيسبوك وتويتر بأجمل العبارات المزينة بصوره معهم في مناسبات مختلفة. كانوا كأصدقاء محمود درويش الذين وصفهم “يريدونني ميتا كي يقولوا : لقد كان منا وكان لنا”. وكما وصفهم حمد نفسه ذات قصيدة:

يا أمي واصدقاي اللي دفنت ابملح هذا البحر

يا أمي واصدقاي اشكثرهم .. يا قلّهم صحبة

والآن وقد ترجل الشاعر عن صهوة جواد القصيدة، واختاره الغياب من أبعد بقعة يمكن أن يتخيلها المرء عن قريته الوادعة في السويق[3]، في مكان يعد من أجمل بقاع الأرض، ويمكن أن تعيش فيه سعيدًا، لكن لا يمكن أن تظل سعيدًا وأنت تموت فيه بعيدًا عن الوطن الأم. الآن وقد ودع الحياة بقصيدة كما عاشها بقصيدة، لا نستطيع إلا التسليم بأن جسد حمد الخروصي قد ذهب حيث يذهب كل جسد فانٍ، لكن عزاءنا أن روحه السيالة بالشعر والمحبات ستبقى محلقةً في سماواتنا، بذكراه الطيبة، وشعره الرائي الى أبعد من لحظته.

[1][1] نُشِر هذا المقال أولًا في ملحق شرفات الثقافي بجريدة عُمان عدد 11 أغسطس 2015 بعد نحو خمسة أيام من رحيل الشاعر حمد الخروصي، ثم ضُمِّن في الكتاب التأبيني له “طاح الورق: أنا شجر عاري” الصادر عن دار سؤال اللبنانية عام 2016.

[2] قرية الشاعر حمد الخروصي في ولاية السويق، تبعد عن مسقط نحو 150 كيلومترا.

[3] مات حمد الخروصي بسكتة قلبية في سويسرا في السادس من أغسطس 2015م عن عمر ناهز 39 عاما.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *