في محبّة فخري قعوار
* معن البياري
ليس عملا هيّنا أن تكتب عن فخري قعوار (1945)، الكاتب الأردني الذي تعدّدت ألوان كتابته، وإنْ تبقى القصة القصيرة مرفأه الأثير، بحسب أستاذنا نبيل حدّاد محقّا عنه، فقد خاض في أدب الأطفال والمسرح والرواية والأدب الساخر والمسلسل التلفزيوني والمسلسل الإذاعي، فضلا عن المقالة الصحافية التي يعدّ أحد أعلامها في زمنٍ ذهبيٍّ لها في الأردن. وهو نقابيٌّ نشط وفاعلٌ ثقافيٌّ كان له حضورُه القيادي في الفضاء الأهلي، المعني بالثقافة وناسها ودوْرها، فقد انتُخب رئيسا لرابطة الكتّاب الأردنيين، وهو من مؤسّسيها، أربع دورات، وكان عضوا في عدّة هيئات إدارية لها، وأمكن له أن يُنتخب أمينا عامّا للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب دورتين. ولا يُنسى نجاحُه اللافت بمقعدٍ نيابيٍّ في أول انتخاباتٍ بعد عودة الحياة النيابية في 1989، وكان صوتا جسورا تحت قبّة البرلمان. ويبسط صاحب هذه الكلمات هذا التعريف، الشديد الإيجاز، والمعلوم لدى جمهور الثقافة والصحافة في الأردن، بفخري قعوار، للقارئ العربي الذي يحسُن تعريفُه بمكانة صاحب “ممنوع لعب الشطرنج” (مجموعة قصصية له، 1976) كاتبا ومثقفا، وقد بدأ نشر كتاباته في 1962، وإبّان مُقامه في القاهرة طالبا جامعيا في عمر السبعة عشر عاما، قرّظه محمد عبد الحليم عبد الله.
مناسبة الإتيان على محبّة فخري قعوار هنا أن اللجنة الثقافية لمهرجان جرش للثقافة والفنون في دورته التي افتتحت أول من أمس، اختارت الاحتفاء بكاتبنا، بتنظيم ندوةٍ عنه في عمّان، تعبيرا عن تقديرٍ مستحقٍّ له، وحرصا على حماية اسمِه من التناسي والتجاهل، وهو الذي يُغالب وضعا صحّيا صعبا منذ سنوات، شفاه الله. ومع التسليم بأن هذه المبادرة طيّبة، إلا أنها مطلوبٌ استكمالُها في أكثر من فعالية، مع إعادة إصدار بعض كتب هذا القاصّ المتعدّد، صاحب المنزع الواقعي والحسّ الساخر العالي، والروح التهكّمية الانتقادية، الواضحة المباشرة غالبا، والبساطة الضافية الممتعة، وصاحب المواقف الشجاعة في غير شأنٍ وطني، محلّي أردنيٍّ وقوميٍّ عربي، وإنْ ثمّة مقاطعُ يجوز الاختلاف بشأنها معه. وكانت مبادرةً طيبةً من البنك الأهلي الأردني، بالاشتراك مع دار نشر محلية، إصداره في 2006 الأعمال القصصية الكاملة لكاتبنا (صدرت له بعدها مجموعتان). وإنْ يلزم أن تُجمع مسرحياتُه، وكذا منتخباتٌ من مقالاته، سيّما التي واظبْنا، نحن في الأردن، على قراءتها يوميا في صحيفة الرأي، والتي، على الرغم من السقف الواطئ في البلد على صعيد حريات التعبير، إلا أنها اتّصفت بمستوىً ظاهرٍ من الجرأة، في التأشير إلى أعطابٍ في الأداء الحكومي. وبالتباسط والمؤانسة مع قارئها، عندما نجح فخري، بنباهةٍ، في صناعة عبارةٍ موحيةٍ، ذكيةٍ، تحيل إلى مقاصد في غير موضع، ترمي سهاما في غير مطرح. وذلك فضلا عن تجوال هذه المقالات في غير أمرٍ وأمر، في الفنون والثقافة والحياة اليومية والاجتماعية، وفي المحلي والعربي والعالمي. وقد تفرّغ فخري لهذه المقالة منذ 1980، قادما من سلك التعليم الذي زاوله سنواتٍ، وفي حسبان كثيرين إن مقالاته اليومية تلك هي التي يسّرت ظفره بالمقعد النيابي.
لعلّ ما يجعل لنتاجات فخري قعوار مزاياها التي استطابتها جمهرةٌ عريضة من قرّائه ذلك الإخلاص الذي أبداه صديقنا المجدّ في عمله، بل أقول شغله الذي واظب عليه، كاتبا ملتزما، بالمعنى الكلاسيكي لمفردة الالتزام، ففي القصة القصيرة التي يُحسَب من كتّاب جيلها الثاني، في الأردن وفلسطين، بدا ملحوظا وفاؤه للمحمول الاجتماعي والواقعي المحض، مع تدرّجٍ في تطوّر أدواته التعبيرية والأسلوبية والبنائية والترميزية، وقد اتّجه مبكّرا إلى رؤيةٍ نقدية لمواضعات اجتماعيةٍ مستقرّة في قصصه، منذ “لماذا بكت سوزي كثيرا” (1973) وصولا إلى “الخيل والليل” (2009).
حدّثني فخري قعوار في 2003، وكنّا ضيفيْن في مهرجان ثقافي زائريْن في الدوحة، إنه يكتب مذكّراته “التي ستُمنع”. التقيتُه مرّاتٍ بعدها، أظنّه أخبرني إنه ما زال يعكف على كتابتها، ولا أدري إن أكملها، وسيكون مبعث غبطةٍ لنا، قرّاء أدبه الساخر في “يوميات فرحان فرح سعيد” و”مراسيم جنازتي”، وغيرهما، ومن لاحقوا قصصه، في “أنا البطريرك” و”أيوب الفلسطيني” وغيرهما، أن نصادف هذه المذكّرات، الأرجح أنها مختلفةٌ عن “ليالي الأنس” الذي ضمّ فيه بعض محكياتٍ من سيرته. وسيكون مبعث فرح كثيرٍ أن نسعَد باستعادة فخري قعوار بيننا في أناقته وشخصيته الرحبة.
- عن العربي الجديد