مديح لنساء العائلة..تحولات المكان في سرد محمود شقير


*إبراهيم السعافين
لعل بساطة السرد في رواية مديح لنساء العائلة من الظواهر اللافتة التي تمضي بالقارئ نحو نهايتها، ولعل تماهي فعل الذاكرة بين السارد والقارئ يجعل السرد أسلس وأمتع، فالأحداث والأماكن التي ترد في الرواية معلومة ومتخيلة في ذهن القارئ، بل المشاعر التي تختزنها الشخصيات لا تبتعد كثيراً عن مشاعر القارئ، ولا يجرح هذه السلاسة أو تلك المتعة علو نبرة السارد المؤلف أحياناً قليلة، إذ نكاد نشعر أنّه في بعض الحوارات والتحليلات يضع لغته وأفكاره وتحليلاته في أفواه شخصيات لا يتناسب مستواها وهذه اللغة أو ذلك الفكر أحياناً، أو ما يمكن عدّه من قبيل الاستطراد أو التكرار. فعلى الرغم من هذه الملاحظات التي تبدو يسيرة في جسد الرواية فإن السّارد يحافظ على خيط السرد ألاّ يفلت من بين يديه، فشخصية منّان الأب وزوجاته وضحا ومثيلة وسميحة وصفية والأولاد والبنات واقعية أليفة تتحرك في الواقع وفي الذاكرة ولا تفارق المتخيّل السردي ألبتة.

ثمة شخصيات في هذه الرواية ظهر دورها واضحاً عياناً في الرواية من مثل محمد الأصغر وفليحان وعطوان، وثمة شخصيات ظللنا نسمع عنها على لسان آخرين في الأغلب، من مثل محمد الكبير الذي يتقاطع كثيراً مع الكاتب وأدهم ويوسف، وهي تلك الشخصيات النضالية من مثل محمد الكبير ويوسف الذي استشهد عام 1948 وأدهم الذي انحرف عن القيم الشعبية والوطنية ثم عاد مناضلاً تحتويه سجون الأعداء.

قدم لنا فليحان الشخصية الواقعية البراجماتية التي رأت في الوصولية أجدى السبل، ففعل كل شيء من أجل أن يثري سريعاً وكان له ما أراد، حين عمل في التهريب، وجنّد أبناء العشيرة ليساعدوه في هذه المهمة. على أنّ الشيء الوحيد الذي يتباهى به أنه لم يخن وطنه، ولم يضع يده في أيدي الأعداء، كان فليحان من أتباع النظام، على العكس من أخيه محمد الكبير، فقد حاول أن يصبح نائباً مرتين ولكنه فشل، وهو، من غير شك، الشخصية التي تقابل شخصية محمد الكبير.
تعرفنا على ملامح شخصية فليحان وتحولاتها، حين أقام علاقة مع رسمية من بنات مخيم العودة، أغواها في السهل ولكنه ظل مخلصاً لها وتزوجها بعد أن هربت معه، ولم يتزوجها من بيت أهلها، ولكن من بيت وجيه استقبلها في بيته على نحو ما تقضي التقاليد، وظلت هذه الحادثة نُدبة في حياتها، حتى بعد أن رضي عنها أبوها وإخوتها وأهلها، ولكن هذه الفعلة لم تَسْلَم لفليحان دون تبعات، إذ أصابه ابن عمها خطيبها السابق الذي أصبح فدائياً، بطلق ناريٍّ فيما بعد، فأقعده على كرسي متحرك.

أمّا شخصية منّان فقد بدت أقرب إلى النموذج الذكوري؛ فهو كما وصفته الرواية يشبه سي السيد في ثلاثية نجيب محفوظ ، ولكن على اختلاف بين خلفية النموذجين الحضارية والقيمية؛ فالرجل تشرب عادات البرية وقيمها، ورأى في العادات والتقاليد نهجاً لا بدّ أن يتّبع، ورأى أن كل تغيير هو في الاتجاه الخطأ، حافظ على صرامته وهيبته، ورث وظيفة المختار عن أبيه وعن جدّه، فهو على هذا النحو الرجل المهيب الذي لا يجوز عصيانه أو مخالفة أمره، تخشاه نساؤه الأربع، وقد كنّ ستّاً، ماتت واحدة، وطلّق أخرى. ويخشاه أبناؤه على اختلاف طبائعهم وسلوكهم، على أن هذه الخشية لا تخلو من حنان من الوالد ومحبة من الأبناء.

على أنّ هذا النموذج لا يَسْلم مثاليّاً، فثمة ابنته فلحة التي تهرب، وتتزوج من شاب من المخيم، يرعاها عمها عباس ثم يرضى عنها أبوها، وكان الفعل النموذجي في مجتمع عشيرة العبد اللات أن تُذبح غَسْلاً للشرف، وكان يمكن أن يأتمر بأمره سائر الأبناء، ونرى محمداً الكبير يسلك سلوكاً لا ينسجم مع عادات البرية ولا رأس النبع، فيتزوج من مريم النصرانية أولا، ثم يغويه أخو مريم فينضم إلى الحزب الشيوعي ويقتنع بأفكاره، ويتعرض للسجن في الجفر في أثناء الحكم الأردني، ويتعرض للسجن من الاحتلال الصهيوني، ثم ينُفى من القدس إلى عمّان. ويشذ فليحان عن كل القيم حين يتزوج زوجة أخرى من المخيم بعد أن يغويها خارج القرية والمخيم، ثم تمضي به الحياة مهيباً صاحب مكانة، ثم حين يتاجر بالممنوعات ويثري من الحرام، وهو الذي كان، من قبل، لا يحترم عادة ولا تقليداً، مثلما فعل حين دخل خباء النساء واستفز رجال القبيلة المجاورة ما دفع والده الشيخ منان لإجراء ما هو متبع لتلافي الفضيحة، وقد تصرف أدهم تصرفات شاذة حبن كان يخدم في فندق فتزوج من سائحة وعاد أخيراً خاوي الوفاض، ثم انقلب رأساً على عقب حين التحق بالعمل الفدائي وحكم عليه الاحتلال بالمؤبد.
وإذا كان محمد الأصغر لم يخالف والده في ما شرّع للعائلة، بيد أنه سار وفق هواه وموقفه الشخصي وحقق اختياره هو حين تزوج من امرأة مطلقة وهو الكاتب في المحكمة الشرعية والمأذون، إذ كانت سناء فتاة جميلة طلقها زوجها لأنها لم تنجب، ورفضت أن تكون لها ضُرّة، اختارت الطلاق حلاً، وقد رضي محمد الأصغر بواقعه مع زوجته التي يحب، على الرغم مما ناله وزوجته من نقد مجتمع النساء خاصة، وعدم رضا أمه وأبيه اللذين يتحرقان لرؤية الأبناء، وها هي قد بلغت الخامسة والأربعين ولم تُنجب، وظل محتفظاً بها، وظل يحبها، ويدللها على الرغم من استياء أمه وضحا وهي المرأة الأخيرة التي تزوجها منّان. في حين رضخ زوج سناء الأول لمطالب أمه وأبيه على النقيض من محمد الأصغر الذي تصرّف على غير إرادة أمه وعلى غير رغبة والده الذي يريد لعشيرة العبداللات أن تبقى وأن تتكاثر. وبدا محمد الأصغر مثالاً لقهر الرتابة والروتين الذي يطبع مجتمع البريّة، حاول أن يصبح كاتباً مسرحياً، ولكنه فشل، ولم يمنعه فشله من حرق دفاتره التي كان يسجل فيها الوقائع التي تمر به في المحكمة الشرعية، وأن يستقيل من الوظيفة كلها من دون ضمان مالي يكفل له نفقات العيش الكريم.
بل نراه يذهب مع سناء في رحلات سياحية داخل فلسطين وخارجها، يذهب إلى استنبول ثم إلى الأندلس، ويرتاد الشواطئ معها لتلبس المايوه وتظهر مفاتنها أمام الناس، بل وتتجرأ في إعلان ذلك كله على نساء العشيرة المغرمات ببث الإشاعات وبالقيل والقال. وهو أمرٌ أحرى بالكتمان في هذا المجتمع المعروف بالغيبة والنميمة واختراع الأقاويل.
ولعل شخصية عطوان لا تقل عن شخصية إخوته الآخرين في اجتراح مسلك جديد، يختطه ويسير فيه، وهو الهجرة إلى البرازيل، وهجرته تمثل حالة جديدة على المجتمع الفلسطيني ولاسيما المجتمع القبلي الذي يؤمن بالتماسك ولمّ الشمل، فلا رحيل إلاّ مع القوم أجمعين، هاجر مع عدد من أبناء العشيرة الذين ذابوا أو كادوا في المجتمع الجديد، ولم يكن أمامه حتى يحافظ على عفته ودينه من الزواج من جيزيل البرازيلية، ويخضع لمنطق الغربة فلا يعود من رابط بينه وبين العائلة إلا رسائل يحملها شكواه وعواطفه، وهي رسائل تدل صيغتها الرتيبة على حقيقة مشاعره التي كشفت عنها مواقفه تجاه أبيه الذي هدمه المرض ويوشك على النهاية. وقد كانت رسائله المتتابعة ظاهرة سردية فريدة في الرواية دلّ عليها هذا الخط الغامق وعادة ما تأتي في نهاية كل فصل محملة بروح الدعابة والسخرية.
ولعل الفصل الأخير من أبرع فصول رواية” مديح لنساء العائلة”، مثل مشهداً سرديّاً من ملحمة هذه العائلة التي تتقاطع فيها بنية الرواية مع بنية السيرة الذاتية، وتصوّر لحظة سقوط البطل الشعبي “منّان” سقوطاً تراجيدياً، هذا البطل الذي احتضن التناقضات الإنسانية في شخصيته التي تجمع بين مواقف ومشاعر وخصال متناقضة. وبرعت الرواية في تصوير المواقف، ولاسيما موقف عطوان الذي كشفت شخصيته الهشة عن موقف مزيف، فكانت معادلاً للبلاغة المزيفة المحنّطة التي لا تدل على حقيقة الموقف أو العاطفة وقدمته للقارئ مكشوفاً عارياً لا شيء يستر نفاقه، وبدا كل ما يقول نفاقاً يُسوِّغ به كل شيء في حياته الجديدة التي ارتضاها.
وإذا كان عنوان الرواية أحد عتبتين تضيئان جسد الرواية وهو” مديح لنساء العائلة” دالاّ على مكانة المرأة في مجتمع الرواية، فإنه يعبّر فعلاً عن الاهتمام بالمرأة إذا قرأناه قراءة ظاهرية، ويحتمل دلالة السخرية، والأمران، كما أرى، محتملان معاً. ولا تغيب العتبة الثانية الواقعية عن الدلالة الظاهرية للعنوان حينما يهدي الرواية إلى حفيده الرابع عشر الذي يؤكد دور المرأة البيولوجي والإنساني والرمزي، فالبعد الديموغرافي بالغ الأهمية في الصمود ومقارعة المحتلّ.
ويمكن القول إن هذه الرواية تنتصر للمرأة من غير أن تصنع منها أسطورة، فقد قدمتها الرواية كما هي، لا تمنحها بطولة قُدت من نسيج الأساطير، ولكنها تصور واقعها كما هو، من خلال نماذج مختلفة في التعليم والتربية والوعي، ولا تسرف الرواية في بيان اضطهاد الرجل، فالرجل والمرأة في النهاية ضحايا لواقع مشوّه مختل بسبب أكثر من عامل داخلي وخارجي.
ولعلّ المكان يمثّل البطل الحقيقي لهذه الرواية، فلا يبدو المكان جغرافياً فيزيقياً، بل يتّسع ليصبح فضاءً بالمعنى الاصطلاحي، فيستوعب التحولات الفكرية والاجتماعية والسياسية، يحتضن شتى التحولات، ويحيل إلى ما يجري فيه من تغيير أساسي أو جزئي من رأس النبع إلى الوسمية. ويظل المكان من المخيم إلى القرية إلى المدينة يحتضن المعضلة الجذر الثاوية في قلب المكان وهي قهر الاحتلال الذي يدمر الوعي والأرض والإنسان يقول محمد الأصغر:
” كان المخيم يغرق في الوحل بعد مطر شديد. وكنت أتلفت في كل اتجاه، فأرى بيوتاً متطامنة كما لو أنها تشعر بالخجل، وصرت كلما زرت قرية فلسطينية أو مدينة تلبّسني هذا الإحساس. أرى الخجل مهيمناً على الأمكنة وعلى البيوت، على القرى والمدن، فيتضاعف شعوري بالصغار.”(الرواية ص182-183)
اتسع المكان من البرية ورأس النبع والقدس وخيم العودة ويافا وحيفا وعمان وبيروت والكويت وأوروبا وأمريكا، حاملاً هم الفلسطيني على المستوى الشخصي والعام، والوطني والقومي والإنساني، معتمداً بعض تقنيات القصة القصيرة وهو اللمح أحياناً أكثر من التصريح.
لقد اختارت الرواية حقبة زمنية تمثل تاريخاً يكاد يكون معلوماً للقارئ، ولكنه استطاع بقوة خياله أن يجعل السرد يمضي كما لو أن كل الأحداث والشخصيات والأمكنة محض خيال، فجعلنا ندقق في حيوات الشخصيات ومآلاتها، ونتشوق لمعرفة النهايات وإن كنا نخشى الذي نتوقع.
وليس من شك في أنّ هذه الرواية تغوص عميقاً في تحوّلات الإنسان والمكان معاً، من خلال فاعلية الزمن، ويبدو الاحتلال الذي تعرضت له فلسطين منذ النكبة الأولى إلى هزيمة حزيران إلى مأساة الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا وخروج المقاومة الكبير من لبنان عام 1982 عاملاً مؤثراً في هذه التحولات، حتى بدت صورة الاغتراب تستدعي مخزون الذاكرة الشعبية من السيرة الهلالية، والرواية تتكئ على مخزون هائل من المرويات والطقوس والممارسات الشعبية، فلم يكن ثمة نص شعبي ألصق بذاكرة الشعب الفلسطيني من هذه السيرة، وبون بين بني هلال الذين يروي التاريخ أنهم دمروا الحضارة وخرّبوا العمران والفلسطينيين الذين ارتحلوا في آفاق الدنيا يبنون ويعمرون:
“ورغم مرضه عرف أن حصار بيروت انتهى بعد قتلى كثيرين وتضحيات، وأن المقاومة خرجت من لبنان، وعرف أن حفيده عمر، ابن أخي محمد الكبير خرج من المقاومة إلى تونس، ومعه زوجته اللبنانية وثلاثة أولاد. قال أخي فليحان إن هذا يذكّره برحيل بني هلال إلى تونس، ولا يدري إن كانت ستعقبه حروب أخرى أم لا، وراح يدندن بصوت خفيض بشيء مما حفظه من التغريبة:
” تقول فتاة الحي أم محمد/ ودمع جرى فوق الخدود تسيل/ أيا ليتني مت من عام أولى/ ولا شفت الأمير أبو زيد قتيل”(الرواية ص195)
وعلى هذا النحو تتحرك الأحداث ممسكة ببعدي المقاومة والمأساة في عالم تراجيدي على المستويين الشخصي والعام، وهو عالم متفرّد لأنه يتشّح بمأساة متفردة على غير مثال.
_________
مجلة “الإمارات الثقافية”/ العدد 34 / حزيران 2015

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *