الفانتازيا الروائية بين بوليفونية السرد وتنوع مستويات التلقى
منال رضوان
أبناء حورة هى الرواية الأحدث للروائى عبد الرحيم كمال والذى يعرفه الجميع بوصفه السيناريست الذى صاغ أشهر الأعمال الدرامية خلال السنوات الأخيرة، غير أن ذلك الوجه الذى نلتقيه اليوم هو الأكثر رحابة واتساعًا؛ إذ يحمل كمال على عاتقه جهد استنطاق أبطال روايته وتحركهم جيئة وذهابًا عبر الزمن والأحداث، فى تعددية سردية تعد هى النقطة الأكثر دهشة ووضوحًا فى ذلك العمل الإبداعى، فضلًا عن بسط ذلك التعدد السردى ليتقبل مستويات مختلفة من القص.
حيث تبدأ الرواية فى زمن تَخيُّلى من الواضح وقوعه بعد الجائحة الأشد التى مر العالم بها قبل عامين، وانتظار الجميع أن تكسر السيدة حورة بيضتها العملاقة ليخرج منها من يحكم الأرض، وقد بسطت سلطتها على عدد من أرجاء المسكونة عبر وضعها أربع بيضات فى بلدان مختلفة، ولا مناص من تنفيذ خطتها فى حكم مصر وتونس والمغرب.
وها هو بيض الكائن الخرافى والذى يمتلك رأسًا ونهدى امرأة وجسدًا لطائر عملاق يتسربل بالريش قد خرج منه من يحكم بلدان ثلاثة ويترصد لدولة اللاجئين، تلك التى نشأت على أنقاض ممالك قديمة وأرست دعائم حكمها وفق أسس لقيم الحق والعدل والخير والجمال، حيث الحاكم أمجد الذى جاء وفق آلية ديمقراطية ونيرة شقيقته وذراعه اليمنى والشيخ صفى الدين حائز مقام العاشق وهى أعلى مراتب المشيخة والذى يمثل الأصل النقى للدين السمح الرحب، فتنجح (السيدة المحترمة حورة) كما يلقبها الراوى فى بسط نفوذ أبنائها لعدد من السنوات على بقاع شتى، وتتوالى الأحداث فى تشابك طولى وعرضى على مستوى القص مع الحرص على استخدام تعددية الأصوات السردية طوال أحداث الرواية، خاصة فى الجزء الأخير؛ فبينما تجد حور ونور يتكلمان فى غرفتهما، تجد أن رماح الراوى يقص قصتهما فى مكان آخر، بل وفى زمن آخر.
وقد أجاد كمال استخدام تلك البوليفونية إجادة من نوع بدا جديدًا، فمن المعلوم أن التعددية تخضع إلى تفسير الواقع وفق وجهات نظر متعددة فى الوقت ذاته الذى يجب عليها أن تتحرر فيه من سلطة المبدع أو السارد المباشر، كما يمكن لشخصيات النص أن تخضع لأيديولوجيات متباينة وانتماءات اجتماعية وعقائدية متنوعة، لذا فينبغى لها أن تتحرر من رِبْقَة الراوى، وتنأى بعيدًا عن المنظور الأحادى من حيث الفكرة والطرح والأسلوب- وسيتم الكلام عنهم فى حينه- غير أن ما حدث يعد كتابة مختلفة، اعتمد كمال فيها صياغة أيديولوجيته وقناعاته المتشربة بالصوفية وتقديمها فى قالب فانتازى يخضع للشد والجذب مع الواقع على طول الخط السردى للأحداث، فضلًا عن الحرص على جذب العدد الأكبر من القراء على اختلاف مشاربهم الفكرية وقناعاتهم الأيديولوجية عبر الحفاظ على تنوع مستويات التلقى.
فمن حيث الفكرة: وهى الولوج إلى عالم الطير، حيث تجد هنا أن الطيور تتكلم وتحكم وتحب وتتزوج من بنى آدم، وهو ما يحيل إلى الأذهان عقد مقارنة بين فكرة الرواية والكتاب الأشهر لفريد الدين العطار منطق الطير، وتلك المقاربة التى تعقدها ذهنية المتلقى فى مواضع عدة، فعلى سبيل المثال بين طائرى السيمرغ وحورة فيقول النيسبورى فى كتابه: (طائر السيمرغ والتى مرت مجلوة الطلعة منتصف الليل بديار الصين، فسقطت منها ريشة وسط تلك الديار، فلا جرم أن عمّ الهيجان العالم، وتصور كل شخص شكل تلك الريشة، ومن رآها فقد تعلق بها…)*
بينما نجد حورة فى رواية كمال قد (.. فردت جناحيها وطارت، وسقطت من عينها دمعة، فى أثناء طيرانها، على أحد المتابعين لها، فاغتسل بالماء المالح الجارف الكاوى، الذى كوى جسده وأصابه بالحروق الخطيرة…)
كما أن ألسنة الطير التى تحاور بنى الإنسان وتنطق بالحب والخير وكل ما يعكس صفاء أفئدتها وانتماء بعضها إلى عالم الطير الواقعى، فضلًا عن وجود الخرافى منها يعمد إلى عقد تلك المقاربة التى لا نجد أن بها ما يعيب الرواية أو ينقص من عمق الفكرة التى أجاد الكاتب التعبير عنها فى استقلالية وبنية تكوينية خاصة به، خاصة أن علمنا أن بعض الآراء المعتبرة، قالت إن العطار نفسه قد أخذ مقاماته المعروفة بمنطق الطير من القرآن الكريم، إذ يقول الله تعالى: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» إذن فإن تلك المقاربات تصب فى مصلحة النص الإبداعى ولا تنقص منه بحال من الأحوال.
كما يبرز تأثر الروائى بفكرة الصُحبة الواردة بين سيدنا موسى والعبد الصالح فى سورة الكهف، فنجد أن رابطة الصديق وتابعه قد ظهرت فى أكثر من صورة، فبدأت بـ (الحر الواثق) الطائر العملاق وصداقته بحسن الفتى الصغير، كما ظهرت فى العلاقة بين الدراويش الصوفى (أبو شوال) وزيان الذى كان يتبعه إلى كهفه كى ينهل من علومه، أو إبراهيم الطبيب ورماح الحكاء الذى استلم عن والدته فن الحكى فأمسى صوتًا سرديًا مصاحبًا منذ ظهوره فى الأحداث.
أما عن الطرح: فقد اعتمد الكاتب تقديم فكرته فى إطار فانتازى يخالط الخيال فيه الواقع، فنجد أن بيضة بلاد اللاجئين قد كسرت فخرجت منها (الحسن السارى) الفتاة التى مهدت لزواج معلن بين عالم الطير الذى تمثله ابنة حورة وشقيق حاكم دولة اللاجئين، يفرح الجميع فيه ويباركه صفى الدين وتعقد بواسطته هدنة إلى حين.
وأيضًا بينما يقص حليم قصة كورونا وتخط يمينه التاريخ الذى سيظل بمثابة الذاكرة الجديدة والسِفر المقدس الذى يمثل المتكأ والملاذ للوعى الجمعى بعد حرق الصور الفوتوغرافية ومنع وسائل التواصل الاجتماعى، تجده يكتب ذاك الكتاب بناءً على أوامر العمالقة السبعة الذين يحكمون مصر بواسطة الميزان والريشة بما لهما من رمزية فى ترجيح كفتى الخير والشر وتسجيلهما.
هؤلاء العمالقة وغيرهم من أبناء حورة الذين يمتلكون- على العكس من أمهم – رؤوس الطير وأجساد البشر، ويكون حكمهم انعكاسًا لأحوال الرعية، فإن صلحوا وسارعوا فى الخيرات وجدوا الخير حاضرًا، فيقول أحد السبعة وصوته يتردد صداه فى الميدان: (… نحن الإخوة السبعة، أبناء السيدة المحترمة حورة، سنحكمكم سبع سنين بالعدل إن عدلتم، وبالفضل إن تفضلتم، وبالظلم إن ظلمتم، فما نحن إلا انعكاس لأفكاركم وسلوككم، فارجعوا إلى بيوتكم وكونوا حذرين، فهذا هو اليوم الأول فى السنة الأولى من حكم أبناء حورة).
– الأسلوب: اعتمد الكاتب أسلوب التعددية السردية – كما أسلفنا- مع استخدام التقطيع الزمنى على طول تتابعية القص، كما تداخلت الأصوات الساردة فى أماكن مختلفة فى الوقت ذاته، أو وجدت فواصل زمنية قد تصل إلى عشرات السنوات بين قصة وأخرى لا يفصل بينهما غير سطر أو سطرين.
كما عمد الكاتب فى الجزء الأول من روايته إلى انتهاج الأسلوب التفاعلى المباشر فيما بينه وبين القارئ، وقد لجأ بعض الكتاب إلى ذلك الأسلوب، فتجده يقطع قصته ليباغت المتلقى بسؤال ويعاود التقاط الفكرة الاستنباطية ليستكمل أطروحته، ولعل من أبرز الأمثلة التى تتبادر إلى الذهن والتى تمثل ذلك اللون من القص، رواية جيرالد مُورنِن الأشهر (مليون نافذة) وإن بدا أسلوب كمال أكثر حميمية وأوثق شدة إلى روح القارئ؛ فمثل بأسئلته وأجوبته دور الراوى أو الحكاء قبل أن يتخلى عن مهمته ويلقيها على عتبات رماح فى الجزء الثانى من الرواية والذى سماه (حور ونور).
كما جاء السرد والحوار بشكل متجانس وإن طغى الحوار الداخلى والخارجى (المونولوج والديالوج) ومثل إحدى نقاط القوة ولا عجب فى ذلك ونحن إزاء سيناريست يردد الجمهور جمله الحوارية التى قيلت على لسان الشيخ كمال فى الرحايا والشيخ سلام فى شيخ العرب همام وقصبى ونوس، أو المثال الأقرب لنا جميعًا (عرفات) جزيرة غمام، ويتلقف تجليات أحد أخلص أبناء الزاوية التيجانية من دون الاتهام سابق التجهيز ونقد الغلو والكرامات والنفحات.
– الشخصيات: كما ظهرت شخصيات شيوخ الصوفية فى الأعمال السابقة ظهرت أكثر جلاء فى حالة الشيخ صفى الدين، ذلك التقى الذى جمع بين المحبين وحاول تأليف القلوب عبر عناقيد العنب بما لتلك الفاكهة من رمز عند الصوفية ودأبهم على استعماله فى ألفاظهم التوفيقية الدالة على المحبة الإلهية بمصطلحين يسيطر عليهما التقابل الوجدانى، فعندهم السكر يقابله الصحو، كما أن البسط يقابله القبض، صفى الذى كان له من اسمه كل الحظ، حتى وقع الصدام فيما بينه وبين أمجد فحاول استغلاله لتدعيم ملكه فرفض، كما ظهرت شخصيات مثلت فى رمزيتها الكثير من الدلائل كلهب التى مثلت الغواية أو الخطيئة وعليا التى أحبت الرياحى بصدق، ذلك المعلق قلبه فى مهب ريح بين حبيبتين، والأعمى والأصم والكسيح الذين تم شفاؤهم بمعجزة الحب الذى جمع بين قلبى الطائر حورة وجمال الإنسى.
كما جمع قبل ذلك بين قلب طاهر والأوزة نورا (وإذا به يجد نفسه فى غرفة بلا سطح، داخلها إوَزَّة بيضاء شديدة الجمال، كان هو وهى فقط فى تلك الحجرة المشمسة، ولما أقبل نحوها مسرعًا بسكينه الحاد لم تجرِ، بل ظلت ساكنة حتى أمسك بها واحتضنها، وقبل أن يمرر سكينه على رقبتها همست بمنقارها: أحبك يا طاهر…) وعندها عم الحب بدعوة من فؤاد الطير، وتوقف سيل الدم عندما أنصت الإنسان ولبى نداء قلبه.
هوامش:
– * منطق الطير، فريد الدين العطار ترجمة وتعليق د/ بديع محمد جمعة – آفاق للنشر والتوزيع. ط.أ ٢٠١٥ صـ ١٣٢.
– نقد التصوف، د. أحمد قوشتى. مدارات للأبحاث والنشر ط.أ ٢٠١٤.
– ثقافة النص دراسات نقدية، د. أحمد عادل عبد المولى، الهيئة العامة للكتاب. ط. أ ٢٠١٥.
– روايات عربية قراءة مقارنة، د. سيزا قاسم الهيئة العامة ٢٠١٩.
– من المشرق والمغرب- بحوث فى الأدب، د. شوقى ضيف، دار المعارف ٢٠٠٩.
– الرمز الشعرى واغتراب اللغة فى المنظور الصوفى، د. شعبان أحمد بدير، دراسة مقارنة.
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
بين بينخاص- ثقافات *محمد مراد أباظة لستُ متشائماً يا صديقي إلى حدّ الاستقالة من حيّز أمل…
-
بين امرأتين*زاهي وهبيإذا اعتبرنا الفنّ في بعض جوانبه نوعاً من التعويض عن نقصانٍ ما، أو عن…