-
ياسر علي
لا يمكن أن نذكر الشّعرَ والثقافةَ الفلسطينية من دون أن يكون محمود درويش على رأس القائمة.
صار رمزاً من رموز القضية الفلسطينية والثورة الفلسطينية. وهو بلا شك نجم من نجوم الثقافة الفلسطينية والعربية والعالمية، حجز مكانه بين الكبار. وذلك لعدة أسباب ساهمت في تحقيقه هذه الكاريزما الطاغية، ليس فقط على أقرانه الأربعة في موجة النهضة الثالثة (راشد حسين وسالم جبران وتوفيق زياد وسميح القاسم)، بل على كل شعراء فلسطين. هذه الأسباب فَصّلتها في مقالة سابقة لي، وفسّرتها في برنامج ثقافي على إحدى الفضائيات، لست في صدد تكرارها، ولكنها باختصار تقارن بين مسيرته ومسيرة شاعر العرب الأكبر أبي الطيب المتنبي.
شاعرٌ ساهم بانتشارِ مسيرتُه المليئةُ بالأحداث المفعمة بتأثير الثورة في عصر كاريزما الثورات الأممية. من بداية حياته قبل النكبة، ثم كلاجئ فعائد فمقيم تحت الاحتلال، فخارج من ضيق الأرض المحتلة إلى سعة الثورة الفلسطينية، حيث كانت قد سبقته شهرته.. كان دائماً يتحرك بالوقت المناسب. نصحَ راشد حسين أن لا يغادر، فغادر بعده. لكن وقت مغادرة راشد لم يكن مفيداً له، بل خرج سراً دون احتفاء به. في حين خرج درويش باحتفالات كبيرة في القاهرة وبيروت، قدمته كشاعر الأرض المحتلة الناجي من الاحتلال ومعه قصيدته الشهيرة “سجّل أنا عربي”، وبموهبته التي ستثبت لاحقاً علوّ كعبها.
مسيرته الأدبية تشابهت مع مراحل حياته النضالية:
في الأرض المحتلة كان رومانسياً في الستينيات، وعند خروجه من فلسطين في فترة صعود الثورة الفلسطينية في السبعينيات اتسم شعره بالصفة الإنسانية. وفي المرحلة الثالثة، بعد الخروج من بيروت جنح إلى الفلسفة والوجودية في الثمانينيات. وفي التسعينيات تابع باتجاه العالمية والثقافات المتنوعة، وهو ما سماه بعض الكتَاب “ظاهرة النَّوْبَلَة” نسبة إلى جائزة نوبل.
بِيع من كتبه ملايين النسخ، وتُرجمت إصداراته إلى 22 لغة، من بينها العبرية. وكان الشاعر الفلسطيني الوحيد الذي تكفيه مبيعات كتبه ليعيش منها ميسوراً من دون مهنة أخرى، والشاعر العربي الثاني بعد نزار قباني. وهما الشاعران النجمان اللذان كانت أمسياتهما الشعرية تضيق بالحضور من مختلف الأجيال.
غني عن التعريف
هو شاعرٌ فلسطيني ولد عام 1941 في قرية البروة القريبة من مدينة عكا، لجأ إلى لبنان في العام 1948 وعاد متسللاً إلى فلسطين عام 1949 بعد توقيع اتفاقيات الهدنة وقبل المسح الإسرائيلي للسكان لتوزيع بطاقات الهوية. ووجد قريته مدمّرة، فسكن مع عائلته في قرية “الجديدة”.
درس في كفرياسيف وانتسب إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، وعمل كزملائه في صحافة الحزب مثل “الاتحاد” و “الجديد” التي أشرف على تحريرها، كما اشترك في تحرير جريدة “الفجر” التي كان يصدرها حزب “مبام” اليساري.
في عام 1970 انتقل درويش مُسافراً إلى مُوسكو لإكمال تعليمه الجامعي، لكنه لم يعد إلى فلسطين، بل انتقل عام 1971 إلى القاهرة، فمكث فيها سنوات قليلة، وبعد ذلك سافر إلى العديد من الدول الأوروبية والعربية، وحصل فيها على مناصب رفيعة في الجانب الإعلاميّ والسّياسيّ لكونه أحد أهمّ شعراء فلسطين.
في بيروت، عمل درويش مُحرّراً في مجلّة شؤون فلسطينيّة حتّى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، بعد الخروج من بيروت أصبح رئيساً للتحرير في قبرص لمجلّة الكرمل ذات التأثير الثقافي الكبير. كما شغل درويش رئاسة رابطة الكُتّاب والصّحفيّين الفلسطينيّين. وشغل منصب عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. لم يوافق على تفاهمات أوسلو في البداية ثم ما لبث أن وافق عليه وعاد إلى رام الله.
الجوائز والأوسمة
حصل الشاعر محمود درويش على عدة جوائز منها جائزة لوتس عام 1969، جائزة البحر المتوسط عام 1980، دروع الثورة الفلسطينية عام 1981، لوحة أوروبا للشعر عام 1981، جائزة ابن سينا في الاتحاد السوفياتي عام 1982، جائزة لينين في الاتحاد السوفياتي عام 1983، جائزة الأمير كلاوس (هولندا) عام 2004، جائزة سلطان العويس الثقافية مناصفة مع الشاعر السوري أدونيس عام 2004. وكان مرشحاً قوياً لجائزة نوبل من الجهات العربية. وتولى رئاسة لجنة جائزة القدس للثقافة والإبداع التي أسستها السلطة الفلسطينية في رام الله.
توفي درويش في 9 آب (أغسطس) 2008 في الولايات المتحدة إثر خضوعه لعملية جراحية في القلب بمركز تكساس الطبي في هيوستن، ودفن في رام الله في قصر رام الله الثقافي الذي أصبح يحمل اسم الشاعر.
الانقسام الداخلي
لم يكن الخلاف بين المعارضين والموالين على القيمة الإبداعية لدرويش.. فقد شهدت شبه إجماع بين المتحاورين، لكن الخلاف دار حول ثلاثة محاور:
1 ـ الموقف الديني من درويش وشعره، الذي بناه البعض على موقف درويش من الدين نفسه.
2 ـ الموقف السياسي الداخلي، حيث إنه هاجم الإسلاميين قبل وفاته في مناسبتين، يقولون إنه بثّ فيهما عليهم سموماً كثيرة. والمناسبتان هما: أحداث الانقسام في غزة وقضية كتاب “قول يا طير” المزعومة، التي أدلى برأيه المتسرع بها، وتبيّن أنها زوبعة في فنجان.
3 ـ الموقف الوطني، الذي تجلى في زيارته لحيفا بتأشيرة إسرائيلية وإلقائه الشعر في أمسية أحدثت انقساماً كبيراً بين المثقفين العرب، من فلسطينيي الـ48 حتى أوسع الدوائر الثقافية العربية.
آثاره الشعرية
قاربت الإصدارات الشعرية لمحمود درويش على نحو الثلاثين إصداراً، وهي:
“عصافير بلا أجنحة”، عكّا 1960. “أوراق الزيتون”، حيفا 1964. “عاشق من فلسطين”، حيفا 1966. “آخر الّليل”، عكّا 1967م “يوميّات جرح فلسطينيّ”، بيروت 1969. “العصافير تموت في الجليل”، بيروت 1970. “كتابة على ضوء بندقيّة”، بيروت 1970. “حبيبتي تنهض من نومها”، بيروت 1970. “مطر ناعم في خريف بعيد”، عكا 1970. “أحبُّك ولا أحبُّك”، بيروت 1972. “محاولة رقم 7″، بيروت 1973. “تلك صورتها وهذا انتحار عاشق”، بيروت 1975. “أعراس”، بيروت 1977. “مديح الظلّ العالي”، بيروت 1983. “حِصار لمدائح البحر”، بيروت 1984. “هي أغنية هي أغنية”، بيروت 1986. “ورد أقلّ”، بيروت 1986. “أرى ما أريد”، بيروت 1990. “عابرون في كلام عابر” 1991. “أحد عشر كوكباً”، بيروت 1992. “لماذا تركت الحصان وحيداً”، بيروت 1995. “سرير الغريبة”، بيروت 1999. “جدارية”، بيروت 2000. “حالة حِصار”، بيروت 2002. “لا تعتذر عمّا فعلت”، بيروت 2004. “كزهر الّلوز أو أبعد”، بيروت 2005. “أثر الفراشة”، بيروت 2008. “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”، صدر بعد وفاته في بيروت 2009. “الأعمال الكاملة” ثلاثة أجزاء، بيروت صدرت متفرقة.
آثاره النّثريّة
“شيء عن الوطن” 1971. “يوميّات الحزن العاديّ” 1973. “وداعاً أيّتها الحرب، وداعاً أيّها السّلام” 1974. “ذاكرة للنسيان” 1987. “في وصف حالتنا” 1987. “في انتظار البرابرة” 1987. “الرسائل محمود درويش و سميح القاسم” 1989. “في حضرة الغياب” 2006. “حيرة” 2007. “مقالات مجلة اليوم السابع” 2021.
أبيات شِعريّة لمحمود درويش من قصيدة أحِنُّ إلى خُبز أُمّي: [١٣]
أحِنّ إلى خبز أمّي، و قهوة أمّي، و لمسة أمّي.. و تكبر في الطّفولة يوماً على صدر أمي.. وأعشق عمري لأنّي إذا متّ، أخجل من دمع أمي! من قصيدة أيّام الحُبّ السّبعة:[١٤]
الاثنين: موشح أمرُّ باسمك، إذ أخلو إلى نفسي كما يمرُّ دمشقيّ بأندلُس.. هنا أضاء لك الُليمون ملح دمي، وهاهُنا وقعت ريح عن الفرس، أمرُّ باسمك، لا جيش يُحاصِرني ولا بلاد. كأنّي آخر الحرس أو شاعر يتمشّى في هواجسه.
نماذج من شعره
العصافير تموت في الجليل
نلتقي بعد قليل
بعد عامٍ بعد عامين وجيلْ..
ورَمَتْ في آلة التصوير
عشرين حديقهْ
وعصافيرَ الجليل.
ومضتْ تبحث، خلف البحر،
عن معنى جديد للحقيقة.
وطني حبل غسيل لمناديل الدم المسفوك
في كل دقيقهْ
وتمددتُ على الشاطئ رملاً.. و نخيلْ.
عابرون في كلام عابر
أيها المارُّون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صورٍ كي تعرفوا
أنَّكم لن تعرفوا كيف يبني حجرٌ من أرضنا سقفَ السماءْ
أيُّها المارُّون بين الكلمات العابرة
منكمُ السيف ـ ومنَّـا دمنا
منكمُ الفولاذ والنار ـ ومنَّـا لحمنا
منكمُ دبابة أخرى ـ ومنا حجرُ
منكمُ قنبلة الغاز ـ ومنا المطرُ
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقصٍ.. وانصرفوا
فعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداءْ..
وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء!
أيها المارُّون بين الكلمات العابرة
كدِّسوا أوهامَكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس
أو إلى توقيت موسيقى مسدس
فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم:
وطن ينزف شعباً ينزف وطناً يصلح للنسيان أو للذاكرة
أيها المارُّون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم
ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا وتموتوا أينما شئتم
ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضِنا ما نعملُ
ولنا الماضي هنا ولنا صوت الحياة الأولُ
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبلُ
ولنا الدنيا هنا… والآخرة
فاخرجوا من أرضنا من برنا..
من بحرنا، مِن قمحنا..
مِن ملحنا، مِن جرحنا
من كل شيء،
واخرجوا من مفردات الذاكرة
مديح الظل العالي
ماذا تريدُ؟
سيادةً فوق الرَمَادِ؟
وأنت سَيَّدُ رُوحِنَا يا سَيِّد الكينونّةٍ المتحوِّلّهْ
فاذهب..
فليسَ لك المكانُ ولا العروش / المزبَلَهْ
حُرّيَّةُ التكوين أنتَ
وخالقُ الطرقات أنتَ
وأنت عكسُ المرحلَهْ
واذهبْ فقيراً كالصلاةِ
وحافياً كالنهر في درب الحصى
ومُؤَجَّلاً كقرنفُلَهْ
لا، لستَ آدم كي أقول خرجتَ من بيروت أو عَمَّانَ أو
يافا، وأنت المسألَهْ
فاذهب إليكَ “فأنَتَ أوسعُ من بلاد الناسِ” أوسعُ من فضاء
المقصلَهْ
مستسلماً لصواب قلبكَ
تخلعُ المدنَ الكبيرةَ والسماءَ المُسْدَلَهْ
وتمدُّ أرضاً تحت راحتك الصغيرة،
خيمةً
أو فكرةً
أو سنبلَهْ
واصْعَدْ معي
لِنُعيْدَ للروح المُشَرَّد أوَّلَهْ
ماذا تُريد؟! وأنت سَيِّدُ روحنا
يا سَيِّدَ الكينونة المتحوِّلَهْ
يا سَيِّدَ الجمرهْ
يا سَيِّدَ الشُّعْلَهْ
ما أوسع الثورة
ما أضيقَ الرحلة
ما أكبَرَ الفكرة
ما أصغَر الدولة!
*كاتب وشاعر فلسطيني
سيادةً فوق الرَمَادِ؟
وأنت سَيَّدُ رُوحِنَا يا سَيِّد الكينونّةٍ المتحوِّلّهْ
فاذهب..
فليسَ لك المكانُ ولا العروش / المزبَلَهْ
حُرّيَّةُ التكوين أنتَ
وخالقُ الطرقات أنتَ
وأنت عكسُ المرحلَهْ
واذهبْ فقيراً كالصلاةِ
وحافياً كالنهر في درب الحصى
ومُؤَجَّلاً كقرنفُلَهْ
لا، لستَ آدم كي أقول خرجتَ من بيروت أو عَمَّانَ أو
يافا، وأنت المسألَهْ
فاذهب إليكَ “فأنَتَ أوسعُ من بلاد الناسِ” أوسعُ من فضاء
المقصلَهْ
مستسلماً لصواب قلبكَ
تخلعُ المدنَ الكبيرةَ والسماءَ المُسْدَلَهْ
وتمدُّ أرضاً تحت راحتك الصغيرة،
خيمةً
أو فكرةً
أو سنبلَهْ
واصْعَدْ معي
لِنُعيْدَ للروح المُشَرَّد أوَّلَهْ
ماذا تُريد؟! وأنت سَيِّدُ روحنا
يا سَيِّدَ الكينونة المتحوِّلَهْ
يا سَيِّدَ الجمرهْ
يا سَيِّدَ الشُّعْلَهْ
ما أوسع الثورة
ما أضيقَ الرحلة
ما أكبَرَ الفكرة
ما أصغَر الدولة!
-
عن موقع عربي 21