“دفاتر الورّاق” لجلال برجس: بلاغة التعدُّد الصَّوتي ونقد العالم الباطني للمدينة
د. محمد عبيدالله
تُعيدُنا رواية (دفاتر الورّاق)، (منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2020) إلى صلة الرواية بالمدينة المعاصرة، وتؤكّد في مجمل طرحها وطريقة معالجتها أنَّ الرواية جنس أدبي يمتلك قدرة فائقة على تناول العالم المديني المعقّد، وعلى إمكانية تقديم قراءات متعدّدة في مكوّنات هذا العالم وفيما يخبِّئه من بلاغة المهمَّش والمسكوت عنه، ففي هذه المناطق تتخفّى خيوط السرد التي تتحدّى ممكنات الرواية، فيغدو من مهمّتها أن تكشف كثيرًا أو قليلًا من العالم الباطني للمدينة المعاصرة التي يبدو أنَّ تناقض ظاهرها مع باطنها مرض جسيم لا شفاء منه، وهو يتسبَّب بكثير من أزمات النفس البشرية في عصرنا المضطرب.
وإذا اقتربنا أكثر من الرواية على مستوى الرُّؤية، فيمكننا تكثيف القضية الأساسية لها في إقدامها على الكشف العميق عن جوانب من عالم المدينة، مدينة عمّان، كأنها تتخذها مثالًا للمدينة الحديثة، وتتأمّلها من منظور نقدي تتيحه الرواية، وتبعد بذلك عن مجاملات الوصف البرّاني؛ فليس الروائي زائرًا أو سائحًا يصف ظواهر الصور، بل من أكبر مهمّاته أنْ يتعمّق في الظواهر المعقدة التي تخبئها مدينتنا المعاصرة دون مداورة أو مجاملة، ونرى أنَّ هذه الرواية تحاول فيما تحاول أن تستكشف بعض أسباب التشوُّه والتمزُّق الذي أصاب المدينة العربية على الصعيد الإنساني والاجتماعي، فيما ظاهرها الاقتصادي والتكنولوجي والمعماري يوحي بالتقدُّم والتوسُّع والتطوُّر. معظم الشخصيات لديها علاقات ممزَّقة في مستوى فقدان الأمومة أو الأبوة أو كليهما، وفي مستوى الانتماء الاجتماعي والسياسي، وتبعًا لهذا فإنَّ علاقات الحب والاجتماع الإنساني محكومة بالتمزّق أيضًا، فما من علاقة سليمة أو عفيّة، بل هي مَرَضيّة أو تعويضيّة في أفضل الصور.
ونحسب أنَّ واحدة من وظائف الرواية الكبرى؛ أن تجتهد في البحث عمّا هو إنساني، وأن تنقد التشوّهات التي تصيب المجتمعات الحديثة، وخصوصًا في عصر العولمة وعصر ما بعد الحداثة، بما فيها من اغتراب وتشيّؤ، وإحساس عام بفقدان اليقين والطمأنينة. ولقد نهضت رواية (دفاتر الورّاق) على هذه المواجهة الحادة بين الإنسان وعصره ومدينته، وهي في رأينا واحدة من روايات قليلة راهنة واجهت واقعنا بوعي نقدي، وبرؤية تعي علاقة الإنسان بالمكان، بعيدًا عن وهم التقديس والتصنيم المجاني، وبعيدًا أيضًا عن الحنين الرومانسي، وأجادت قراءة الواقع ونقده دون مجاملة، مع وضعه في سياقه التاريخي على المستوى الإقليمي (العربي) وعلى المستوى العالمي (الدولي)، إلى جانب الالتفات إلى ماضيه القريب من خلال تتبُّع ماضي الشخصيات وجذور تكوّنها في بيئات بدوية وريفية قبل أن تنضمّ إلى المدينة وتظلّ مهمّشة فيها على الرغم ممّا تمتلكه من تطلعات ومن معارف وتصورات لم تجد فرصة لاختبارها وتطويرها، لأسباب متشعبة تعرض الرواية بعضها، من مثل: القمع السياسي، والتفاوت الطبقي، والفساد، واضطراب معايير العدالة والنزاهة، وصولًا إلى بعض المشكلات الحادة من مثل مشكلة الهويّة وتشوُّشها واضطرابها لأسباب كثيرة، وقد أنتج هذا الواقع المضطرب كائنات مفزوعة على الرغم من تضحياتها الجسيمة.
إنَّها رواية بليغة في تصوير التشوُّه، والتعمُّق في أسبابه ورصد مظاهره. ويمكن القول في ضوء ما سبق إنَّ هذه الرواية تنتمي إلى أدب (الديستوبيا) وتبعد عن (اليوتوبيا)، أي أنها تجعل توصيف فساد المدينة المعاصرة وتناقضها ومفارقاتها ميدانًا لنقدها وتحليلها من خلال شخصيات دالّة مختارة، وشبكة علاقات معقّدة تكشف عن أبعاد التمزُّق والوهن والاغتراب.
وجاء تشكيل الرواية: بناء، ولغة، وتقنية، وتركيبًا، وحبكات، ملائمًا أو متكيّفًا مع رؤيتها الممتدة، وأوّل ما استندت إليه أنها استعادت سمة “التعدُّد الصوتي”، تلك السمة التي طالما شرحها الناقد العظيم (ميخائيل باختين) وبشّر بها في مؤلّفاته بوصفها أهم عنصر في معمار الرواية وأساس بنائها الموضوعي والأسلوبي، وأنها ما يجعل الرواية روايةً بحقّ، وعلى أساسها قرأ روايات (دوستويفسكي) بوصفه مثالًا فذًّا على جماليات هذه السمة الكبرى. وقدّم نجيب محفوظ مثالًا عربيًّا راقيًا للتعدّد الصوتي، ومن اللافت أنَّ رواية (دفاتر الورّاق) قد استعادت في مراياها كلا الكاتبين الكبيرين، دوستويفسكي في رواية (الأبله) بخاصة، ونجيب محفوظ في (اللص والكلاب) وفي (الثلاثيّة) في مستوى عميق من مستويات قراءة الرواية الجديدة للمتون الروائية السابقة. وتلفتنا هذه الظاهرة وننبّه إلى أهميّتها وحيويّتها، بعدما دخلت الرواية العربية في العقود الأخيرة ممرًّا ضيقًا هو ممرّ “التذويت” بحجة علوّ الفردية وإبراز روح الفرد المعاصر، ولكن (دفاتر الورّاق) تبرز لنا جماليات التعدُّد، وبلاغة التنوُّع، وتنبئ بأنَّ اتجاهات التذويت والشعرية مكانها الشعر، والخاطرة، والنصوص النثرية ذات المنزع العاطفي، أمّا الرواية فدرامية بطبيعتها وخياراتها، وعاطفيتها عاطفية الموقف، وغنائيتها غنائية الحدث. وقد تمكّنت رواية (دفاتر الورّاق) من نسج صيغة متطوِّرة من التعدُّد الصوتي، تبعًا لإنشاء السرد من منظور شخصيات متعددة وليس شخصية واحدة، فبالرّغم من وجود “إبراهيم الورّاق” بطلًا رئيسًا أو شخصية مركزية فقد حرص الرِّوائي على حضور مجموعة من الشخصيات لا تقل وظيفة وحيويّة عنه.
وتنقلنا صلة دفاتر الورّاق بالروايات العالمية والعربية السابقة إلى محاولة الإلماح إلى دورها في بناء الرواية، فلقد ذكرت الرِّواية طائفة واسعة من الروايات والكتب والشخصيات والمواقف المنتقاة التي تشكِّل بمجموعها ثقافة نوعيّة للرواية، وهو ما يذكِّرنا بأهميّة الثقافة في الرواية، وهو ما يتيح لها أن تتحاور مع تاريخ جنسها الأدبي وعيون الروايات فيه، وقد جاءت هذه العلاقة متينة في (دفاتر الورّاق) استنادًا إلى مهنة بطلها الأخيرة وصلته الوثقى بالكتب وشغفه بالقراءة، حتى غدت جزءًا من عالمه وعزلته، وتجاوز بسبب ذلك الحدود العادية للقراءة إلى درجة التفاعل والتأثر بالشخصيات التي أعجب بها، أضف إلى ذلك ما أسبغته عليه الرواية من ميل إلى المحاكاة والتقمّص منذ طفولته، فاجتمع له أمران مهمان سوّغا استدراج الرواية لمجموعة من المواقف المختارة من روايات كبرى، لتندمج تلك المواقف والشخصيات في شخصيته، ويقْدِم بوحي منها وبتأثير من قرينه وصوته الداخلي على مجموعة من المغامرات في مرحلة اللصوصية والجريمة والكوابيس التي وصل إليها بعد تفاقم أزماته ومعاناته. هذه السمة تحتاج إلى دراسة مفصَّلة لبيان تجاوزها لحدود التناص المتعارف عليه في دراسة النصوص الأدبية، ولنقله إلى مستوى متقدم من ظاهرة “الميتاسرد”، على مستوى الجنس الأدبي بوصفه سياقًا أوسع للرواية، وعلى مستوى ميل الرواية إلى تصديق نفسها ومكونات عالمها واستعادة بعض أحداثها ومواقفها لتغدو ذات وظيفة أخرى في موقع آخر، من مثل كوابيس “إبراهيم الورّاق” التي سجّلها في دفتره ومذكراته، واتخذ منها المحققون دليلًا على احتمال ارتكابه الجرائم التي وقعت بحق بعض شخصيات الرواية، من فئة الأشرار أو المستغلين أو المتسببين بفساد المدينة.
وقدّمت (دفاتر الورّاق) صورة جديدة من صور بلاغة القطاع المهمّش المتمثل في معظم شخصيات هذه الرواية، بمن فيهم “إبراهيم الورّاق” الشخصية الرئيسة، فإلى جانبه شخصيات لا تقل أهمية وحضورًا عن شخصيته: “ليلى” ورفيقاتها ورفاقها أبناء الملجأ، ممّن وجدوا أنفسهم في عالم ظالم لا ذنب لهم فيه، سوى أنهم وُلدوا لقطاء في عالم المدينة وعلاقاته المضطربة. وهناك شخصية “جادالله” والد “إبراهيم” التي تحضر من خلال دفتر خاص يشبه أن يكون رواية أو سرديّة نوعيّة مغايرة للغة “إبراهيم” ولغة مدينته، وهناك “السيدة نون” أو “ناردا” الصحافية التي قدمتها الرواية بوجوه مختلفة وجعلتها -إلى جانب تجربتها وسرديّتها الخاصة- شاهدًا على جيل الأب “جادالله” والابن “إبراهيم” معًا، ولم تتجمّع في شخصية واحدة إلا قريبًا من نهاية الرواية.
ومع حمولتها الواقعية فقد تميّزت (دفاتر الورّاق) بحبكات التشويق والمتعة الروائية التي اشتغلت عليها الرواية بذكاء ومكر إبداعيين، فمزجت بين تقنيات الحبكات البوليسية المتمثلة في الميول إلى الجريمة وارتكابها واقعًا أو خيالًا، وحوادث سرقة المصارف وبيوت الأثرياء، وحوادث الانتحار ومحاولاته، وهي مسبّبة بتناقضات الشخصيات واضطرابها النفسي، نتيجة صدامها الحاد مع واقعها، وما خلّفه من أزمات وتشوّه نفسي، (انتحار الأب جادالله، انتحار ابن الجارة العجوز أنيسة بسبب غرقه في الديون…) ومحاولات “إبراهيم” الانتحار، ومحاولات “السيدة نون”… إلى جانب حوادث القتل والموت والمرض، وغير ذلك من حوادث ذات طابع درامي قوي. يضاف إلى ذلك مقدرة الرواية على التفنُّن في التأجيل والإرجاء، ممّا يسمح بعدم كشف الخيوط دفعة واحدة، وإنَّما كشف ما هو ضروري منها في موقعه، ومن البيّن أنَّ الحبكة تعرَّضت لغير قليل من النسج المشوق الذي جعلها تتجاوز مخاطر الرواية الممتدة أو الطويلة مع المحافظة على عناصر الجذب والتشويق.
ومن اللافت أنَّ شخصيات الرواية بمقدار نزعتها الناقمة والناقدة والرافضة للواقع، فإنها قد أفادت من كثير من مكتسبات المرحلة الراهنة، وبوجه خاص اهتمامها بتأثيرات الثقافة الرقمية، وإدماجها مكوّنًا بارزًا في النص الروائي، فغدت مواقع التواصل وتقنياتها وطرق اختراقها والوصول إلى المعلومات من خلالها جزءًا لافتًا في حبكة الرواية وسلوك شخصياتها، وعلى سبيل المثال فلقد كوّن “إبراهيم الورّاق” لنفسه هوية رقمية على مواقع التواصل باسم (ديوجين) وهو اسم فيلسوف إغريقي قديم من روّاد المدرسة (الكلبية). وقد أحسنت الرِّواية توظيف هذه الهوية لتشغل حيزًا بيّنًا فيها، فتسهم في تطويرها وتسهم في قوة جاذبيتها وتشويقها. وتبادل ”إبراهيم” رسائل كثيرة من خلال هاتفه مع طبيبه “يوسف السماك” الذي تكشّف عن شخصية معقّدة لها معاناتها القاسية المخبأة أو المكتومة، بسبب عدم اعتراف والده بنسبه، وأنه يعيش منسوبًا إلى رجل آخر ليس والده الحقيقي، وهو على الرّغم من عمله في الطب النفسي لم يشفَ من اضطرابه، ولم يحقّق هويته، فظلت هوية مضطربة مشوشة بسبب اختلال الانتماء في مجتمع يقدِّس الأصول ويقيم لها اعتبارًا عاليًا.
وفي الرواية مساحة رحبة للتحليل النفسي على أساس مبادئ “فرويد” و”يونغ”، وقد جاء ذكرهما مرارًا في الرواية، وحضر فيها مبدأ القرين الذي يتراءى لإبراهيم الورّاق في تخيُّلاته أو تهيؤاته، ظلّ يسمع صوت قرينه وشكَّل هاجسًا مسيطرًا عليه، ومصدره المرض النفسي الذي يتراوح بين الاكتئاب والوسواس القهري، نتيجة الخوف الذي تربّى عليه، ونتيجة الخيبات التي مني بها، هذا المبدأ أو الهاجس المسيطر شكَّل وظيفة ملحوظة في الرواية. وأحيانًا يتبادل معه الأدوار؛ فهو ليس إلا صورة أخرى من صور نفسه أو انشقاقه أو حتى انفصامه في مرحلة متقدمة من مرضه. تقنيًّا أسهم القرين في جعل الحوار الداخلي ثنائيًّا، للتنويع على تقنية المونولوج وتيار الوعي، وهما تقنيتان متداخلتان حاضرتان إلى جانب الحوار مع القرين.
ويمكننا أن نلاحظ تقنية المخطوطات أو الدفاتر المتنوعة: وبوجه خاص الدفاتر أو المخطوطات الرئيسة التي وظّفتها الرواية تقنيةً أساسيةً سمحت لها بتقديم الرواية من عدّة منظورات، فكانت عنصرًا منسجمًا مع مبدأ التعدد الصوتي: الدفتر الأول دفتر “إبراهيم الورّاق”، وهو أكبر الدفاتر وأشملها، كتبه “إبراهيم” بعد الفراغ من تجربته واستقراره في مستشفى الأمراض العصبية، والدفتر الثاني دفتر الصحافية أو “السيدة نون” الذي يضمّ مذكّراتها وقد عثر عليه “إبراهيم” أول الأمر عندما صادفها في العقبة عند الجسر الذي كان ينوي الانتحار بقربه، والدفتر الثالث دفتر الأب “جادالله” الذي احتفظت به المرأة نفسها، وسجّل فيه ما يشبه الرواية السيرية عن أسرته وحياته قبل الانتقال إلى عمّان، وتبيّن أنها أحبّته وتزوّجته قبل أن يتحوّل إلى العنف معها وطلاقها تحت ضغط أزماته وكبر سنّه وخيباته المركّبة وانتهاءً بانتحاره أو مقتله.
وتبدو لنا هذه الروايةُ معتركًا لمعظم التقنيات المعروفة في الجنس الروائي، وهو تحدّ كبير خاضته وخرجت منه سالمة، فإلى جانب ما سبق ذكره يمكننا التذكير بما فيها من تقنيات، مثل: تقنية الرسائل التي حضرت مرارًا في الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين “إبراهيم الورّاق” والطبيب النفسي “يوسف السماك”، وكذلك الرسائل المتبادلة بين “إبراهيم” والصحافية “ناردا” أو ”السيدة نون”. وهناك أيضًا أنماط الكتابة المرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي من تعليقات، وملاحظات، ففي عدة مواقف أدرجت الرواية نصوصًا من كتابات “إبراهيم الورّاق” على موقع (الفيس بوك) ووصفت مهارته في التعامل مع الحاسوب وتقنيات الإنترنت بما فيها المقدرة على الاختراق والحصول على المعلومات وتوظيفها لمصلحته. وهناك تقنية الأحلام والكوابيس التي يمكن أن تكون امتدادًا طبيعيًّا للاهتمام بالإطار النفسي للشخصيات، ونتذكّر أنّ “فرويد” عدّ الحلم والكابوس ونحوهما من المواد المهمّة المرتبطة باللاوعي، ومن خلال الأحلام حلّل الشخصيات وعالج المرضى.
وقد حرَصت الرواية ومن ورائها الروائي على التبادل المتوازن بين عناصر السرد والوصف والحوار وتمثيل الأقوال، فهذه عناصر أساسية في النسيج الروائي، وقد اعتنت الرواية بكل منها وفق ما يقتضيه ذلك من تفصيلات ومن مستويات لغوية وفنّية مركّبة، وتبعًا للوعي بعنصر التعدّد الصوتي جاءت هذه المستويات متباينة أو متعددة لغويًّا، وقد أسهم هذا الوعي بهذه العناصر وبحيوية التبادل بينها، مع مبدأ المخطوطات الذي سبقت الإشارة إليه، إلى ضرب من اللغة الروائية المحكمة أسلوبيًّا، وقد تضافر دور هذه العناصر مجتمعة في إحكام الرواية بمجموعها، وهو ما يشعرك حين تنتهي منها برغبتك في أن تقرأها من جديد.
- عن مجلة أفكار