آدم فتحي: الترجمة هي الأصل

آدم فتحي: الترجمة هي الأصل

حاوره في تونس: محمد الحباشة

بين الشّاعر والمترجم التّونسي آدم فتحي، وبين الكتب التي يُترجمها “علاقة ضيافة واستضافة”، هكذا يُعرِّفُ علاقته بالتّرجمة في حوار للنّاشر الأسبوعي. وهي علاقةٌ تنشأُ في القراءة. فكأنّ التّرجمة إذن، هي أعلى درجات القراءة. فوفق تعبير آدم فتحي “ثمّة شيءٌ جسَدِيُّ في القراءة والكتابة يعبّرُ عن نفسه أفضل تعبير في فعْلِ الترجمة”. كما أنّ “تنوُّع الترجمات من تَنَوُّعِ القراءات”.
وفي معرض حديثه عن إشكاليّة التّرجمة والإبداع، وعن إمكانية اعتبار التّرجمة فعلا إبداعيّا، يرى آدم فتحي أنَّ التّرجمة إبداعٌ حقّ، وحجّته في ذلك هو تعدّد التّرجمات لعمل واحدٍ :”العدد المهول من الترجمات المقترحة لنفس النص في نفس اللغة دليل كافٍ على أنّنا أمام «إبداع».” ويذكر أمثِلةً كثيرة لعلّ أبرزها أزهار الشّر لبودلير وفينومينولوجيا الروح لهيغل ورأس المال لماركس والوجود والزمان لهايدغر.
أمّا في مسألة التّرجمة والآخر، يقول آدم فتحي الحائز على جائزة سركون بولص للشّعر وترجمته سنة 2019، أنّ “الأصل في الترجمة أن تقوم ثقافة الاستقبال بانتقاء ما تحتاج إليه في ثقافة المصدر” فـ”هكذا تكون الترجمة فعّالة لأنّها تُقحِمُ الأعمالَ المُترجمة في النسيج الثقافيّ للبلد المستضيف.” هكذا إذن ترتقي التّرجمة إلى مصافِّ الفعل الإنسانيّ العميق، والحوار الفعّال بين الحضارات والثقافات.
وعن مكانةِ المترجم في العالم العربي، يعتقد آدم فتحي بأنّه مايزال بحاجة إلى اهتمام أكبر وردّ اعتبار، فكأنّ المهمّة النّبيلة التي يقوم بها لا تُجازى بالاعتراف الكافي ويكون قدرُ المترجم أن يكون “خفيّا” دومًا. ومع ذلك يُشدّد آدم فتحي على أنّ ” المترجم هو أحد آباء النصّ كي لا نقول إنّه أبوه الحقيقيّ في لغته الجديدة.”
يُعدّ آدم فتحي من أهمّ الشّعراء والكتّاب والمترجمين التونسيّين والعرب. تتميّز مدوّنته الأدبيّة بموسوعيّة نادرة، تناولت الشعر الفصيح والدّارج والشعر الغنائي والمقالة الأدبيّة والسّياسيّة، فضلا عن التّرجمة. له علاقة بالفنّ التشكيلي والسّينما والدّراما التّلفزية. مارسَ العمل الإذاعي والتّلفزي الثّقافي المهتمّ بالأدبِ والأدباء. يكتب ويعيش الآن بمدينة بن عروس بتونس. كان لنا معه هذا الحوار للنّاشر الأسبوعي حول قضايا وشواغل التّرجمة.
القراءة والتنوّع
1- ما يميّز ترجماتك هو القدرة على التنوع في التجارب التي تشتغل عليها، بين الرواية والفلسفة وأدب الذّات، هل تختار الكتب التي تترجمها أم هي التي تختارك؟
بيني وبين الكتب التي أترجمها علاقة ضيافة واستضافة. من ناحية أخرى أنا آكِلُ كُتب نَهِم ومنفتح على كلّ الأنواع. السلاسل المصوّرة. كُتُب الأطفال. الأساطير والحكايات الشعبيّة. الروايات. الشعر. كتب السيرة. كتب المناقب. كتابات الصوفيّة. الكتب الفكريّة والفنية والعلمية. وكثيرًا ما أفتح المعاجم مثل اللسان والموسوعات مثل أونيفرساليس فأغرق أو أحلّق أو أتسكّع خارج الحدود والوقت. ولعلّ تنوُّع الترجمات من تَنَوُّعِ القراءات. والحقّ أنّي استخدمت عبارة «آكل كُتب» لأنّي قلت أكثر من مرّة إنّ آداب الترجمة قريبة من آداب المائدة. ثمّة شيءٌ جسَدِيُّ في القراءة والكتابة يعبّرُ عن نفسه أفضل تعبير في فعْلِ الترجمة. إضافةً إلى كوننا نترجم كما نقرأ ونقرأ كما نأكل. أي أنّنا نتغذّى بالكتب ونستمتع بها كما نتغذّى بالطعام ونستمتع به. ولعلّنا نترجم الكُتُبَ إلى لغتنا كي نأكلها بأسنانا لا بأسنان مستعارة. وأنا أترجم عمومًا «الأطباق» التي أريد تقاسُمَها مع أحِبّتي ولا علاقة لذلك بالاتفاق أو الاختلاف في الرأي أو الموقف. الترجمة قد تكون علاقة حٌبٍّ مَا لكنّها ليست زواجًا وليست انخراطًا في حزبِ من تترجم له. وقد تترجم كاتبًا لأنّه مناقض لك فكريًّا. لذلك لا أكفّ عن القول إنّي أترجم كتبًا تدعوني حين أدعوها وتختارني من حيث أختارها.
2- هل تختلفُ التّرجمة في جوهرها عن أي عمليّة إبداعية أخرى، وهل تكتفي بمجرّد النّقل، أم أنّها إبداعٌ مثل ممارسة أي جنس أدبيّ آخر؟
الترجمة إبداع والإبداع ترجمة. وإن شئت الدقّة: ليس من إبداع إلاّ وهو ترجمة. وسبق أن قلت: الترجمة هي الأصل. ولا يكتسب النصّ جنسه إلاّ إذا نجح في تحقيق الميثاق المعقود بين الكاتب والقارئ. ولو كانت الترجمة «مجرّد نقل» أو عمَلاً مبنيًّا على العلم لرأينا ترجمات نهائيّة للعديد من النصوص. لكنّ العدد المهول من الترجمات المقترحة لنفس النص في نفس اللغة دليل كافٍ على أنّنا أمام «إبداع». انظر كم تُرجم ديوان أزهار الشرّ من مرّة في لغتنا. والأمر ليس مقتصرًا على الشعر أو على العربيّة. راجع مثلاً عدد الترجمات في الفرنسية لكتب مثل فينومينولوجيا الروح لهيغل ورأس المال لماركس والوجود والزمان لهايدغر والقائمة بلا حدّ. هذا يعني أنّ الترجمة مفتوحة على الإمكان. أستحضر هنا عبارةً لبول ريكور أظنّها من كتابه عن الترجمة، حيث قال ما معناه إنّه لا بدّ من أن نقبل بشيء من الخسارة في أثناء عمل الترجمة، تمامًا كما لا بدّ من أن نقبل بشيء من الفقدان في أثناء عمل الحداد، وإلاّ فشل العملان. مما يضعنا في صميم الكتابة الإبداعية. طبعًا هذا الكلام لا يعجب الإداريّين الذين يحبّون السيطرة على الأمور بواسطة معايير وأدوات إداريّة، ويضيقون بالمسائل الإبداعيّة لأنّها منفلتة ولا يمكنهم السيطرة عليها.
الترجمة والآخر
3- لماذا نشعر بأنّنا أكثر حماسة في ترجمة «الآخر» إلى لغتنا، وأنّ «الآخر» لا يبادلنا نفس الحماسة في ترجمة أعمالنا إلى لغته؟ هل ثمّة عمل ناقص علينا أن نقوم به في هذا المجال؟
أعتقد أنّ هذا الإحساس ناشئ عن الفجوة الفاغرة بين اللهفة والخيبة التي يشعر بها كثير من الكتاب العرب تجاه الترجمة. ثمّة أمور ناشئة عن عقدة الاعتراف تدفع بعض الأفراد إلى اللهاث خلف مرتزقة يترجمون بالدولار أو اليورو. وثمّة أمور أخرى ناشئة عن شهوة السلطة تحثُّ إداريّين في مؤسّسات عموميّة وخاصّة على «الدفع» لترجمة سرديّات رسميّة، أو تُطمِعُهم في «القبض» مقابل تحريك عجلة الترجمة تمويهًا على الجمهور: مترجمون محليّون يترجمون الكتب ويطبعونها محليًّا ويعرضونها على الجاليات المحليّة! الأصل في الترجمة أن تقوم ثقافة الاستقبال بانتقاء ما تحتاج إليه في ثقافة المصدر. أمّا أن تجتمع لجانٌ محليّة تقرّر الكتّاب الذين يجب أن يُترجَموا قبل غيرهم في لغات العالم، فهذا عبثُ إداريّين يفرطون في استعمال السلطة. نحن لا نحبّ أن يختار لنا الفرنسيّون مثلاً الكتب الفرنسيّة التي يجب أن نترجمها. فبأيّ حقٍّ نختار لهم ما يترجمون من كُتُبنا. وهل لهذه اللجان «علم لدنيّ» كي تعرف ما هو الأجدر بالترجمة. ثمّة كتُبٌ عديدة أُلحِقَت محليًّا بقائمة «الكتب الصفراء» فإذا هي بعد الترجمة «نفائس عالميّة». ثمّ إنّ لكلّ ساحة ثقافيّة حيّة مسابرها التي تعرف ما يحقّق متعتها أو يضيء لغتها وفكرها وفنونها وآدابها وعلومها في الثقافات الأخرى. عندئذ تستدعيه إلى لغتها عن طريق مُترجِميها وناشريها وموزّعيها. وتعرضه بعد ذلك في مكتباتها على جمهورها. وقد تدرّسه في جامعاتها. هكذا تكون الترجمة فعّالة لأنّها تُقحِمُ الأعمالَ المُترجمة في النسيج الثقافيّ للبلد المستضيف. وهذا متوفّر نسبيًّا. ولعلّ إحساسنا بعدم توفّره مرتبطٌ بواقع الكتابة في بلادنا قبل أن يرتبط بواقع الترجمة في بلاد «الآخر». على «مسؤولينا» أن يفهموا أنّ الكتاب الذي يصل إلى المترجم هو الكتاب الذي يصل إلى قارئه في بلده أوّلاً. الرفعُ من شأن ثقافتنا داخل الحدود هو وجده الكفيل بالرفع من شأنها خارج الحدود. وهذا يعني ضرورة دعم كتّابنا وناشرينا وقرّائنا، واحترامهم، وتوفير مسالك التوزيع لأعمالهم، وصنع الحدث من حول كُتُبِهم عن طريق الجوائز والمعارض والندوات واللقاءات. ويعني باختصار إصلاح سائر منظومة «سلسلة الكتاب» في بلادنا. عندئذ تنتبه إليه بالضرورة «سلسلة الكتاب» في العالم، وتستدعيه إلى ساحاتها عن طريق الترجمة. هذا هو العمل الناقص حقًّا.
ترجمة الفكر
4- لنبدأ من الكاتب الفرنسي من أصل روماني إيميل سيوران. اشتغلت على نقل العديد من أعماله إلى العربية، ماذا وجدت لدى سيوارن ولم تجده لدى كاتب آخر؟ وهل يمكننا اعتباره فيلسوفا بالمعنى المتعارف عليه؟
لم يدّع سيوران يومًا أنّه فيلسوف أو حكيم. ولم يقترح يومًا وصفات جاهزة يمكن نسخها وتبنّيها. إلاّ أنّه من أكثر الكتاب قدرة على إثارة الأسئلة وعلى إعادة النظر في المسلّمات وعلى منع الفكر من النوم في حلقات مفرغة. أسلحته الوحيدة هي أسلحة الكاتب: لغة وأسلوب لا تخطئهما العين. بتلك اللغة المتشظّية استطاع أن يبني وطنًا بموازاة الجغرافيا. وبذلك الأسلوب الشذريّ استطاع أن يصنع تاريخًا بموازاة الوجود. لقد حوّل المُفارقة إلى نوع من الضحك على العدم والموت والتعصّب الديني والأرق وكذب الطغاة وعبثيّة الحياة والعذاب واليأس والانتحار، وغير ذلك من المواضيع التي ثقلت على غيره فإذا هم يحوّلون جدّيتَها إلى تجهّم. والحقّ أنّي اكتشفت سيوران على الصعيد الشخصيّ في بداية تسعينات القرن العشرين. وسرعان ما انشددت إلى فعله في اللغة والأسلوب ولم تشدّني أفكاره في معظمها. فهو سيّد الانتقال من الشيء إلى نقيضه ونادرًا ما يستقرّ على فكرة. شيئًا فشيئًا شعرتُ بأنّ سيوران «مثير زلازل» بعمَله في اللغة وبالأسلوب أكثر منه صاحب «أطروحات». وأنّه من ثمّ لا بدّ من ترجمته إلى لغة كالعربيّة، بدت لي أيّامها في أمس الحاجة إلى مثير زلازل، وما زالت تبدو لي كذلك إلى اليوم، بالنظر إلى المحن التي ما انفكّ يمرّ بها كتّابها ومفكّروها، في انقلاب على عبقريّتها الجوهريّة وتفتّحها اللذين جعلاها «أُمًّا» من أُمّهات الأنوار الإنسانيّة. لقد بدت لي قراءة نصوص سيوران في لغتها شبيهة بالرقص على ألغامٍ تتفجّرُ من تحت الأوهام والقوالب والبديهيات المزيّفة. فشعرتُ بأنّ قراءتها بالعربيّة قد يساعد هذه اللغة على خلخلة ما تجمَّد منها وإسقاط الكثير من أوراقها الصفراء، التي ظلّت ملتصقة بأغصانها حتى تلبّدت وتحجّرت. لذلك ترجمته.
5- هل يمكننا القول بأنّ إيميل سيوران كاتبٌ أخلاقيّ جاء ليُصلح ما أفسدته أوروبا في الإنسان المقيم فيها، أم هو أبعد من أن يكون كذلك؟
علينا أن نبتعد قليلاً عن الفهم السائد لعبارة «moraliste» اللصيقة بمعظم كتّاب الشذرات مثل شامفور ولا برويار وغيرهما، والتي يمكن أن ننعت بها كلّ كاتب في لحظةٍ مَا. لقد أُطلِقت على سيوران صفات كثيرة قد تبدو أكثر إحاطةً به من صفة الكاتب الأخلاقيّ، من بينها الملاك الفتّاك ومُشعِل الحرائق ومفكّر الكارثة وكاتب العتمة والأفول. وإذا لم يكن بدٌّ من إدراجهِ في خانة الكتّاب الأخلاقيّين بالمعنى الواسع للعبارة، فلنقل إنّه لم يكن معنيًّا مطلقًا بالإصلاح. الإنسان بالنسبة إليه كائن شيطانيّ ما إن «يرتكب» عمَلاً. وهو لم يدافع عن عقيدة ولم يَدْعُ إلى مذهب ولم يحاول تجييش أحد. وهو حتى في نقده للعقل الأوروبّي، لا يبدو متجها ناحية دعوة إصلاحيّة لهذا العقل بقدر ما يبدو معنيًّا بفضْحِ لتناقضاته وتفكيك أوهامه. لذلك أعتقد أنّه لم يرغب إلاّ في مساعدة المنهار على الانهيار. وهو ما يؤكّده حين يتحدّث عمّا يعجبه لدى لا روشفوكو على سبيل المثال، فيقول في «الكراسات» إنّه لم يُبدِ أيّ نزعة لإنقاذ الإنسان، وإن الثوابت الوحيدة التي لاحظها لا روشفوكو هي تلك المتفرّعة عن انحطاط الإنسان وليست تلك التي قد تعين الإنسان على الانتصار على انحطاطه.
6- هل تُعدّ الكتابة الشّذريّة التي يعتمدها سيوران خاصّة في «المياه كلّها بلون الغرق» أصعب من غيرها، سواء في كتابتها أو في ترجمتها، وهل تقول المعنى أفضل من الكتابة السيّالة – التشريحيّة؟
الأسلوب هو الإنسان. والشذرة لدى سيوران هي الأسلوب حتى حين يكتب ما يبدو أنّه نصوص غير شذريّة، مثل كتاب «رسالة في التحلّل» على سبيل المثال. الشذرة شظيّة، شبيهة بالقنابل العنقوديّة، تتناثر عند الانفجار. إنّها طريقة الكاتب للتحوّل لغويًّا. والحقّ أنّ سيوران قال الكثير عن الشذرة. اعتبرها أداة الكُتّاب الكسالى الذين ملّوا الفلسفة الممنهجة والنسقيّة. واعتبرها علامةَ تعبٍ وإشارة إلى حياته وكيانه «المتشذّر». لكنّه في الحقيقة لم يرد أن يؤكّد ولا أن يثبت أيّ شيء، بقدر ما رغب في أن ينفي ويلغي. لذلك اختار الكتابة الشذريّة. شرطَ أن تتضمّن كلّ شذرة عالمًا وحقيقة متشذّرتين ومن ثمّ قابلتين للنقض بواسطة الشذرة الموالية. من ثمّ لا يمكن تناول الكتابة الشذريّة من جهة المقارنة ولا يمكن النظر إليها من زاوية «الأفضل» أو «الأسوأ»، لأنّها الذات المفكّرة أو الشاعرة، وفي جملة، لأنّها الذات الكاتبة السيورانيّة.
7- هل يصحّ القول بأنّ سيوران أعاد إنتاج نِيتشه لُغةً ومعنى؟
لا أعتقد ذلك. ثمّة طبعًا تشابه يتعلّق بمحوريّة المُفارقة والكتابة الشذريّة لدى كلّ منهما. وثمّة لبناتٌ تيميّة وأسلوبيّة من مخلّفات كلّ علاقة بين الشيخ ومريده. لكنّها انفكّت مع سنوات النضج. وربّما جاز لنا القول إنّهما ظلاّ يلتقيان في الكثير من تفاصيل الطريق لكنّ كلاّ منهما اختار لطريقه وجهةً مختلفة. نيتشة كائن ديونيزوسي يحبّ الحياة بشكل شبه هيستيريّ، بينما يرى سيوران أن الدخول في الحياة من باب الولادة خطيئة أصليّة. وفي حين انتهى نيتشه متجهّما على الرغم من احتفائه بالمرح، فإنّ سيوران انتهى مرحًا هو الذي بدا شديد التجهّم. ولعلّه أفضل من يجيب على هذا السؤال. يقول في أوّل كتاب ترجمته له وهو «المياه كلّها بلون الغرق» أو «قياسات المرارة»، إنّه في شبابه أحبّ في نيتشه «المُحفّز» ولم يحبّ «الرؤية»، وإنّه انشَدَّ إليه في سنّ المراهقة التي «لا تحبّ في المفكّر إلاّ البهلوان»، وإنّ فكرة «السوبرمان» بعد انقضاء فترة المراهقة لم تعد في نظره غير هذيان، مستخدمًا عبارة شديدة القسوة: «هكذا امّحى ساحر شبابنا». واسمح لي أن أقتبس من هذا الكتاب فقرة من فصل بعنوان «لصّ الأغوار»، يجمل فيه سيوران الرأي فيما بقي من نيتشه في نظره، قائلاً: «نحن نقيس خصوبته بالإمكانيّات التي تركها لنا كي نُنكره باستمرار دون أن ننفد منه… لقد وقف كلّ مرّة مع الشيء ونقيضه. تلك طريقة أولئك الذين يلجؤون إلى المضاربات أمام عجزهم عن كتابة تراجيديّات، وأمام قُصورهم عن التفتّتُتِ إلى مصائر متعدّدة. المهمّ أنّ نيتشه استطاع بالكشف عن هيستيريّاته أن يخلّصنا من الخجل بهيستيريّاتنا. كان شقاؤه مفيدا بالنسبة إلينا. لقد دشّن زمن “العُقَد”…»
8- هل مازلت ستترجم لسيوران، خاصّة وأنّ هناك العديد من أعماله الأخرى لم تترجم إلى العربية، بالإضافة إلى مخطوطاته ويومياته المحفوظة في مكتبة جاك دوسي الأدبيّة بفرنسا؟
أنا الآن بصد ترجمة «كراسات سيوران». وهي عمل ضخم أعرف أنّه سيستغرق وقتًا كثيرا. إلاّ أنّ لديّ رغبة أيضًا في ترجمة أسماء أخرى. ولا أدري ما الذي تخبّئه لنا الأيام. كلّ ما أرجوه أن يمنحني الله ما يكفي من الصحّة والوقت.
الترجمة وتسريد التاريخ
9- اشتغلت أيضا على ترجمة أعمال الروائي الفرنسي ذي الأصل المصري جيلبرت سينويه، هل تختلفُ ترجمة السّرد عن ترجمة الفكر ؟
هناك طبعًا صعوبات خاصّة بكلّ مجال. الكثيرون يقولون باستحالة ترجمة الشعر، بداية من الجاحظ وصولاً إلى رونيه شار وإيف بونفوا. لكنّها «استحالة» تحفيزيّة لم تمنع ترجمة الشعر بل فتحت أمامه مزيدًا من الطرق والآفاق. والحقّ أنّي لا أرى فارقًا في الجوهر بين ترجمة السرد والشعر أو السرد والفكر. إلاّ إذا كنّا نتحدّث عن فكرٍ غير مكتوب. أي خالٍ من كلّ أدبيّة. ليس من كتابة إلاّ وهي شعر أحيانًا وسردٌ في باقي الأحيان. نرى ذلك عند نيتشة ولكن نراه عند هايدغر أيضًا والقائمة أطول من الحصر. لذلك «تتكرّر» ترجمة المفكّرين تمامًا كترجمة الشعراء. وقد تحدّثنا عن ذلك قبل قليل. هذا يعني أنّنا أمام «معادلات تقريبيّة» وأنْ لا ترجمة نهائيّة. كلّ ما هنالك «اقتراحات ترجميّة» مفتوحة على اللامحدود طالما ظلّ النصّ مغريًا بالقراءة. فما بالك حين يتعلّق الأمر بمفكّر مثل سيوران، كتابته مبنيّة أصلاً على «سوء التفاهم».
10- لماذا اخترت ترجمة سينويه بالذّات، بينما هناك روائيّون آخرون كبار اهتمّوا بالتاريخ ؟
ترجمتُ لجيلبرت سينويه روايتين. في الرواية الأولى، الطريق إلى أصفهان، نجح الكاتب في شدّنا إلى سيرة ابن سينا بينما هو يكتب سيرة عصره. وكان ذلك لافتًا للانتباه. أمّا في الرواية الثانية، اللوح الأزرق، فقد استطاع الكاتب أن يوظّف أسلوب «الثريلر» التاريخي ليطرْح بذكاء مسألة صراع الأديان في عصر فرديناند وإيزابيل أيّام كانت إسبانيا فريسةَ المحارق وحروب الاسترداد. وكان كلّ ذلك مغريًا بالترجمة. لكنّ لعبة الكتابة كانت الأهمّ والأوقع. يعتمد السردُ في رواية اللوح الأزرق على رسالةٍ مُتخيَّلة وجّهها أحدُ الأحبار إلى كاهنٍ وفقيه. وفي الطريق إلى أصفهان يعتمد السردُ على رسالة حقيقيّة تركها لنا أبو عبيد الجوزجاني وضمَّنَها سيرة «شيخه» ابن سينا. وقد عثرتُ على هذه الرسالة، وهي لا تتجاوز الثلاثين صفحة، لعب بها الكاتب في نوعٍ من «التحدّي» فأعطانا روايةً بما يقارب الخمسمائة صفحة. وكان ممتعًا أن أنظر إلى لغتي وهي ترفع ذاك التحدّي من خلال الموازاة بين السرد والترسّل في سجلّ قداميّ غير قديم. وأن ألعب دور المُعرِّب، مُعِيدًا النصّ «إلى لغته» من جهة، واضعًا «لغتي» في نوع من الاختبار على «حافة» ممكنات الترجمة من الجهة الأخرى. هكذا ترى أنّ اهتمام الروايتين بالتاريخ لم يكن على رأس اهتماماتي في ذلك الوقت.
11- اهتمّ جيلبرت سينويه خاصّة بالتّاريخ الشّرقيّ وخصَّ لهُ تقريبا معظم مدوّنته، ماذا أضافت أعمالُه للتّاريخ العربي وماذا أضافَت مناخات المشرق للرواية الفرنسية؟
ثمّة من يعتقد أنّ الرواية التاريخيّة تضيء الحاضر عبْرَ الماضي وتقدّم نوعًا من الدروس والعِبَر. وثمّة من يعتقد أنّها فرصة لإعادة كتابة «السرديّة» على المقاس. وثمّة من يكتبها في نوع من التمشّي السيكولوجي للتطهّر من الجراح النرجسيّة. دون أن ننسى طبعًا كتّابها في سياق «الإكزوتيزم السياحي» أو في إطار العمل الحرفي المحض بناء على الطلب (sur commande). والحقّ أنّي لا أحبّ هذه الأنواع الوظيفيّة من الكتابة. والروايات الغربيّة المكتوبة على هذه الأسس لا يمكن أن تضيف شيئًا لا لتاريخ الشرق ولا للرواية في الغرب. وذلك لأنّها تتقدّم من قارئها الشرقيّ والغربيّ والعالَميّ «مشْيًا على الرأس». أي أنّ الكاتب يُحدّد رسالتها منذ البداية، ثمّ يضع مهارته وحرفيّته في خدمة تلك الرسالة. ونحن هنا أمام «نظم روائيّ» مصطنع. ولسنا أمام رواية. من ثمّ اكتفيتُ شخصيًّا بترجمة روايتين لسينويه، أحسست بأنّهما لم يقعا في فخّ الرواية التاريخيّة المنظومة.
12- هل تُعدّ الكتابة عن التّاريخ حاجزا أمام اللّعب السّرديّ وأمام التّجريب، وهل تجد سينويه متقيّدا بالتاريخ الحرفيّ أم متحرّرا منه؟
التجريب ليس غاية. إنّه جزءٌ من لعبة السرد. هذا إذا اتفقنا حقًّا على دلالة عبارة «اللعبة». اللعبُ أنواع وليس واحدًا. وأعتقد أنّ هذا الأمر متوقّف على موهبة الكاتب وعلى الإكراهات التي يلتزم بها عند الكتابة. ثمّة صعوبات إضافيّة في أن تصنع الدهشة والشدَّ إذا كنتَ تروي قصّة «قديمة» أو كان قارئك على معرفة مسبقة بمعظم الأحداث والشخصيات. لكنّ الأمر ليس مستحيلاً. وقد سبق أن قلتُ إنّ كاتِبَ الرواية التاريخيّة يتقدمّ من قارئه «مشيًا على الرأس». وأُضيف أنّ هذه الرواية تطلب من قارئها أن يخوض غمارها على طريقة «السباحة إلى الخلف». أعني أن يبدأ القراءة تمامًا مثلما يبدأ الفرجة على سلسلة «كولومبو» البوليسيّة. يعرف المجرم والجريمة من اللحظات الأولى ثمّ يعوّل على «عبقرية السارد» كي يشدَّه طيلة ساعة ونصف الساعة إلى طريقة نجاح المحقّق في الإطاحة بالمجرم. وأيًّا كان الأمر فإنّ مشكلة هذا النوع من الرواية التاريخيّة متأتيّة من جانب آخر، كنتُ تناولتُه بإسهاب قبل أشهر في «بيت الرواية» حين طلب مني صديقي كمال الرياحي الحديث عن الموضوع. هذا الجانب متعلّق بتيمة «الشرّ». ثمّة إصرار إيديولوجي يتخفّى لدى كتّاب هذه الرواية تحت قناع أخلاقوي مداره «الدفاع عن الخير». يتحدّث الكاتب في هذا النوع من الروايات عن أحداث أو بيئات أو شخصيات تاريخيّة وفي ذهنه رسالة يقدّمها إلى جمهوره وخطوط حمرٌ لا يتجاوزها في تصوير الجانب المظلم من البيئة أو الشخصيات أو الأحداث. وحين يكون «الشرّ» في الواقع التاريخي مُغايرًا لتفاصيل «السرديّة الغربيّة»، كقضيّة فلسطين على سبيل المثال، أو مخالفًا لإملاءات «الجهة الرسميّة» التي تموّلُ «تسريد تاريخها»، فإنّه يحاول لَيَّ عنق التأويل لفرض «قراءة الأقوى»، أو يحاول «إمساك العصا من الوسط»، وهو موقف أسوأ وأفدح لأنّه يعني في أفضل الأحوال تسوية الضحيّة بالجلاّد. وعودةً إلى سؤالك، لنقل إنّ ما يقف حاجزًا أمام اللعب السردي والتجريب ليس «التقيّد بالتاريخ»، بل هو السقوط في «النظم» الروائيّ الإيديولوجي.
13- هل مازلت ستترجم لجيلبرت سينويه؟
أنا لا أبرمج مسبقًا للترجمة كما إنّي لا أخطّط مسبقًا لكتابة القصيدة. إنّه موعد تتدخّل فيه عدّة عوامل. قد أقرأ عملاً جديدًا أو قديمًا لهذا الكاتب أو ذاك فأشعر بالرغبة في ترجمته. وقد لا أشعر بتلك الرغبة. والحقّ أنّي كثيرًا ما أشرع في ترجمة كتابين أو ثلاثة في وقت الواحد. بل إنّي أتقدّم أحيانًا في ترجمةٍ معيّنة ثمّ أتوقّف وقد أعود وقد لا أعود. أذكر مثلاً أنّي توقّفت عن ترجمة الطريق إلى أصفهان نحو الثلاثة أشهر لقراءة جزء كبير من كتاب القانون لابن سينا. وقضيت أشهرًا عديدة في قراءة نصوص عن القبالة عند ترجمة اللوح الأزرق. هذه الوقفات أسمّيها «المكاسب الحقيقيّة» للترجمة. وأنا محظوظ بناشرٍ شاعر ومترجم هو خالد المعالي عرف كيف يتفّهم «فوضاي المنظمة». ثمّ لا تنس تدخّل ظروف أخرى على رأسها الانشغال بتجربتي الشعريّة الخاصّة.
الترجمة وأدب الذات
14- ترجمت أيضا يوميّات بودلير، ما الذي أخذك إلى أدب الذّات؟ وأيّ قيمة وجدتها في هذه اليوميات؟
تحدّثتُ عن ترجمتي لبودلير بإسهاب في مقدّمة «اليوميات». لقد انطلقت في الحقيقة من محبّتي لبودلير تحديدًا ومن رغبتي في التلصلص عليه. ولا علاقة لذلك بأدب الذات «مفهوميًّا». كنتُ أريد أن أراه يكتب دون أن يتفطّن إليّ وهو يكتب. وقلت في تلك المقدّمة إنّ قراءة يوميّاته وترجمتها منحتني متعة شبيهة بتلك التي عرفناها ونحن أطفال، ونحن ننظر من ثقب الباب. ثمّةَ شيءٌ من بودلير في كلٍّ منّا. شيء قويّ وضعيف في آن ونريد أن نكتشفه. وليس كهذه اليوميّات تصويرا لبودلير الهشّ والبتّار في الوقت نفسه.
15- هل تُعدّ مدونة أدب الذّات المنقولة إلى العربيّة شحيحة؟
أعتقد أنّه من الضروري إعادة النظر في الكثير من «تسمياتنا»، ومنها «أدب الذات». نحن نطلق هذه التسمية على كتابات مختلفة، اختلافَ القديس أوغسطين وجان جاك روسو وجان جينيه ومحمد شكري، دون أن ننسى ابن خلدون الذي يعتبره طه حسين أوّل من أرّخ لذاتِه. وتبدأ النصوص التي ننسبها إلى «أدب الذات» من الاعترافات والرسائل والمذكرات واليوميات والمناقب. وتنتقل بنا من «تسريد الذات» إلى «تذييت السرد» إلى رواية «التخييل الذاتي» مرورًا بالسيرة الذاتية والترجمة الذاتية وأدب الاعتراف. وكلّ هذا يحتاج إلى تحقيق وتدقيق. والحقّ أنّه ما من أدب تخييليّ إلاّ وهو يمتح من الذات. وما من أدب ذاتيّ إلاّ وهو يدّعي ويُخيّل. وعلينا الإقرار أيضًا بأنّ المحاذير الاجتماعية والثقافيّة وحتى السياسيّة التي كانت تتسبّب في «شحّ» هذا النوع من النصوص، تأليفًا وترجمة، تغيّرت نسبيًّا. لقد أصبحت هذه المحاذير جزءًا من إغراءات الكتابة والترجمة في هذا المجال، بحكم الفورة الإعلاميّة التي وضعت كُلْفةَ المحرّم في كفّة، ومكاسب المحرّم في الكفّة الأخرى. ولعلّك تجد اليوم سيلًا عارمًا من الكتب المؤلّفة والمترجمة في هذا المجال، من جميع اللغات. بعضها لكتاب وأدباء ومفكرين والكثير منها لنجوم السينما والغناء والرياضة وحتى لـ«نجوم المجتمع». والرجاء كلّ الرجاء أن تظهر حركة نقدية جريئة تواكب هذه المدوّنة، حتى يدرك الجميع أنّه لا بدّ من كتابة ولا بدّ من أدبيّة خاصّة، وأنّه إذا كان صحيحا أنّ الأدب فضيحة من ناحيةٍ مَا، فإنّ الفضيحة لوحدها لا تصنع أدبًا.
الترجمة والشعر
16- بعد هذه التّجربة المهمّة في الترجمة، لماذا لم تترجم الشّعر وهل تُفكّر في ترجمته؟
ترجمتُ نصوصًا متنوّعة لبودلير ورامبو ورينيه شار وغيرهم. لكنّي لم «أنغمس» حتى الآن في تجربة شعريّة كاملة. ربّما رغبةً في رسم خطٍّ «تماسّ» بين الأنا والأنا الأخرى في الشعر تحديدًا. لقد أكّد لي إيف بونفوا، حين حاورتُهُ قبل سنوات، وعَلِم أنّي أكتب وأترجم، أنَّ الترجمة تستولي بالضرورة على حياة المترجم إذا كانت بحثًا وتجربة، ولم تكن مجرّد عمليّةٍ تقنيّةٍ لإنتاج نسخةٍ طبق الأصل. ولا يعني ذلك أنّ على المترجم أن يكون شاعرًا، لكنّه يعني أنّ المترجم «يكتُبُ» هو أيضًا، لذلك «لن يتمكن من فصل ترجماته عن آثاره الشخصيّة». من ثمَّ قد يكون انغماسي في تجربة روائيّ أو مفكّر «أكثرَ أمانًا» من انغماسي في تجربة شاعر. لكن من قال إنّي أبحث عن الأمان؟ على كلّ حال لم أسمع النداء حتى الآن. وكما سبق أن قلت، الكتابة الإبداعيّة، والترجمة في نظري جزء منها، علاقةُ حبّ ورغبة من طرفين، وليست علاقة من طرف واحد. ويوم أسمع «النداء» وأجد له تجاوبًا في عقلي ووجداني وجسدي لن أتردّد في الاستجابة.
مكانة المترجم
17- سؤال أخير بعد تجربتك مع الترجمة، كيف تنظر إلى وضع المترجم الأدبيّ في الساحة الثقافيّة العربيّة؟
وضعٌ مؤلم طبعًا، على الرغم من أنّي محظوظ شخصيًّا بالناشر الذي أتعامل معه وبالقرّاء الذين التفّوا حول ترجماتي. هذا لا يمنعني من الانتباه إلى أنّ وضع المترجم العربيّ هو انعكاس لوضع الكاتب العربيّ عمومًا. إنّه مُهَمّش على الرغم من دوره المحوريّ، ومهضوم الجانب مهنيًّا وماديًّا على الرغم من أنّه تقريبًا أهمُّ مصادر الربح بالنسبة إلى الناشر العربيّ. الترجمة هي الأصل. وليس من كاتبٍ بل ليس من مبدع إلاّ وهو مترجِمٌ قبل كلّ شيء. نحن نتحدّث هنا عن الترجمة باعتبارها خروجًا من عالم الأحاسيس والمثُل والتصوّرات إلى عالم اللغة. أمّا الترجمة باعتبارها اغترابًا أو توطينًا من لغة في لغة عن طريق الكتابة فهي ولادة النصّ الحقيقيّة. المترجم أقدر القرّاء على كتابة النصّ في لغة الاستقبال. وعلى الرغم من ذلك يُطلب منه أن يكون خفِيًّا أو لا مرئيًّا. وباستثناء بعض الأسماء يُتَعامَلُ مع النصّ كأنّه بلا مترجم. ولا يُذكَرُ المترجمون في الأغلب إلاّ تنديدًا بهفواتهم. وهذا أمر غير مقبول.. المترجم هو أحد آباء النصّ كي لا نقول إنّه أبوه الحقيقيّ في لغته الجديدة. إنّ من حقّ كاتب النصّ في لغة الاستقبال أن «يَظْهَرَ» مع كاتب النصّ في لغة المصدر، ذلك الظهور المتناسب، بحيث لا يشوّش أحدهما على الآخر. تلك هي الترجمة الإبداعيّة. الأبوّة في الترجمة كالأبوّة في الحياة ليست «علاقةَ دَم» سُلاليّة بقدر ما هي مسألةٌ ثقافيّة إبداعيّة. إنّها كسبٌ وليست إرْثًا. المترجم الأدبيّ المبدع يقرأ النصّ ويكتبه في الوقت نفسه. يعمل بأدوات المحقّق والمدقّق ويكتب في نفس الوقت بملكات الكاتب والشاعر. وفي أثناء ذلك هو لا يقتصر على تطبيق المناهج ولا يكتفي بتقمّص روح الكاتب. بل يتلبّس بجسده أيضًا. يعيش داخل شروخه وأغواره. يطّلع على أدقّ أسراره. يتعب كي يعثر على هذه الصيغة أو تلك. تمامًا كالكاتب. يسهر الليالي الطوال طلبًا لهذه العبارة أو الأخرى. يقفز من مكتبه أو من فراشه كالمجنون كلّما عثر عليها صارخًا مثل زميله: أوريكا! لقد وجدتها! فكيف لا يحزّ في نفسه أن يرى «صياغاته» تُقتَلَعُ من جسَده وتُنسَب إلى الأب السلاليّ. لن يستطيع القارئ عاديًّا كان أم أكاديميًّا أن ينفذ إلى أعماق أيّ نصّ أكثر من مترجمه. من هذه الناحية لا يعقل أن ننسب نصًّا مترجَمًا إلى كاتبِه في لغة المصدر وحده. كما لا يُعقل القولُ بترجمة «نهائيّة» لأيّ نصّ. الترجمة سلسلة من الولادات لا حدّ لها ما دام النصّ حيًّا يُرزق بقرّاء شغوفين وبلغة حيّة. أستحضر هنا عبارة دريدا: «يظلّ النصّ يتيمًا ما لم يجد مترجمه». وأسمح لنفسي بالقول: يظلّ المُتَرْجَمُ غائبًا ما لم يصبح مُتَرجِمُه مرئيًّا. ولا علاقة للأمر بالنرجسيّات. يومَ يَنشرُ الكاتبُ نصوصه دون أن يمهرها باسمه يمكننا أن نطلب من المترجم الشيء نفسه. في انتظار ذلك من حقّ المترجم علينا أن يصبح «احترامُه» ضروريًّا ودالاّ على أنّ الترجمة الإبداعيّة كتابةٌ هي أيضًا.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *