رصاصٌ فارغٌ من الخوف

  (ثقافات)ِ

رصاصٌ فارغٌ من الخوف

قصة قصيرة

الأديب السوري

موسى رحوم عباس

       انشغلتُ كثيرا على مصيري في هذه البلاد  غربيّ المتوسط، وأصابني الأرَقُ، وأنا أحاول تحديد مصدر شعوري بالقلق، أحاول معرفة المنبع وعدم الانشغال بالمصبِّ، وهي عادة سيئة أورثتني العداوات، وألقت بي إلى ما بعد هذا البحر،استقرَّ رأيي أخيرا أنَّ السبب في ذلك يعود لهذه الروزنامة ( التقويم ) اللعينة التي حصلت عليها مؤخرا هديةً من شركة تبيع الأسلحة، تتألف من أوراق لمَّاعة يخترمها أنبوب معدني على شكل قنطرة مقلوبة، بدا لي أنَّه عادي في البداية، لكنني دققت فيه، واكتشفت أنه من الرَّصاص، وأنني عندما أنام يصبح مقابل رأسي تماما، ضاقت عليَّ الأرض أعني الغرفة بما رحبت! فرسمت مخططا جديدا لتوزيع الأثاث، بحيث يكون مكتبي بعيدا عن السرير ورأسي عكس الاتجاه، لكن هذا التغيير لم يجلب لي النَّوم، فمن هو المجنون الذي يضمن طريق رصاصة؟!

ومن يستطيع تأكيد أنَّها لا تعود إلى رأسك بعد أن تصطدم بجدار ما ؟! سيما أنَّ لكلِّ ورقة منها يومها المحدد سلفا بالشَّهر والسَّنة، هي أشبه بخريطة مجدولة التوقيت، ومعركة محددة الأهداف!

 صحيح إنَّ الشَّركة ردَّت على رسائلي واستفساراتي بسرعة وبلطفٍ مُبالغٍ فيه، وأكَّدوا أنهم صنعوا هذا الأنبوب من فوارغ الرَّصاص على سبيل إعادة التدوير لمُخلَّفات البيئة، وأعرف أنَّهم يعنون مُخلَّفات الحرب، وتجاهلوا سؤالي السَّخيف عن هذه الحرب، وبين مَنْ ومَنْ هي، إذ اكتشفتُ سَفَهي وتسرعي في طرح أسئلة من هذا النوع، فالحرب هي الحرب، رصاص ورؤوس وحسب! وما أهمية أن يكون الرَّأس بشعر أسود أو أصفر، حماقة والله!  أعطاني مسؤول العلاقات العامة في الشَّركة بعض النصائح للتعامل مع القلق والتهيؤات التي تنتابني، وطلب مني تغيير المكان وزيادة الأنشطة الترويحية بل تمادى أكثر، واقترحَ عليَّ الدُّخول في علاقات عاطفية جديدة، لم أجد الجرأة؛ لأقولَ له هذا غير ممكنٍ في شارعٍ ينام مبكرا، ولا تسمعُ فيه سوى نباحِ بعض الكلاب التي يبدو أنَّها قلقةٌ مثلي على أصحابها الذين تتأخر عودتهم؛ فتطول سهراتهم ليلة الأحد من كلِّ أسبوع! لكن السؤال الذي يدور برأسي كترسٍ مُسنَّنِ الحافة هو لماذا أهدتني الشَّركة هذه الروزنامة بالذات؟! ولي أنا دون خلق الله الآخرين ! هل هي رسالة ما؟ كان جدي يخبرني إنهم إذا أرادوا غزو قرية، أو خيام قبيلة عدوة، لا يأخذونهم غدرا، بل يعطونهم تلميحا ورمزا يفهمه الجميع، يرسلون لهم فارسا أو أكثر؛ لينثر بضع رصاصات حول فراش شيخ القبيلة أو فارسها، وربما دسَّ خنجرا تحت وسادته، وانسلَّ بعيدا عن مضاربهم، وذكرلي أنَّه مرَّةً حمل معه عِقالَ شيخ قبيلة العناترة بينما كان يغطُّ هذا الأخيرُ في النَّوم ليلة زواجه من امرأة ثانية، فهَلهَلتْ له النِّساء عندما طرحه بتفاخرٍ- أعني العقال-  أمام شيخ قبيلتنا وبحضور رجالاتها، ترى هل هذه تشبه تلك؟

 جارتنا أم قيس العراقية مولعة بقراءة فنجاني كلما التقينا، لكنني هذه المرة كنتُ المبادر في عرضه عليها، هزَّته بحركة دائرية وتركته يستقر، سحبتْ نفسا عميقا من سيجارتها، وأغضت بعيدا عني، ألحَحْتُ في معرفة ما تراه، قالت هل ترى هذا الخط الطويل الذي يتعرج قليلا هناك إلى حافة الفنجان، فأشرتُ أنْ نعم، أراه، قالت: هذا طريق سفر طويل يقطعه بحر متلاطم، وتلك الظلال البعيدة هي بيوت على شاطئ نهر لا أعرفه، قلت في سِرِّي أنا أعرفه، وكانتْ ترغبُ في الاستفاضة، لكنني خفتُ من جرأتها التي أعرفها، فاقترحتُ موضوعا آخر للحديث، كان الطريق طويلا، وعبور البحر تراجيديا مرعبة، المدينة شبه نائمة، والنَّهرالذي يطوقها كعاشق، يغسل جذوع شجر الغَرَبِ الفُراتي، وكأنه يهدهدها؛ لتنام بين يديه،  بينما كنتُ أدلفُ إلى شارعٍ ضيقٍ ينتهي بتمثال لقائد جديد لا يشبه ذاك الذي كان يحتل القاعدة الرُّخامية نفسها، أذكره تماما ببزته العسكرية ونياشينه اللامعة، عندما كنتُ أمرُّ من بين يديه مرعوبا، وأنا أجوز السَّاحة إلى بيتي في نهاية الشارع حاملا الخبز لأولادي، دققت في ملامح الزَّعيم الجديد لم تسعفني ذاكرتي في التَّعرُّف إليه، قلتُ لعله حرر البلاد من أهلها، أو رد الأعداء أعني أعداءه! تجاوزته منعطفا إلى اليسار ثم اليمين، وتوقفت بعد بضع خطوات أعرف عددها تماما، وبعد انتظار لم يطلْ كثيرا، انفرج الباب الذي طرقته كما كنتُ أفعل آلاف المرات، الرُّجل الذي فتح الدُّرفة الكبيرة ظل ممسكا بها، بدا لي لطيفا، وعَلَتِ الدَّهشةُ ملامحه، وهو يسأل:

  • بِمَ أساعدك سيدي؟

  • يبدو أنني مخطئ، فأنا أبحث عن بيت رجل كان يسكن هنا! قلتُ مرتبكا.

  • ما اسمه؟

  • موسى رحوم عباس

  • لا أحد بهذا الاسم هنا، ربما تجده في الحيِّ المجاور !!

  أُغلِقَ البابُ الحديديُّ دوننا، ثمةَ غيومٌ سوداءُ تكاد تحجب ضوء القمر، رائحة المطر تقترب لا أخطئها كعادة البدو في معرفة النَّوْء، هذا الباب اعتدت على تجديد دهانه كلَّ عام، وشجرة البرتقال التي تتكئ على زاويته العلوية والتي غرستها بيدي ، مازالت تحمل برتقالها الذي ثقبته العصافير أو الرَّصاص،لكنه ظل متشبِّثا بالغصن، حاولت الوقوف على رؤوس أصابع قدميَّ؛ لأتأكد من وجود النافورة الصَّغيرة إلى يسار الشَّجرة، مع هذا تابعتُ البحث في كلِّ شوارع المدينة أبحث عني، لم أجد ذِكْرًا يشفي غليلي، توجهت للمقبرة أدور بين شواهد قبورها، أقرأ الأسماء المدوَّنة فيها، وأعيد قراءة الفاتحة في كلِّ مرة، في الصَّباح كانت الشُّرطة تبحث عن رجل يطرق الأبواب ليلا على الآمنين في هذه المدينة، ويحاول الإخلال بالسلم الأهلي، وتطلبُ المساعدة من المخلصين للوطن بالإبلاغ عنه، بادرتُ بإرشادهم إليه، فسجَّل الضَّابط أقوالي وأوصاف ذلك اللص والإرهابي  من خلال إفادتي، وتركني أمضي، في الطَّريق كنتُ أفكر بالعودة إلى أم قيس العراقية؛ لتقرأ فنجاني من جديد؛ لتتأكدَ من الطَّريق الذي يعبر البحرمن الغرب إلى الشرق، وتدلَّني على النَّهر الذي يرسم الظِّلال لشجرِ الغَرَبِ الفُراتي!

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *