صلاح بوسريف وإشراقة الإقامة في الوجود بالشعر

(ثقافات)

                   

صلاح بوسريف

وإشراقة الإقامة في الوجود بالشعر

 

مليكة فهيم/ المغرب

إذا كانت اللغة أساس إقامة الانسان، حسب صاحب ” الكينونة والزمان”، اللغة من حيث هي حقيقة الوجود، وأن سبيل الانعتاق من التأويل التقني للفكر يجد ضالته في التفكير في الشعر، أن نقف وراء حضوره المدهش الخالص، معتقدا بالحقيقة الشعرية. وإذا كان هولدرلين يعتقد بأن الشعر أسمى تجليات الفعل الجمالي، فإن شاعرنا، ينحت حضوره الشعري على نفس الإيقاع، إذ يعتقد بأن الشعر أصل كل فن وإبداع، وبأنه تجربة مفتوحة على المجهول واللانهائي؛ ألم يقل هولدرلين: ” أيها الشعراء، كونوا أحرارا كالسنونو”؟

يعتبر الشاعر “صلاح بوسريف” صوتا شعريا، قدم إلينا من عقد الثمانينات من القرن الماضي، السلسلة الثالثة من المشهد الشعري المغربي المعاصر، مخترقا أفقا مختلفا عن شعر الستينات والسبعينات المثخن بالشعارات السياسية. كان اسمه ولا يزال انعطافة مختلفة في مسار الشعر المغربي والعربي المعاصر، كما قال عنه الناقد ” نجيب العوفي”. بكثير من وله الشعر يرتل قلقه الوجودي، يصطاد المعنى على أشجار عدة مرجعيات: فكرية، وفلسفية، وصوفية؛ ليخلق كينونته الشعرية المتفردة، التي لا تنأى عن سؤال الحداثة الشعرية ومزالقها وغواياتها. يقول مع لوركا: ” أكثر الأفراح حزنا، أن تكون شاعرا. كل الأحزان الأخرى لا قيمة لها حتى الموت “. لا يكتمل الهلاك إلا به وعبره. في شكه وتساؤلاته، شيء من حق الشاعر في النص المختلف، لخلق الشغف والدهشة نافذتا الشعر الحالمتين.

شاعر مَشَّاء؛ خَبِرَ رعشات الكتابة الشعرية، ذلك النص المكتنز، الكثيف والشفاف، فكان ديوانه الأول: فاكهة الليل سنة 1994. لم يدركه موسم الهجرة إلى أي جنس أدبي آخر، لم يعتبر الشاعر صلاح بوسريف الشعر تمرينا: شعر فقصة ثم رواية؛ فكان مكوثه المشتهى في محراب الشعر عنوانه الذي يراهن عليه، والذي حاكه بإبدالات أنعشت تجربته الشعرية المتجددة باستمرار.

من أعماله الشعرية:

  • فاكهة الليل 1994

  • على إثر سماء” منشورات فضاءات مستقبلية”، 1997

  • شجرة النوم ” منشورات دار توبقال”، 2000

  • نتوءات زرقاء ” دار الثقافة”، 2002

  • حامل المرآة ” دار الثقافة”، 2006

  • شهوات العاشق ” منشورات دار ما بعد الحداثة”، 2006

  • شرفة يتيمة: وهو عمل شعري في ثلاثة أجزاء، دار فضاءات للنشر والتوزيع الأردن، 2009

  • خبز العائلة “دار الحرف”

  • حجر الفلاسفة ” دار الحرف”

  • لا يقين في الغابة “دار فضاءات” عمان 2015

  • رفات جلجامش ” دار فضاءات” عمان 2017

  • يااااهذا تكلم لأراك ” دار فضاءات” عمان 2018

  • كوميديا العدم ” دار خطوط وظلال” عمان 2022

استضافت مدينة الجديدة الشاعر صلاح بوسريف في موعدين شعريين فارقين زمنيا، أولهما، وقع حضوره، يوم السبت 12 ماي من سنة 2018، احتفاء باليوم العالمي للكتاب واليوم الوطني للقراءة. وثانيهما، يوم السبت 25 مارس 2022، بمناسبة تنظيم المكتبة الوسائطية ادريس التاشفيني وجمعية أصدقائها، ” ملتقى أشعار وأوتار”، تحت إشراف المديرية الإقليمية للثقافة بالجديدة وسيدي بنور، في دورته السابعة، بعد توقف البرنامج، مكرها، لموسمين متتاليين، جراء الجائحة التي ألمت بالعالم.

سألناه عن منجزه الشعري: “ياااا هذا تكلم لأراك” وعن لقائه بشخصية الشاعر والمتصوف” جلال الدين الرومي”، الذي سبق أن اكتشفها في ديوانه الأول “فاكهة الليل”، ثم عاد واستلهمها من جديد، بعد أن حققت تجربته الشعرية عدة إشراقات، رجع إليه بزاد أكبر، وبحفر أعمق، حيث أعاد قراءة جل أعماله المترجمة إلى العربية والفرنسية، لِيَعْبُرَ به نحو المستقبل ويقدم عملا يليق بامتداد تجربته الشعرية المتميزة، ويليق بشخصية جلال الدين الرومي المؤثرة عالميا. وهذا يدل على أن الثقافة اليوم، تعد رافدا أساسا في التجربة الشعرية، من دونها يبقى النص خارج وعيه لنفسه، وخارج منطقة الاهتمام. تولد عن ذلك، عمل يغمره ماء شعري واحد من 456 صفحة. وهي تجربة، اشتغل عليها الشاعر في ثلاثيته “غرفة يتيمة”، وتمثلها أيضا في عمله الشعري ” رفات جلجامش”.

القَصَبَاتُ النَّحِيلَاتُ،

هَا هُنَّ مِثْلُ نِسَاءٍ فَاضِلاتٍ يَنْسُجْنَ ثَوْبَهُنَّ مِنْ نَارَنْجِ

وَلَوْزٍ

حُقُولٍ مِنْهَا جَاءَ أَرِيجُ نَايٍ

مَا أَشَدَّ آلامَ احْتِرَاقِهِ،

فِي

مَا تَنْفُخُهُ فِيهِ مِنْ رِيحٍ ( يااااهذا تكلم لأراك / ص: 391).

بكثير من الصدق والتلقائية والتصالح مع الذات، لم يكن جواب الشاعر صلاح بوسريف أبدا عن الإشراقات التي حققها، بل فضل الحديث عن الإخفاقات التي عرفها وهو تلميذ، يتلمس العلم في صفوفه الابتدائية، حين طرد من المدرسة العمومية، ليلتحق بالمدرسة الخصوصية، التي لم يكن لها الصيت الإيجابي الذي تتمتع به اليوم. وبكثير من الإصرار والتحدي، استطاع أن يتغلب على الصعاب التي واجهته في حياته الدراسية الصعبة، ليلتحق بعد ذلك بكلية الآداب – جامعة بغداد – تخصص التاريخ القديم، ثم بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء/عين الشق. بعد ذلك تحدث عن محنة جلال الدين الرومي الطفل ورحلته رفقة أبيه عبر طريق الحرير، بعد أن تعذر المكوث ب “بلخ” إثر الهجوم الدموي المفزع للمغول، متوجها إلى “قونية” حيث سيلتقي بشمس التبريزي. وهي الرحلة التي سلكها فعليا شاعرنا صلاح بوسريف، لينسج ذاته شعريا مع الممرات الشائكة التي سلكها جلال الدين الرومي في حياته.

ولأنه صانع السيرة الذاتية في الشعر من خلال عمله ” شرفة يتيمة” وهو عمل شعري في ثلاثة أجزاء: “خبز العائلة”، “حجر الفلاسفة” و” لا يقين في الغابة”، كان سؤالنا عن الهوية والتماسك الذي يمنحه السرد الشعري للذات. أكد الشاعر صلاح بوسريف، أنه أفسح المجال في تجربته السير ذاتية ” شرفة يتيمة”، لكتابة مختلفة، تخلق ذاتها شعريا، مبتكرة لتقنيات وأساليب جديدة في اللغة والبناء والتخييل. مستسلمة لإغراء البوح وتعرية الذات، لاستعادة ذات أخرى تكشف عن صلابة وهشاشة مدهشتين؛ مستدعيا بول ريكور: ” الحياة نفسها ما هي إلا بحث عن سرد، لأنها تجاهد من أجل اكتشاف صيغة للتغلب على تجربة الرعب والفوضى “، وبالتالي يصبح السرد الشعري عنصرا جوهريا في إعادة بناء ذواتنا جماليا عن طريق اللغة.

ولدت

لا

شيء

كان يشي بجمر نأت نداوته

أصابعي

حملت عني وزرا

لم

أكن بعد عرفت

أن جمره سيكون حارقا

وأن أصابعي من دوار

ليس سوى أول القطر (غرفة يتيمة / ص 11)

وعن مدى إنصاف النقد لتجربته الشعرية، أوضح الشاعر بوسريف بأن الشعراء كانوا سباقين إلى الكتابة النقدية في جنس الشعر، أمثال: محمد بنيس، عبد الله راجع، معاتبا التوجه الذي اتخذه الدرس الجامعي الأكاديمي الذي انتصر للرواية في مقابل تهميش الشعر، الذي يتطلب من الباحث معرفة دقيقة بالمتن الشعري القديم والحديث، مؤكدا على الحاجة إلى نقاد يخترقون النص ويلامسون منبع الماء الشعري ولا يحومون حوله فقط. أما عن سؤال: ملاحظة انعدام اليقين في الساحة المغربية والعربية عموما بالشعر وضرورته، وكيف نفسر هذه الهجرة الجماعية إلى السرد وخاصة الرواية،

وهل ضاق المبدعون بمكوثهم الطويل في مخبإ الشعر وعزلته، جاء جواب الشاعر صلاح بوسريف جليا واضحا، بأنه يستطيع كتابة الرواية، لكنه لن يكتبها، فقط لأن الشعر يمنح له أحد مبررات وجوده وإقامته في هذا العالم.

وباعتباره مثقفا، يهتم بالشأن الثقافي المغربي والعربي، يرى الشاعر صلاح بوسريف بأنه علينا عدم تحميل المثقف أكثر من طاقته، لقد كانت السلطة على مر الأزمنة، تسعى إلى استدراج المثقف (العالم) إلى ملعبها، لكي تستلهم منه مشروعيتها، في مقابل إغداق الامتيازات المادية عليه. وتأسيسا على ذلك، يرفض تهافت المثقف، وانخراطه داخل لعبة السلطة التي تنتهي بتنازله عن أفكاره وعن الميثاق الذي يربطه مع القارئ. وتأسيسا على ذلك، استدعى نموذجا جميلا من تاريخنا الحديث، ويتعلق الأمر بالأديب طه حسين، الشخصية التي سجلت اهتمامها بقضايا المجتمع. فعندما شغل منصب وزير المعارف، خاض عدة معارك مع سياسيين ورجالات دولة، وظل وفيا لأفكاره. كما انتقد الشاعر صلاح بوسريف المؤسسات التعليمية في بلدنا، وخاصة الجامعة التي لم تعد مكانا للابتكار والابداع، وتفتقر، حسبه، إلى مشروع ثقافي وطني، يسهر عليه المثقف في استقلال تام عن المؤسسات.

وكأننا نكمل حوارا، لم ينقطع منذ الموعد الأول، والمناسبة شرط، ملتقى أشعار وأوتار واليوم العالمي للشعر. ونحن نجلس على مقربة من تجربة شعرية متفردة في مسارها وعالمها وأفق قراءتها، سألناه عن ماهية الشعر، فقال: ” الشعر زرقة وطريق وأفق، الشعر هو موسيقى نستشعرها في الفراغ والصمت وفي اللغة، وهي تعيد كتابة الوجود ذاته بوتيرة أخرى. كان الشعر دوما يسير عكس الأنهار والمجرات، لأنه لم يأت من اليقين، ولد الشعر مغمورا بالدهشة والنشوة والمفارقات والمجازات. بدون شعر يغدو الوجود قارورة في عمق البحر”. كما أكد الشاعر صلاح بوسريف على أن الشعر لا تصنعه اللغة فقط، بل تخلقه الصفحة حين تغدو دالا شعريا، باعتبارها كتابة، وبياضات، وفواصل، وصمت.

وبعد أن تحدث الشاعر صلاح يوسريف عن القراءة، باعتبارها مكونا أساسا في حياته، إذ في محرابها ينجز مشاريعه الأدبية في الابداع والنقد، لذلك يمنحها جل وقته، متماهيا مع قولة ماريو فارجاس يوسا:  إن القراءة أهم حدث في حياتي، فقد جعلت الأحلام حياة، والحياة أحلاما، وإن القراءة كالكتابة، احتجاج على نقصان الحياة، فكم ينقصنا نحن من هذه الحياة! ؟ “، عرج بالحديث عن عمله الشعري الأخير: “كوميديا العدم”، وهو نص واحد، حيث يلتقي ماء الشعر المتدفق بشكل متواز بماء التشكيل، برسومات للفنان الأردني محمد العامري، في علاقة تنسج عوالم محفوفة بالخوف والالتباس والرهبة. وحيث يتناول الشاعر موضوع ما بعد الموت، وهو يحاور العدم في مداراته الأبدية، في طقس يتخلله الذبول المريب بين الحلم واليقظة. يحيك الشاعر صلاح بوسريف عوالمه الشعرية التخييلية في هذا العمل الشعري المختلف، بالسرد، والحوار، والمواقف العجائبية، متأبطا تجربتين شاهقتين: “الكوميديا الإلهية” لدانتي وتحفة أبو العلاء المعري النثرية “رسالة الغفران”، فوضع الشعراء، والمفكرين، والفنانين، والفلاسفة، في منطقة البين بين، والتي سماها أبو العلاء المعري “المحشر”. وهي منطقة وسطى بين الجحيم والجنة.

ذَابَتِ الأنْحَاءُ فِي بَعْضِهَا

الجِهَاتُ تَدَاعَتْ

لَمْ أَعْرِفْ فِي أَيِّ اتِّجَاهٍ أَسِيرْ

اخْتَلَّتْ وِجْهَتِي

لا

فَرْقَ عِنْدِي

بَيْنَ

الصُّعُودِ

وَ

النُّزُولِ

أَ

أنَا

أَمْشِي أَمْ وَاقِفٌ

الغَابَةُ،

خَلْفِي أمْ أمَامِي!! ؟

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *