“باب الحيرة”: اقرأوها بسلام آمنين

(ثقافات)

أقرأوها بسلام آمنين

*علي السوادني

هذه قراءة أولية انطباعية ابتدائية انفعالية أو أي توصيف ممكن أن يجعلها خارج المصطلح النقدي في هذا الباب، لكن ليس في باب الاجتماعي المجاني السطحي الاخواني الذي يصير القراءة هنا بطرا أو ضربا من نفاقيات غرف الدب وموائد أدباء بعد منتصف الليل وأوشال الزجاجة!
هي مدونة مدهشة حطّت علي وارتاحت في حقيبتي وطرا على وطر حتى جاءت ليلة استلالها وإشهارها امام العين والقلب والعقل

إنها واحدة من بركات معرض عمّان الدولي للكتاب الذي جئنا على بعض طرائفه وقفشنا سلة من لطائفه في مكتوب سود هذا المكان من قبل.

الكتاب قصد الإحتفاء ومهوى عذب الكلام كان رواية مروية عنوانا على معنون وإسماً على مسمى هو (باب الحيرة) لكاتبها  يحيي القيسي، وسأعود مسرعا الى لعبتي المدلوقة أول سطور هذا الكلام لأنجو بجلدي من شبهة رمي المصطلح في غير مكانه وسك القول خارج سياقه، فأقنص طوق النجاة وأرمي رمي الرماة، وأستأنس بخصال الثقاة، فال الشطط مني، بل هو الشطح الذي أزاحته بائنة وقولته آمنة اذ قال يحىي في محكم روايته الحلوة المدهشة:

اغفر لي يا رب
ما سيظهر للعوام
في هذا الكلام
من أضاليل وزندقات
وأحابيل ولعنات.


هذا هو اذن مفتاح الرواية والروي الذي سيفك المغاليق ويضيء الطالسم ويفضح الأحاجي حتى نقطة المنتهى، حيث العمل كان انبنى ابتداء وانتهاء على تناص مذهل مع مخطوط مترب عتيق وقع عليه الراوي المسحول بقوة المصادفة، فتماهى معه وتشرّب به وغاص في بحره الذي انكشف عن عديد مستويات وطرائق في السرد وفي الأسلوب، وفي جمال توليد اللغة، وتاليا في لبس أو تلبيس قناع فني هو أعظم خطوط الدفاع عن نص متناص مع
نصكنز غير نكرة تدريه العوام ازيد من دراية النخبة على الرغم من التضليل الذي سوقه الراوية وبثه على مفاصل متفرقات من جسد النص الكلي درءاَ للشبهة ودفعا لمصيبة التشبيه. ومما فعله في هذا الباب إعمال الفكر في تشظية اصل الأصل وتمويه حجم التناص فلم يعد بمستطاعك -أعانك الله وصبرك التفريق في لمع من ألماع الحلاج أو صرح من مشيد للأصفهاني أو مشتهى من فاكهة النفزاوي، أو أنّة من أنات التوحيدي، أو نتف من رسالة ابليس الى اخوانه المناحيس!
بل إنّ الراوي يحىي سينتشي ويتلذذ فيشيل سوط الخديعة الفنية ليرسم متوالية من سواقي الألم فوق ظهر الآخر، إذ في واحدة من أجمل ذروات النص يضحك عليك البطل فيخبرك بمكر مبين انّ ثمة خرقا أو مسحا أو نقصاً وقع على جسد المخطوط فاستدعى التأمل والتفكر وتأجيل اللذة تماماً كما وقع لترجمان ملحمة جلجامش الرافدينية التي انثلمت قصائد منها ووقائع مع انثلام طين الرقم!


لعبة جميلة متصلة ومعمار ابداعي راق ومعمعة فكرية تنقلك من خانة التنبلة الى خان العقل، فإن احتجت الدليل أو حادت مجسات وعيك -حاشاك- عن جادة الفهم فخذ هذه القطعة الجديدة من اللعبة أو واحدة من متاهات (باب الحيرة):

“دوخني ذلك المخطوط الغريب الذي لم أجد طريقة لوصفه غير النقل منه أو  الاقتباس عنه، وقد اختلط علي الأمر، وما عدت أدرك إن كان ما أكتبه هنا مأخوذ من أصله أو مما اضيف إليه من فعل النساخ والمترجمين الذين وجدوه مكتوبا بالقلم السرياني”.

في لحظة احتفائك بمسك النص يأتيك يحىي ويقترح عليك سبعين باباً وباباً من بوابات الخلق والتكوين والعلم والطعام والشراب والإيروتيك، فيتجدد النص وتتبين مرقاة التشويق حتى لحظة انطفاء جسد الرواية على عتبة كائناتها ومصائرهم المعلقة على حبل حلم متصل حفرت حوله خنادق وسواتر وشقوق تؤكد كل لحيظة أنّ ناقل الكفرليس بكافر، وان دم يحىي لن يقسم على القوم لأنّه أنجز واحدة من اجمل الروايات.

أنا هنا أحتفي بهذا الجمال الباذخ. أقرأه، لكن المصطلح نقديا لدي لألغز.

  • أديب عراقي مقيم في عمان

  • هذا مقال تم نشره في صحيفة الرأي الأردنية عام 2006 ونعيد نشره هنا لتعميم الفائدة.

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *