مأزق المنفى في المجموعة القصصية: “ضيق المنافي” للكاتب جمال أزروفي

 (ثقافات)

مأزق المنفى في المجموعة القصصية: “ضيق المنافي” للكاتب جمال أزروفي

 مصطفى الحمداوي*

منذ الدخول الأول إلى عوالم المجموعة القصصية للكاتب المغربي المقيم في فرنسا جمال أزروفي، الصادرة حديثا عن مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، يكتشف القارئ متاهة جمالية ووجودية خارقة، واجتهاد مذهل لخلق آلية سردية بتقنيات وتيمات تتميز بالجِدّة والابتكار. المنفى عند جمال أزروفي، لا يعكس بالمرَّة ذلك المفهوم التقليدي النمطي المتعارف عليه؛ إن المنفى في “ضيق المنافي”، هو مَنفى بصيغة الجمع، وبأوجه ومفاهيم متعددة. منفى يمتد بعمق في الزمان وفي المكان، ولا يعترف بالحدود الضيقة التي تتأسس عليها أنماط المنافي التقليدية التي نصادفها في باقي المقاربات الإبداعية التي تتوزع على أجناس أدبية مختلفة. وبالمحصلة فإن المنفى هنا يمثل مأزقاً جماليا مضطرباً، وفي الوقت نفسه مأزقاً يجسد التضاد المزمن بين معطيات يفرضها واقع الهجرة الثابت والمتحول في الآن ذاته.

القارئ وهو في حضرة المجموعة القصصية: “ضيق المنافي”، سيشده العنوان الهادئ والمُربك أيضاً، وسيقف كثيراً عند هذا العنوان الذي اُختير بعناية فائقة ليعكس جوهر ومضمون الخطاب العام الذي يوجهه الكاتب، بدقة متناهية، للمتلقي. ولأن العنوان يعدُّ، تلقائيا، عتبة أساسية للولوج إلى أي عمل أدبي، فلابد أن الكاتب وهو ينتقي، بعناية مُلهمة عنوان مجموعته القصصية: “ضيق المنافي”، كان على وعي كامل بأهمية المنفى في نفسية القارئ، وبالإحالات المتعددة التي يحيل إليها. وبالنتيجة فإن ضيق المنافي في المجموعة القصصية للكاتب جمال أزروفي ترمز، في رأينا، إلى منافي الروح في ابتعادها عن وجودها، وترمز أيضا إلى منافي الإنسان في عوالمه الخاصة الضيقة المزدحمة بالإخفاقات؛ هذا الانسان المفصول عن شروط زمكانيته، حيث يجد نفسهُ مُضطرا للبحث عن منافي مريحة تُوفِّر له حرية أكثر للتنفس وللحركة ولتحقيق الذات. بل وقد يرمز العنوان إلى المنفى الوجودي المضطرب الموسوم بالغموض في محايثة تفرز بالضرورة مأزقاً حادا في كل مفاهيم المنافي. هذه المنافي التي يجد الإنسان نفسه فيه مُوزَّعاً بين إكراهات تُفرض عليه فرضاً، ولا يملك أي خيار ليكون، في النهاية، إنساناً مستقلا وحُرّاً في حياته ووجوده ككائن بشري فاعل ومؤثر في محيطه. نزعم ونحنُ نقرأ هذه المجموعة القصصية للكاتب جمال أزروفي، بأن القصدية المفترضة، كانت منذُ البدء، هي قصدية استقراء لواقع ووقائع المنافي في أبعادها المتعلقة بشخصنة المجال والإنسان والحيز الذي تشغله كائنات المجموعة القصصية: “ضيق المنافي”. هذه الكائنات التائهة الموزعة على افتراضات واحتمالات يصعب تحديدها بالدقة المُتوقعة، أو بالسهولة المتوقعة؛ ذلك لأن الكاتب في هذه المجموعة القصصية اشتغل على نسق خاص، وبأسلوب قصصي تميز برمزية عالية لا يمكنها في النهاية أن تمنح فهما مجانيا وسهلا للمتلقي!

إن الإنسان في “ضيق المنافي”، وهنا المفارقة، بقدر ما هو مستسلم لقدره ومصيره، فهو، وفي الوقت نفسه، إنسان ثائر على هذا الواقع ومتذمر ويحاول بطرق مختلفة انتزاع نفسه من هذا المأزق، ولو بالطريقة الأكثر فعالية وجدوى، أي اللجوء إلى الذات باعتبارها المأوى والملاذ الأخير المتاح. وهنا ينبغي أن نتأمل هذا المصير الملتبس عندما يجد الإنسان نفسه لاجئا في متاهات ذاته اللاجئة في مكان غير مُتشيِّء، حيث تُنتج هذه الحالة، بالضرورة، انعدام الثبات لدى شخوص النصوص القصصية بمختلف تمظهراتها وحالات قوتها، التي تخفي انهزامية تولدها ظرفية غير عادية، ولا يمكن أن تكون عادية كما نتبيّن من خلال قراءتنا للمجموعة القصصية “ضيق المنافي”.

ويظهر هذا النزوع جليا في قصة: “رحيل بصيغة الجمع”، بحيث نقرأ على لسان السارد: “شرَعَت في ذلك منذ أسبوعين لكي تعطي انطباعاً بأن كل شيء بقي على حاله وأن الفاجعة التي حَلَّتْ بها لم تُغيِّر فيها شيئا، وأنها لا زالت وَفِيَّةً للصورة التي تحتلها في أذهان جميع معارفها، كونها امرأة من فولاذ، وبإمكانها أن تتخطى أمَرَّ الفواجع التي قد تدور بها دوائر الزمن. لكن حالتها كانت تكشف عن تأثر عميق يشبه الحيرة الدائمة.. حالة شرود مزمن”. قد تختزل هذه الفقرة الصورة العامة للقصة بكاملها، وللمجموعة القصصية على حد سواء، حيث يصبح لكل شيء بُعداً ينتمي، على نحو ما، إلى المنفى في تجلياته المتنوعة. تماماً مثلما يتجاور التمرد والاستسلام في قصة “رحيل بصيغة الجمع” على نحو مثير ومؤثر. إن الكاتب في هذه القصة يحاول، بمهارة مذهلة، تشريح نفسية شخصية مُوزَّعة على مشاعر خاصة تُصارعُ كيلا ترضخ لقدرها ولمصيرها الذي لم تشارك في صياغته ولا في اختياره! لكن وفي أعماق نفس هذه الشخصية، وفي غيرها من شخصيات الواقع، هناك بعض المصائر أو كلها تقريباً، كما يقول لنا السارد ضمنيا في النص القصصي، لا أحد بمقدوره تحديد موقعه فيها، ولا تحديد وظيفته فيها، ولا تحديد حتى وجوده فيها. ومن هنا يضعنا الكاتب أمام حقيقة أن الكائن البشري، ومهما اجتهد ليُقرِّر ويختار لنفسه، فإنهُ في النهاية لن يستطيع الاختيار إلا ضمن مساحة ضيقة، وفي منفى ضيق، كما نستشف من عنوان المجموعة القصصية.

وتقودنا قصص جمال أزروفي إلى حقائق أخرى تضع حاجزا موضوعيا بين الأنا والآخر. إن الكاتب يحيلنا، وبطريقة تمزج بين الحس الكوميدي وسوداوية الواقع، إلى التشابه الجلي بين جميع الأجناس البشرية، ظاهريا على الأقل. فإذا اختلفنا ثقافيا ودينيا، فإننا سنشترك في المشاعر والأحاسيس، وإذا كانت الهوية تعني اللغة والدين ومرجعيات أخرى تتحدد بحسب كل مجتمع على حدة، فإن القيم الإنسانية قادرة، لو توفرت الإرادة، على بلورة تعايش مشترك ومستدام. وهذا بالذات ما تقترحه علينا قصة “موت يزاحم موتي”. وبالرجوع إلى عنوان القصة سنكتشف الإبداع البارع في اختيار عناوين المجموعة القصصية من قبل الكاتب؛ الذي يجعل الموت في قصة “موت يزاحم موتي”، يكتسي مفاهيم كثيرة، ومعاني تقود بالضرورة إلى تشعبات تراجيدية. فبطل القصة مجرد مهاجر سري، يعيش حياة سرية، ويحلم أحلاماً سرية، ويمارس الحب في سرية. الخلاصة، كما يقول الكاتب، ضمنيا دائما، أن المهاجر السري يعيش حياته التعيسة في سرية كاملة وتامة ومحفوفة بالخوف الدائم. ففي القصة التي نحنُ بصددها يصادف البطل أوليفيا الـ: “مولعة بي، ولا تطرح الكثير من الأسئلة لإيجاد تفسير لذلك… رغم الوسط الاجتماعي الذي تنحدر منه، والذي لم يهيئها يوما لربط حياتها مع مغاربي. حالة استثناء في العائلة كما أكدت لي وهي تتحمل التبعات، لهذا طلَبت مني أن نسكن سويا”. أوليفيا البدينة، كما يصفها الكاتب، راضية على وضعها وعلى استقطابها لشاب مغاربي وسيم، ولكن شقيقها دافيد يعلق بنبرة عدائية على هذا الارتباط الذي يستنكره بشدة: “لسوء حظها (أوليفيا) فهو عربي. لا يُؤتمن له جانب. أتمنى ألا يسيء إليها وإلا …”!

لكن والدة أوليفيا تعاتب ابنها دافيد على تدخله وتتهمه بالعنصرية: “الاختيار اختيارها، وإذا كانت سعيدة أخيراً مع شخص مثله، فلتتركها بسلام. لديك ميولات عنصرية، إنك تحتقر المهاجرين…”!

غير أن الوضع يتعقد، فإلى جانب إكراهات نفسية متعددة، يظهر مستجد سيفاجئ بطل القصة، الذي سيكتشف بأن أوليفيا متعهدة دفن. تقول لهُ أوليفيا: “أنا أتكلف بالموتى، تنظيفهم وتزيينهم وتعطيرهم استعداداً للدفن والحرق…”. وهنا يطرح السارد على لسان حال بطل قصته حقيقة مدمرة: “ألم يكن الغرض من ارتباط أوليفيا بي هو فقط لأجل التكفل بموت من لا شرعية لهم في بلد لا يمتلكون فيه أوراق إقامة كما هو الشأن بالنسبة لوضعيتي! بل وتتكفل -هي وغيرها- بتنظيفهم وتزيينهم وتعطيرهم استعدادا لدفنهم وحرقهم وتحويلهم إلى مجرد رماد! في بلد لطالما حلموا بأن يصبحوا فيه أناساً بكامل إنسانيتهم، ويعامَلون فيه معاملة تليق بكرامة الكائن البشري! ثم ألا تعدُّ أوليفيا نفسها مجرد جثة على قيد حياة سرية، مثلها مثل باقي المهاجرين السريين! بل وتُعدُّ أيضاً ضحية وضعية لا تقل بؤساً وتعاسة عن المهاجر السري! وهكذا نخلص إلى أن المنفى الذي يقترحه علينا الكاتب جمال أزروفي في مجموعته القصصية: “ضيق المنافي”، هو منفى مُتخم بالقلق الوجودي، والاضطراب الحاد، والتيه داخل أغوار النفس البشرية المكلومة بوضعية هجرة قاسية.

يتجاور السؤال والجواب بالحدة نفسها في المجموعة القصصية “ضيق المنافي” كما رأينا أعلاه. أما في قصة: “جاري”، وهي قصة تختزل بالفعل أوجه المنفى المتعددة، يأتي الكلام على لسان مواطن فرنسي: “منذ عشرين عاماً، يسكن بجواري عربي لا أعرف من أي بلد هو، فهم يتشابهون عندي، لا أفرق بين جزائري أو مغربي أو تركي ولا أريد أن أفرق بينهم ولا أن أعرف إلى أي جنسية ينتمون. حتى وقت قريب كنتُ أحسب الأتراك والإيرانيين والأفغان عربا كذلك”. إن هذا الشخص ابن البلد الأصلي، لا يفرق بين العرب وباقي المسلمين من دول كإيران وتركيا وأفغانستان، بل ولا يهمه حتى أن يعرف. سيلاحظ هذا الجار الفرنسي أن جاره المهاجر، يداوم، رفقة أبنائه السبعة، على زيارة البلد الأصلي البعيد في عطلة صيف كل سنة، وبالطقوس الكوميدية التي يصفها الكاتب بمهارة لا تضاهى. ويظل الأمر على حاله، ويألف الجار طقوس جاره المهاجر الغريبة. غير أن الأمر سيتغير في إحدى العطل الصيفية، وكما هو معتاد، سافر الجار المغاربي إلى بلده الأصلي لقضاء عطلته السنوية. غير أن غيابه يطول، ولشدة الهوس الغريب للجار ابن البلد الأصلي بجاره المهاجر، فإنه يحتار في سبب عدم عودة جاره في وقت دراسة الأطفال: “طرق باب داري امرأة ورجلان من المصالح الاجتماعية يسألون عن أولاد جاري الذين لم يلتحقوا بالمدرسة ونحن في شهر أكتوبر، لم أجد إجابة أمنحها لهم. قالوا إن بعض من سألوهم أخبروهم بأنهُ رحل إلى مصر أو إلى سوريا.”

وبنبرة تحمل دلالات ساخرة، ولكنها مؤلمة وكئيبة، يردد الجار ابن البلد الأصلي، في نفسه، بأسى وحسرة: “لا أخفيكم، وأنا أستمع إلى كلام موظفة المصالح الاجتماعية، شعرت بأن صفحة من دفتر حياتي قد تم انتزاعها بعنف، وأنني سأحس بالرتابة، خصوصا إن حَلَّ أحدٌ بجواري من بني جلدتي، حياته رتيبة وعادية لا تثير أي فضول”!

هكذا صاغ جمال أزروفي مشروعه الإبداعي الأول في كتابة القصة القصيرة، لم يُسند نصوصه إلى تجارب سابقة، ولكنه استفاد من التقنيات الجديدة في فن القصة القصيرة الحديثة، واستطاع، بخيال خصب، ابتكار أفكار غير مسبوقة، أفكار شكَّلها في محاورة شيقة بين جمال وسلاسة وتدفق الأسلوب، وروعة الحكي؛ الذي تمكن من السيطرة عليه بالكامل من خلال التوصيف والوصف الدقيقين. بالإضافة إلى توظيفه للُغة مكثفة أعطت للمجموعة القصصية: “ضيق المنافي”، رحابة وجمالية ومضمون مؤثر. فبقدر ما كانت النصوص القصصية ممتعة ومشوقة، فقد احتوت في الوقت نفسه، مضمونا عميقا ومتشعب الدلالات الرمزية والقراءات الوجودية التي تنتصر، في النهاية، للقضايا والهموم والقيم الإنسانية الشاملة!    أزروفأزروفي لمشروعه

مصطفى الحمداوي: كاتب وروائي مغربي مقيم في هولندا

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *