“أكذب مثل التفاح”.. جدلية مليئة بالدهشة والجمال

“أكذب مثل التفاح”.. جدلية مليئة بالدهشة والجمال

سامر حيدر المجالي

 

 

يفاجئ عيد بنات قارئه منذ الوهلة الأولى؛ إذ يخبره أنه يكذب مثلَ التفاح، وفي هذا الإخبار إحالات كثيرة تناثرت شظاياها في متن الديوان..

هل يكذب التفاح؟ علينا أن نستعين بـ”السيمياء”، ففي أغوار الوعي البشري السحيقة ما قد يعيننا على فهم المفارقة.. التفاح شهيٌّ، وآثم، ويفوح فوحًا لطيفًا، تلك هي المعاني التي تُستحضر فور أن يُذكَر التفاح، ولعل هذا هو المقصود؛ فعيد يريد أن يخبرنا أيضًا أن كلامه شهي، ومتمرد، ويصل إلى أعماق الروح..

أما الكذب فله شأن آخر؛ إذ اختلطت في زماننا الأشياء، فما عادت الحقائق ناصعة، ولا الكذب مفضوحًا. والشاعر الذي كان مستودعًا للحقيقة ما عاد قادرًا على فعل شيء في عالم يقسو على الشعراء:

بأصابعي

أتناول الصباح

وخوخ الحب الساخن

بأصابعي أُغلق درفة الباب

بأصابعي

أصغي لصوت حبيبتي البعيدة

بأصبعتي الخائفة أؤشر على بقعة ليلٍ

لطخت شرشفي الأبيض

أمشي على أصابع قدمي لأجمع الهمس اللذيذ

الذي تساقط من فمها على سجادة البيتِ

الآن.. لم أعد أفعل أيّ شيء

فأصابعي مقطوعة!!

من هذه الجدلية التي يتولد عنها قلق الشاعر، يشتعل عالم الكلمات، فالواقع قاسٍ يبعث أولئك ذوي الأرواح المرهفة على الهروب بعيدًا عن محرقة تتكرر كل يوم:

أصحو من النوم فارغًا

أبحث عن عبوة الفرح

لا أجدها..

أقلب العبوات المتتشرة على الرفوف

أقرأ ما كُتب عليها:

حزن خفيف،

حزن غامق،

حزن طويل،

أمدُّ يدي

أتناول عبوة مكتوبًا عليها:

“بلادة”!

أتجرعها

ثم أمضي..

بيد أن روح الشاعر لا تتركه لهذه الانهزامية، فما فائدة الكلمات إن لم تحرك راكدًا، أو تسهم على الأقل في بثِّ الأمل في نفوسنا:

لماذا أنت صامت وأبيض؟

كأنك قمر مزق أشلاءه في آخر الليل

ما زالت الأشجار تنمو من حولك

والسماء ما زالت زرقاء

والبحر لم يعد رماديًّا

أنت أخطأتَ كثيرًا

حين أغلقتَ على نفسك درفة الليل

ودخلتَ خطأ في غرفة الغياب..

إن عيد ابن هذه الصراعات اليومية التي تتجلى في المعقد والبسيط، والكبير والصغير، والمعلن والمسكوت عنه، لذلك تمتلئ قصائده بالصور التي تحيل إلى الواقع، لكنها تجعله ينطق بما لم يكن في حسبان القارئ:

بيتنا الذي في آخر الشارع

حين كان صغيرًا

كان يحبو كالماء ويبكي كالماء

كل صباح يجمع ابتساماتنا التي سقطت

على حين غفلة منا

ويغرسها في أصص النرجس..

الشاعر الذي في قلب عيد يقوم بواجبه أكمل قيام، فيوظف الخيال ليخفف من وقع الحقيقة؛ فالإنسانية –بحسب إليوت- لا تتحمل كثيرا من الواقع، وهو؛ أي الخيال، عند أفونسو كروش: “ليس هروبا من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجامًا مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية”.

فهل كان كذب عيد التفاحي تأسيسا لواقع متخيَّل، جدلي، يمكن له أن يكون أو لا يكون؟ وهل كانت قدرته على الإدهاش، وتوليد الصور المذهلة، وجلب المتناقضات لتذعن لرؤياه، هل كان كل ذلك ثورة عارمة اتخذت من الصور الذهنية القارة في الوجدان الجمعي مدخلًا له لإيصال شكواه/ رسالته/ نبوءته، الخاصة؟

أجزم أن التجربة مفتوحة على كل التأويلات، وهي قراءة على من ينشد الشعر والجمال وعمق الفكرة أن لا يفوِّتها، ذلك أن فيها ما يؤيد تلك الرؤيوية التي يمتلكها عيد، فقد تحرر من أثقال الشعر التقليدية، واختار أن يسلك سبيل “قصيدة النثر” ليفجّر في كل صفحة لغمًا جديدًا، تارة على مستوى اللغة، وتارة على مستوى الفكرة، وتارة على مستوى الصورة، فأعاد إلى الأذهان صراع المتصوفة القدماء مع القوالب، وهم الذين أسسوا لما يُعدُّ بواكير قصيدة النثر (النفري نموذجًا)؛ فالشيء المؤكد أن اللغة تضيق مع اتساع الرؤية، والآكد من ذلك أن عيد بنات واحد من الأشخاص الذين يخاطبون الأشياء في أعمق أعماقها..

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *