سعد القصاب*
لم يعد الجمالي، نخبويّاً ومتعالياً وذهنياً. إنه، في نسخته المعاصرة، مادي تكفله التقنية حيث يمضي حراً تجاه الواقع. كما أن فعل تذوقه لم يعد مكفولاً بأناس من المهتمين بالفن، بل برؤية تتبناها الفنون ما بعد الحداثية الداعية إلى ديموقراطية الذائقة. الجمالي، إذن، بات ذا طبيعة تشاركية. علينا التفكير أيضاً في أسئلة ما تزال موضع سجال في الحساسية المعاصرة: موت الفن؟ هشاشة الحدود بين الفن واللافن؟ من أين يبدأ الفن وأين ينتهي؟
ذلك ما مهّد لتأسيس مشهد صوري معاصر. هو نتاج انجذاب وممارسات وابتكارات ذوقية متوافقة مع ما يجري من تحولات للعصر، حيث تحولت أسرار المهارة في الفن كي تكون بحثاً في أسرار التقنية والتصنيع، أو مغامرات تجريبية لسلسلة متواصلة من الأداء التقني.
لاشك من أن التوجه الذي بدأ يجتاح العصر ومجتمعاته المدنية، في بعده السياسي، الفكري، الثقافي والاقتصادي. يمضي إلى دمج وتوحيد أشكال العيش والمعارف والثقافات في العالم. متجاوزة الخصوصيات وجميع الفروق في سبيل جعلها مكاناً واحداً، وعبر عملية تنميط كوني تدعو إلى تسوية شاملة في جميع مناحي الحياة. من التسلية الحديثة حتى المنتجات والسلع الأنيقة، مروراً بالفن والفكر إلى العمارة وتصميم المدن.
ان حساسيتنا الجمالية والذوقية ضمن هذا المجال، غدت تعيش تطوراً غير متكافئ. ينطوي على إشكالية تعززها أساليب الإنتاج السريع، سواء في الأفكار أو المفاهيم. شأنها يشابه الحياة المعاصرة تماماً، والذي يسعى كل ما فيها، كي يكون موضة، تستهلك وتتلاشى. إنها جديدة فقط. تهمل الماضي وتخفي صلتها بالقيم السابقة. لافتراض مجال وحيد لها هو الجديد، المتعلق بالراهن الذي لا ينتج سوى المظاهر. وكأن جميع الاشياء والتجارب باتت تأتي من مكان غير متعين لتذهب إلى آخر غير معروف. إن سعرها هو ثمن تخطيها وغيابها.
في عصر يحيا هذا التقارب المتشابك، بين التحولات التي تصيب الاجتماعي والمتغيرات التي تطال الجمالي، والذي لايمكن خلاله فهم طبيعة الأول من دون قراءة نقدية لوظيفة الثاني. كما في التهيئة لمجتمع مختلف ومعرفة مغايرة، يفترضان وجوداً لم تتضح معالمه بعد. لابد من أسئلة تسعى لتأسيس مجال نقدي جديد وأفكار أكثر معاصرة.
هل حقاً أننا نحيا في عصر يرفل بالامتيازات أم أننا تحت وطأة إيديولوجيا لا تحفل بوعود إنسانية وغايات كبرى قدر احتفائها بـ»يوتوبيا» تؤسس لها التقنية والأشياء وعملية استهلاكها؟ هل نحن في عالم يمضي كي يوحدنا ليس بوصفنا أناساً متفردين إنما كجمهور متشابه، متماثل، شديد التجانس، قابل للخضوع إلى عميلة تنميط كوني وتسوية شاملة للحياة والوجود، سيغيب فيهما كل أثر لخصوصية الذائقة أو قدرة الاختيار ولا تبقى سوى الغواية التي يشارك فيها الجميع؟
هل نجد أنفسنا متورطين في الخضوع !؟
______
*الصباح الجديد