ٌمخاضٌ صعبٌ لمولد كتاب

(ثقافات)

 مخاض صعب لمولد كتاب  

 

    إفلين الأطرش

 

     بعد رحيل، ” عدي” من هو رفيق الدرب لعقود؛ ذاك الرحيل المبكر والسريع، والأشدّ وجعا من كلّ حقائق الحياة، أعيش تحت ركام هذا الزلزال. وبخاصة أن كل الأحاديث باختلاف مصادرها ووسائلها، تبتدأ به وتنتهي كما ابتدأت. ولم تكن صيغ تحايل أمارسها إلاّ سلوكيات ترتدّ سلبا على نفسي قبل غيري. وفي محاولة لملمة نفس بعثرها الزلزال، أدركت من خلالها، أنني أتعدّى على طمأنينة تجاهنا رافقته، وأن عليّ الخروج منها بإحلال غيرها. فهذا ما سيريحه ويبقي على طمأنينته التي ما انفك التعبير عنها أيام مرضه  الأخير.

   أعود إلى استعادة مراحل حياتية، وأراه كما هو في كلّ منها، فأقول له : “إنّه أمر سهل أن يختار إنسان ما طريقا وحيدا يسلكه، ليكون منطلق سعيه، بعد تشعّب طرق بدايات صناعة نفسه. لكن أن يّبقي آخر على تلك التشعّبات مجتمعة، ويسير فيها بثقة، وبثبات، وبصلابة وبعدم انحياز، فإنه لأمر صعب. ألذلك لخّصت نفسك في جملة واحدة  من مقدّمة سيرتك الذاتية ( فأنا لم أتغيّر في المجمل، فلقد شددت وثاقي على قناعاتي ونهجي طوال حياتي)؟ فمن أين تأتّى لك ذاك اليقين العميق؟

   أمن محبّة وترابط أسريين كبيرين، وحاضنة اجتماعية لا تقلّ أهمية؟ أم مقوّمات ذاتيّة تجبلها الأيام وملاحقة إفرازاتها؟ ام الإيمان الشديد بأهمية الاستمرار لتحقيق أحلام مشتركة مع الناس جميعا؟  أم فكر وثقافة ورؤية دقيقة بقيمة الإنسان على أرضه، مهما ضؤلت مواردهما الماديّة؟ أم الوصول إلى كرامة العيش المتساوي، لتكون الحياة أفضل وأعدل، فتصير أجمل؟ أم كلّها مجتمعة لتشكّل رافعة راسخة للنهوض بأيّة محطة حياتية فارقة؟ “

 صار لافتقاد سيرة بدأ كتابتها، ولم يتمكّن أحد من استرداد ما أقدم على محوه، أثره الحزين، على الجميع. ولم يرفدني أحد الكثر الواعدين تزويدي بقصص عنه  في مراحل تاريخية أحتاج  لذاكرتي مصادقة عليها، أو رفد جديد لها ما يُشفي الغليل؛  لتزداد مطالبة أبنائنا بشكل خاص، بوجوب تسجيل سيرته بشكل انفرادي. لكنّ الاقتراب من الكتابة، ما كان يرجوه ويتمنّاه دوما، ويستحثّني على الإقدام عليه. فهل سأنهض بكذا مسؤولية تُلقى على عاتقي؟ وهل سيرى ما  تمنّى دوما إقدامي عليه؟ ألن يكون في ذلك خيانة لثقة بخطوة كنتُ أجد الحجج المتنوّعة لأبتعد عنها؟ أسيرضيه هذا الاقتراب المتأخر؟ وهل.. وكيف.. وماذا.. وتتابع توالدها.

  تضعفني أسئلة دون إجابات ذاتية مُقنعة، وتشدّني مسؤولية دوافع انطلقتُ منها لدى مطالبتي له كتابة سيرته، فتطلّ أشكال التحايل لإضعاف الشعور بالتردّد. يقوّي مسؤوليتي ويعزّزها، عهدي له بأن أبقى كما يراني، وتجذبني ابتسامة فرحة مشجّعة، استقبلني وودّعني بها. فأنحاز لما هو عليه، مواجهة الصعب باتخاذ القرار الأصعب؛ ففيه تغليب رسالة حياة حيّة للمتابعة.

  بدأت كتابة متقطّعة في أوقات كثيرة، بحسب الحالة النفسية المرافقة، وضعف مقدرتي على كتابة سردية تطول، لم أعتدها. تستوقفني الأحداث  والقصص التي أعاشني إياها ، إما لكثرة ما أعادها في فترة زمنية لم أكن على أية صلة به من أي توصيف يذكر، أو ما لازمتُ عيشه بعد التقائي به. تستوقفني بصدقيتها وبمدلولاتها وتصعّب المفاضلة بين كثرتها لتخيّر إحداها. فارتأيت أن يكون لي اجتهادي الخاص في كتابة سيرة  بعيدة عن نمطية سائدة في كتابة السير الغيرية. فهو شريك الاهتمامات جميعها على الصعيدين العام والخاص.

  انتهيت من كتابة مسوّدتها الأولى على جهاز أصمّ لم أكمل تعارفي معه بعد، لم يقدّر خطوات حبو أولى. تملّكني شعور طاغ بأنني قد ألقيت حملا كبيرا  يثقل كاهلي طوال أكثر من عامين . لكن الكتابة الطويلة والحديث الدائم مع “عدي” بصفته المتلقي الأوحد لما أفيض به، ساهما كثيرا في استعادة اتزاني النفسي. ليبدأ القلق من تقبّل ما أنجزت، كوليد لم يكتمل نموّه في رحم الذات.

 وبالرغم من عدم رضاي التام، إلا أنني دفعت بها لعدد ممن أردت الاستئناس بآرائهم إما كمصادقين على ما أوردت، أو رافدين لقصص تتعلّق بأحداث عرجت عليها، بعد تقييمهم صورة هذا الوليد غير مكتمل التكوين من حيث المحتوى والمضمون والأسلوب. وهنا لا بد من تسجيل شكري وتقديري وامتناني لكل من الأديب الكبير محمود شقير، الناقد الأستاذ د. محمد عبيد الله، الأستاذ المحامي ربيع حمزة، شقيق عدي وأخي عدنان مدانات ، شقيقتي ليلى بمتابعاتها المستمرّة في أين وصل مشروعي، كما كانت تصفه، احتضنته بمحبة قبيل رحيلها بأشهر، أبنائنا الثلاث عروة وقيس وهمس، وعدي بطبيعة الحال في مقدّم الجميع.

 انفصلت عنه، وابتعدت طويلا عن رؤية وليدي. وحين وردني أول تقييم مشجّع من ابننا قيس، انتظرت لتقييمات تأتي ممن  ذكرت. أعود إلى رؤية وليد أطلقت عليه اسم” خرابيط” لدى لقائي به من جديد رغم اعتراض الجميع على التسمية. أعيد الكتابة هنا وهناك, والحذف والإضافة وتغيير صياغة الجمل والتحرير لمرات عدة، فأنهيت  بداية العام 2020 بعد مراجعة كريمة للصديق محمود شقير الذي قدّم للكتاب على صفحة الغلاف الأخيرة؛ ليُدفع به إلى دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان لصفّ ضوئي أول وثانٍ بعد التصحيح والتدقيق، للقيام بما يتبقّى من إجراءات.

تُغلق الدنيا في كل مجالات الحياة بسبب كورونا اللعينة، بالإضافة إلى معاناة شديدة، على الصعيد الخاص، مع أمراض أحبّة من أهل وصديقات مقرّبات وأصدقاء أنقياء أنهت أمراضهم حيواتهم،  ففقدت رغبتي في متابعة أمر الكتاب “الوليد” كي يُبصر النور. لكنه أبصره، فوصلتني أولى نسخه آخر يوم من ذاك العام ونحن نستعد لبدء ما يليه. فجاء تسجيله كأحد إصدارات  العام2021 والكل لا يزال يعاني تبعات كورونا لتضيّق المسافات بين الناس، وتحوّلنا جميعا إلى أرقام  في عداد الأحياء المحجورين., وتتوالى حالات الفقد الأليمة من حولي لمن يصنّفون الآن في عداد غير الأحياء.

  وكما تركت المساحة الأكبر للأهل ولأصدقاء عدي من كافة الأطياف بحسب علاقاته الواسعة، رفد ما كتبت بما يذكرونه أو يريدون  إضافته في كافة جوانب شخصيته؛ أترك  للمهتّمين من كتاب ونقاد وغيرهم من كافة الفئات  المجتمعية، تقييم هذه التجربة  في ما إذا كانت رسالة حياة حيّة للمتابعة، غلّبتها  بانحيازي إليها أم لا، أم غير ذلك ؟!

  أمتنّ لكلّ باسمه الشخصي وأثمّن عاليا دور من ألقى ضوءاً خلال هذا العام أو سيلقيه لاحقا، بشتى الطرق والوسائل المتاحة، لتوضيح ملامح مولود اتمّ عامه الأول الآن، يحمل اسم ” ترحال ـــ عدي مدانات …حكاية أعيشها”.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *