الشَّاعر موسى حوامدة.. أتوجَّس من النَّمط.. أتوجَّس من الكمال

الشَّاعر موسى حوامدة.. أتوجَّس من النَّمط.. أتوجَّس من الكمال.. أخاف من بلوغ المثال الأعلى من حدوث اليقين والظّفر

حوار صبري يوسف

ينقشُ الشَّاعر الفلسطيني موسى حوامدة، حرفه بأبهى ما في صفوةِ الشِّعر الخلاق من إبداعٍ فوق خارطة الشِّعر والحداثة الشِّعريّة، وكأنّه يبني وطناً رحباً عبر قصيدةٍ متميّزة في كلِّ ديوانٍ من دواوينه، الًّتي توَّجَتْ مكانة راقية لقصيدة النَّثر، بعيداً عن تأثير قصيدة النَّثر الغربية، منطلقاً من ذاته المبدعة في بناء عالمه الشِّعري من خلال تجربته الأنينيَّة الفسيحة، مجسّداً رؤى وآفاق حداثوية جديدة على السّاحة العربيّة، جنباً إلى جنب مع شعراء الحداثة العربيّة.

تبرعمَتْ عوالم الشَّاعر موسى حوامدة من ذاكرةِ شتاتٍ مثخّنةٍ بالجراحِ والانشطارِ والانكسارِ، ليشيد لنا وطناً شامخاً عبر فضاءاتِ لغةٍ متعانقة مع زرقة البحر ونضارة السَّماء، مستنبطاً وطناً مرفرفاً على أجنحةِ أملٍ، وطناً سامقاً كأشجارِ السِّنديان، عبر روحه التوّاقة إلى الحرّية والفرح والعطاء والسَّلام فوق تراب وطنه، جانحاً بكلِّ شغفٍ نحو إنسانيّة الإنسان!

يتميّز الشَّاعر برؤية عميقة في التَّجدُّدِ والتنوّعِ في المواضيع الَّتي يجسِّد تشابك فضاءاتها عبر اخضرار القصيدة، مستلهماً حبقَ الشِّعر الصّافي من خبراته ومماحكاته في الحياة، راصداً بتأمُّلٍ قلقه الدَّائم فيما يحيط بوطنِهِ وبالعالمِ من انكساراتٍ، محاولاً عبر مملكة الشِّعر أن يبلسمَ الجراحَ المستفحلةَ فوق وجنةِ الوطنِ ووجنةِ الإنسانِ أينما كان، فنجدٌهُ يحلِّق فوقَ خدودِ غيمةٍ، وفوقَ انبعاثِ موجةٍ، وإشراقةِ شمسٍ في صباحٍ باكر، بحثاً عن السَّلامِ والحبِّ الآفلِ خلفَ جشاعةِ إنسان هذا الزَّمان!

أصدر الدَّواوين التَّالية: شغب 1988، تزدادين سماءً وبساتين 1998، شجري أعلي 1999، أسفار موسى العهد الأخير 2002، من جهة البحر 2004، سلالتي الرِّيح عنواني المطر 2007، كما يليق بطير طائش 2008.  وفي النّثر أصدر: خباص الضايع، حكايات ساخرة 1994، زوجتي ضربتني، حكايات حب ساخرة 1999، حكايات السموع 2000.

الشَّاعر عضو رابطة الكتّاب الأردنيين واتّحاد الكتَّاب العرب، وقد ترجمت قصائده إلى اللُّغة الإنكليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة والرُّومانيّة والكرديّة والعبريّة. قرأتُ دواوينه الشّعرية وسرديّاته، وتواصلتُ معه عبر الشَّبكة العنكبوتيّة، فولد هذا الحوار:

  1. ينطلق نصُّكَ من ذاتكِ، من مخيالكَ، من تجربتكَ، مازجاً الخيال بإرهاصات الواقع الَّذي مررْتَ به على مساحات العمر، المحفوف بالآهات، كيف نجوتَ من جمال وفخاخ الشِّعر الَّذي قرأتَه طويلاً، وبنيتَ نصّاً خاصّاً بك منذ البداية؟

– أعتزُّ بهذه الشّهادة، لأنّها تصدر من شاعر وفنّان ومثقَّف، لا أستطيع أمامه أن ألتفَّ على الأسئلة، أو أوارب في الإجابة عليها، لأنّها ليست نمطيّة، أو عاديّة، ولأنّك قارئ عميق ومطلع على التّجربة، فمن هنا لا أملك مساحة للمناورة والمجازفة، ويقيني أنَّ التَّجلي أمام مرآة الدّهشة أفضل من الإجابات المدرسيّة، لأنَّ سؤالك ليس مصاغًا بهدف التّعرف على جواب ما، أو معرفة ملعومة أو رأي ما، وإنّما تأويل في محراب الدّهشة، ومن اللّائق إذن ألّا تنحصر الإجابات في الشَّكل المألوف والمتعارف عليه.

حين كنت في المدرسة وقبل التَّلعثم بشكلٍ ما للقول أو للكتابة الشِّعريّة، كنتُ أميل للأستاذ غير التَّقليدي، حين كان أغلب المدرِّسين في مدارسنا، يتبنَّون هذه الصُّورة النَّمطيّة للمدرِّس، وحده المعلم المختلف من كان يجذبني ويقنعني بدرسه، وربما تعلَّمت من مخالفة تعليمات المعلِّمين أكثر ممّا تعلَّمت من حفظ دروسهم، لهذا كنت أهرب دائمًا من كلِّ شيء؛ من الرّداءة والرَّكاكة التّلقينيّة، وحتّى من الرَّزانة التَّعليميّة، والّتي لا تخلو حتّى من النّصوصِ الجميلة، ولكنّي كنتُ أملك رغبة دائمة، وطاقة على الرَّفض، حتَّى بتُّ أنفرُ من تكرارِ النّصوصِ الجميلةِ والمتداولةِ، وما زلت أحتفظُ بهذه الطّاقة النّفوريّة والحالة النّقديّة التَّشكُّكيّة من كلِّ ما كنّا نقرأ ونحفظ، وحتّى ما نعجبُ به.

 وجدتُ ذلك في داخلي، ولم أتعلَّمه ولم آخذه من أحد، كلُّ نصٍّ مهما كان جميلًا ومقدَّسًا ومتداولًا وبليغًا، كان وربّما لا زال يحملُ وقودًا لدفعي وإشعاري بالنُّفور، كلُّ شخصٍ مهما كان جماله، وحبِّي له وحتى إعجابي به، يمنحني مساحة للإبتعاد عنه، كلُّ قيمةٍ وكلُّ منطوقٍ وكلُّ رضا كان يدفعني للاحتفاظ بشيء ما، شيء مغاير داخلي، حتّى إذا ما جلست تحت ظلال أي فكرة ولو كانت من بنات أفكاري ومشاعري أجدني في لحظةٍ تالية، أنفر منها وأبحثُ عن ظلٍّ آخر، لأنَّ الفيء الثَّابت لا يملك دهشة تستحقُّ المكوث والاستقرار عنده طويلًا.

  1. لديك نزوع عبر ديوانكَ: “سلالتي الرِّيح، عنواني المطر” نحو تجسيد الانتصار، والوقوف عند خرابنا المرير، كيفَ جسَّدْتَ هذه الرُّؤية شعريَّاً، مع أنَّها تبدو متنافرة ومتصارعة في الكثير من فضاءاتها؟!

لم أخطِّط لتسجيل أي مكسب أو نمط أو إنتصار، ربّما ظهرت تناقضاتي الجوانيّة فعلًا في هذه المجموعة خاصّة وأنني خلال كتابتها، كنت أشعر بأنّي خسرت العالم بعد موت أبي وأمي دفعة واحدة في شهر واحد من عام واحد، 2003 في بلدتنا البعيدة عن إمكانيّة ذهابي الحرّ لها، وكانت نتيجة هذه الفاجعة أنِّي تيقَّنت ألّا معنى للجذور، وأدركت فاجعة ضياع الشَّهقة الأولى، وشاهِدَيّ وصانعي الخلق الوحيدين، كنت أظنُّ أنَّ اليقين الأوَّل يعتمد كليًا على المكان الأوّل، والجذر الأوّل، والخديعة الأولى، ولطالما نكتشف أنَّ الخديعة لا تعبر مرّة واحدة، وتنتهي، بل تعاود الطَّعن بأشكال متعدِّدة، حتّى إذا ما حسبنا أنَّنا في حرز مكين، وبرج آمن، وتحت حماية دعاوى الصّالحين، نفاجأ أنَّ الصَّدى لا يملك حق التّكرار، وأنَّ الوهمَ لا يعطي بلسم الشَّفقة، وأنَّ الجدران الّتي تحمينا تتصدّع، والوهم الّذي يشحذ بطولتنا وتمرُّدنا يتلاشى مرّة واحدة، وإلى الأبد، بل نكتشف أنَّ الأوهام الَّتي نخلقها بأيدينا هي الَّتي تصير سياج خرابنا المضحك، وهزيمتنا السَّاحرة، وسلالتنا الخادعة.

لا أملك برنامجًا لما أكتب ولا أخطِّط لما سأكتب، ولا أتشبَّث بإطارٍ، أو مدارٍ ما، لكلِّ خرابٍ يتجسَّدُ في الحياة… أو وهم يتهاوى على مرآى منّا

كلُّ شيءٍ يتهافت

كلُّ قصيدةٍ تتداعى

كلُّ شعورٍ يزول

ولكن لا منارة تظلُّ نبراسًا ودليلًا للحائرين، ولا تحتفظ بشلعتها طويلًا

اللّحظة مخاتلة

والقصيدة تعبث بما تشاء

لا حكمة تنضج، ولا مثالًا ينهض من كبوته، وكأنِّي أعودُ أتعرَّفُ على الكلمات، على الجمل، على الشُّعور، على الدَّوافع، على النَّواقص، على البواعث، أتوجَّس من النَّمط، أتوجَّس من الكمال، أخاف من  بلوغ المثال الأعلى، من حدوث اليقين والظّفر.

لا توجد احتمالات للقصيدة، لا توجد تعاليم للشعر، والَّذين بنوا عروشهم من حطام الكلمات المستعملة، لم يفطنوا لأخطاء المهندسين المعماريين، وتسلَّل الماء من تحت أساسات عروشهم الموهومة.

 لا سلالة نقيّة، لا فكرة خالدة ولا مديح يكتمل، ولا قيامة تنهض.

  1. هل ترى أنَّ الجموح الرُّوحي للشاعر أعمق بكثير ممّا يكتبه، متى يمكن أن يترجم الشَّاعر هذه الجموحات الرُّوحيّة المتألِّقة، أو أغلب ما ينتاب أعماقه على نصاعة الورق؟!

يا لروعة السؤال حين يهزُّ أُسسَ الخدر الجميل، يهزُّ المعايير النَّمطيّة للإبداع هذا ليس سؤالًا واحدًا، ليس سؤالًا مجرَّدًا، هذا مجاز لفلسفة عميقة لروح الشِّعر، لروح الفلسفة، لروح العالم لروح الحروف نفسها، تلك الحروف الّتي لا تكفي الطّموح لتقييف الكلمات، وفق مقاسات المخيّلة. وضعتَ يدك على معضلة الشِّعر والفلسفة وحتّى الدِّين، ومنذ خلخل “إيمانويل كانت” أسس الفلسفة الغربيّة والتّجريبيّة بدأ الزّلزال يجتاح العالم، المعنى أكبر من حيازته بقبضة يد الفيلسوف أو الكاتب أو حتّى الشَّاعر نحن نحاول أن نقبض على صورة ما، تعبير ما، قصيدة ما، لكن روح العالم غامضة وماهية المعنى غامضة، ستظلُّ تدفعنا للمزيد من التَّفسير والمحاولة والمجادلة على أمل الوصول لكن الوصول متعذِّر فلم يكتشف العالم بعد وسيلة غير اللُّغة للتعبير، لم أكتشف بعد وسيلة مغايرة للكلمات، مُغيَّرة للكتابة، للقصيدة، لأقبض على فحوى العالم، لأقبض على جموح الشُّعور، لأقبض على مدار ما أقول، هذا مداري، هذا مجازي، وهذا شقاء الرُّوح، وعجز المعرفة، ونكوص الموهبة عن الوصول.

  1. كيف تلتقط حفاوة الكلمة ـــ النَّص، عبر تدفُّقات الشِّعر، خاصَّةً عندما تكون محلَّقاً في عرين الشِّعر، وفي حالة وجْدٍ وإنتشاءٍ، هل تطاوعك انسيابيّة انبلاج القصيدة واشراقتها كأنّها منبعثة من أعماق بوحِ الرُّوح؟!

في حالة الكتابة، كتابة القصيدة، لا يظلُّ حجرٌ على حجرٍ، ولا تبقى خريطةُ طريقٍ أو نبراسٌ أو خطَّةٌ، ولا تنفعُ المعاجمُ والدَّواوينَ السّابقة والمحفوظات العتيقة، الطَّاقة المتسارعة لمحاولة نقل الإحساس الدّاخلي، الحرص على عدم ضياع الفتنة الدَّاخليّة، محاولة توضيب الكلمات، ووضعها في سطور، لتعبِّر عن خلجات وتراكمات تشظّي أو تجلِّي أو انفلات صور ما، تتصارع كلّها، تخوض حربًا ضدّ تشكُّل بعض الحروف مع غيرها، وصراعًا يضطرم لإعدام مئات الكلمات، وإحالة ما يطفو على السَّطحِ، ما يليق بالأصابع فوق حروف الكيبورد، إلى جمل تتلوها جمل، وفراغ بين السُّطور، واختفاء الكثير من الكلمات، والتَّلاشي المحموم، لغيوم عابرة بالكاد تقبضُ السَّماءُ أطرافَ يدها، قد تزهو، وقد تتعثَّرُ، قد ترتسم، وقد تتبعثر، قد تغتبط بعض الصّور، وتفوز بالتجسيد، وقد تموت آلاف الصُّور والأحاسيس، وربّما لا ننقل ما كنّا نرغب به، أو ما كان يعترينا وقت الذُّهول، ولذا لا أفضلية لنصٍّ على نصٍّ، ولا قصيدة على أخرى، القضيّة أنَّ ما يُسجِّل هو نَثار لتلك المعارك الدَّاخلية الطَّاحنة الّتي تفقدنا العقل، ولا نحتفظ سوى بآثارِ بعض المشاة على أرواحنا.

  1. قلتَ مرّةً: “أنَّ القصيدة أجملَ من الوطن”، هل لأنَّها خالية من النّتوءات والدِّماء، أم لأنَّها تولد عذراء بكر، تحمل بين عوالمها كلّ ما هو جميل للوطن والإنسان والحياة؟!

قال أحمد شوقي هب جنّة الخلد اليمن لا شيء يعدل الوطن، وتغنَّى الشُّعراء بأوطانهم وكتبوا قصائد جميلة في حبِّ الأوطان وهذا حقّهم، كلُّ هذا جميل وجميل جدًا، أمَّا بالنّسبة لي فالقصيدة أجمل من الوطن، ليس لأنَّ الوطن الَّذي قلتُ مرَّةً أنِّي شقيت به وقد حملته منذ ولادتي وهو طفل مشلول واستنزف ولا زال يستنزف أرواح وأعمار الكثيرين، وتسبَّب في عذاب شعب، ما زال يتناسل في المنافي ومخيمات اللّجوء وتحتَ الاحتلال، هذا القدر الَّذي لا نهرب منه جبنًا ولا خوفًا رغم كل الجراح والآلام، لكنّه ليس وطنًا معافى حتّى أتخلَّص منه، وأهرب من رباطه، كما قلت عن نفوري حتّى من النّصوص الجميلة، أحاول النّفور حتَّى من قبضة الوطن، ولن أفعل كما فعل رامبو، (كلُّ شيء فرنسي منفر)، وحين قلتُ أنَّ القصيدة أجمل من الوطن، فلأنِّي أريد قصيدة أجمل من كلِّ وطن، وأريد وطنًا معافى يتراجع عناؤه وعذابه.

 تظلُّ القصيدة وطني الأنسب ففيها من الحرِّيّة والاستقلال ما يغني عن وطأة الخراب والتَّعذيب النَّفسي واليومي لما يجري فوق تراب الوطن الّذي ازدهر فيه الاحتلال والخراب والطّغيان، والّذي توزَّع دمه بين القبائل العربيّة والعالميّة وبات الأعداء أكثر من قدرة الفراش البسيط على التّحمُّل والمتابعة والمواجهة، لذا دعني أهرب إلى القصيدة، فهي الفضاء الوحيد المتاح بعد كلِّ هذا اليأس والإحباط والخيبات، ورغم ذلك لا أنتقص من حقِّ الجبال في رغبتها وتوقها إلى معانقةِ الشَّمس، ولا من حقِّ الدحنون على الاحمرار، ولا من حقِّ الزَّيتون على الاخضرار، ودوران الزَّيت في عروقه، لكنِّي لم أعُدْ مسكونًا بعقدةِ الذَّنبِ تجاه مكر الطَّبيعة، ولؤمها في تسليط الحقد على البقعة الّتي ولدت فيها، ولو كنت حرًا من هذه الذُّنوب لما توقَّفت عند صرخة أحمد شوقي، أو مدائح الأوطان الشِّعريّة والحماسيّة، بل لهربت من كلِّ الجغرافيا، وقلت للأرض يا وطني، وللغياب الحرّ خذني إليك من كلِّ وهم.

  1. متى يصل الشَّاعر إلى حالة صفاء في ترجمة الواقع المحفوف بالصِّراعات المريرة، هل الحزن هو مصفاة حارقة لتصفية روح الشِّعر من الغبار العالق في مآقي القصيدة؟!

فكَّرت بالإجابة على السُّؤال بأكثر من طريقة، بدأت مثلًا بالتَّأمُّل؛ خطر لي أوَّل الأمر أن أجيب بالقول: لا يصل الشَّاعر إلى حالة صفاء، لا يصل الشَّاعر إلى حالة رضا، لا عن نفسه ولا عن واقعه، وضع الشّاعر في الجنّة فصرخ آه يا وطني، حين خطرت الفكرة لناظم حكمت أن يوضع في الجنّة فقد وجد نفسه يقترب من فكرة الخلود، من فكرة الهدوء، فصرخ رافضًا الرّكود، لكنّه وجد أقرب ما يحتاجه هو المكان، والمكان ليس جغرافيا فقط بل لغة وخيال ومجال خصيب للشاعر.

عدم الرِّضا هو الأرض البكر لأنهار الأسى والحزن، وغيث القصيدة، فالشِّعر لا يقوم على البهجة والسُّرور، والشِّعر الَّذي يكتب بقصد وغرض يكون ضعيفًا.

كل ما قلته إرهاصات للإجابة على السُّؤال والحقُّ أنّه سؤال كاشف فكلُّ ما يصيبُ الرُّوح من عطب وحزن وهزيمة يمنح القصيدة منابع للحياة، يمنحها مطرًا لينبت ربيعها الأخضر، ليس بحثاً عن كروم وأزهار، تجيء الحالة مركبة معقَّدة ومختلفة، وفي الطَّريق إلى جنون اللَّحظة توجد القصيدة في الطَّريق المحفوف دائمًا بالمغامرة والمجهول، تتبرعم المخيَّلة، تتفتح الكلمات، تستظلُّ بظلِّ آلامها ومسامير صلبها وهي تبحث عن نطاق للظهور، مبرّر للوجود، دوافع للخطيئة، مبرّرات وذرائع وجنون يغرف من مخزن النّدم، من خابية الألم.

في العودة إلى الملاحم الشِّعريّة تخلص القصائد لفجيعة الآلهة أكثر من إخلاصها لتراتيل العروش ومدائح الملوك.

  1. تعكسُ أحياناً في شعركَ وحشيّة مستفحلة من قبلِ البشر، فنرى أوطاناً منكوبة على قاب قوسين من شفير الهلاك، هل ترى عبثاً مخيفاً ممَّا يحيط بالإنسان من خلال توغِّله في أعماقِ انشراخِ الرُّوحِ والأخلاق؟!

نعم بالضُّرورة ولن أكرِّر مديحي لك في عمق فهمك للدوافع الَّتي تولِّد القصيدة، فما قلته صحيح، وكي لا أستدعي قطعان الحنين وأتقمّص دور الضَّحيّة التّاريخي أقول: لست وحدي من تعرَّض ورأى ما رأيت، ولست وحدي المصلوب على خشب الهلاك، فالآلام الّتي ترتكبها البشريّة بحجج سياسيّة ودينيّة وقوميّة واقتصاديّة وثقافيّة أكثر خطرًا على الإنسان من وحوش العالم، وإن كانت الوحوش تبحث عن فريسة لسدِّ جوعها، فقد شهدنا بشرًا لا تعنيهم عذابات الإنسان، ولا تردعهم قيم، وهم لا يرتكبون هفوات بسيطة، ضد شخص بعينه، بل يفرغون حقدًا يمتد طيلة قرون ضد شعوب بعينها وأفراد يورثون هذا الألم والعذاب إلى سلالاتهم، بينما يكتفي المجرمون بالاعتذار عن أخطاء أسلافهم.

قبل أن يولد الشاعر تتشكَّل ذنوبه وآثامه وخطاياه، هناك من يرتِّب له أنينه قبل ولادته، هناك من يبرمج له عذابه قبل أن يتكوَّن، وهو ينتقل من عصا إلى عصا، ومن يد جلّاد، إلى يد طاغية، ومن ظلم تاريخ، إلى جور جغرافيا، وهكذا يواصل الشّاعر العيشَ في حقل من الألم والجزع، وحتّى لو امتلك الشَّجاعة للمواجهة، وحتّى لو امتلك الأمل للخروج من كلِّ المحن، لكنَّ العدالة المفقودة تواصل ترتيب سرديَّتها ونحن ضحايا بشكل أو آخر.

ما الَّذي يتبقَّى للشاعر كي يطربه، ويرقص قلبه المليء بالثّقوب، وروحه المسكونة بالخراب، هل يقفز لحبِّ امرأة أو شهوة مجون، أو غريزة تملك، أو متع دونيّة، كل ما يفعله مجرّد مناورات لعدم الانسحاق تحتَ حوافر التَّوحش البشري الّذي يمتدُّ منذُ آلافِ السّنين، وتواصل الأكاذيب والأوهام غطرستها في أرض صالحة لكلّ هذا الأذى.

  1. ينحازُ الشَّاعرُ دائماً إلى الجمال الخلّاق، فيهربُ إلى عوالمه الحلميّة، فارشاً قلمه على بتلات الأزاهير وكأنّه في حالةٍ حلميّةٍ عبر القصيدة، هل القصيدة هي ملاذ الشَّاعر الأخير؟!

 هي الملاذ الأخير، والحلم المتخيَّل، والعلاجُ الَّذي لا يجده في الصَّيدليات، كلُّ هذا الخراب، كلُّ هذا التَّوحُّش، لا يمكن تجرع مرارته، ولا يمكن تقبُّل سطوته، وحدها القصيدة من تمنحنا لحظات من الشّرود أو لحظات من الصَّحو أو لحظات من السَّكينة والخلاص، وإن كان خلاصأ مؤقَّتاً أو خلاصًا حلميًا ولغويًا، فذلك أعظم ما يمكن أن يفعله الشّاعر، وهو تجرّع المرارة بشموخ، تقبُّل الهزيمة بسرور، البحث عن ملاذ من كلِّ هذا العبث وهذا اليأس، لكنّه ملاذ مؤقّت، سرعان ما يزول، وسرعان ما تعاود الفخاخ نصب مكائدها.

  1. تنحو قصيدتك نحو الشِّعر الصَّافي، بعيداً عن المفاهيم الَّتي تكرِّس نماذج شعريّة معيّنة، حيثُ يبدو شعرك وكأنّه رحيق وردة متجدِّد، أو نسمة هائمة فوق وجنة طفلة، بماذا تصهرُ نصّك الشِّعري المصفَّى كالنَّدى؟!

أتمنّى أن أكون قد حقَّقت ذلك رغم أنِّي لم أرضَ بعد عمَّا كتبتُ ولا أتوق للوصول إلى شعر صاف ومكتمل فلا بدَّ أن يظلَّ النَّص ناقصاً يتوقُ لكمالٍ ما. ما أعرفه حتّى هذه اللَّحظة هو الشّقُّ المتعلِّق بالمفاهيم في السُّؤال وحتّى هذه اللحظة لم أتأكّد من تعريفات محدّدة ومفاهيم معيّنة لكتابة القصيدة، حتّى الشُّعراء الّذين أحببتهم ابتعدت عنهم، وحتّى التّعريفات الّتي تكاد تقنعني بماهية الشّعر وحتّى قصيدة النّثر، والمدارس الكثيرة الّتي رسّخت جماليات متعدِّدة وطوَّرت أساليب فنِّيّة جديدة وجميلة، لا أتبنَّاها ولا أجد نفسي فيها، ربّما في البدايات وقعت تحتَ أسرِ القصيدة الوطنية بشكلها التَّقليدي لكنِّي سرعان ما ابتعدت ونفرت من الشَّكل والنَّمط المتوقّع في كتابتها.

 إنَّ أكثر ما أنفر منه في كتابة القصيدة والكتابة عمومًا هو التّخطيط، للوصول إلى هدف ما، في الكتابة، إطار ما، طريقة ما، فكرة نهائيّة تستدرج القارئ باعتباره لا زال في مرحلة الطّفولة، يتمُّ نصب فخاخ، وبناء تعابير وإشادة نصوص تقتضي الإقناع أو الإعجاب، نعرف منذ تشكيل المدرج الّذي ستنطلق منه الطّائرة، موعد الإقلاع وطريقة الإقلاع وبالتَّالي من السَّهل معرفة خط السَّير وكيفية الهبوط، هذا ما فشلت في اتقانه، وما أسعى للإبتعاد عنه، وهذا ما زال وسيلتي الوحيدة للعبث بخطوط الطّيران، وعدم الالتزام بقوانين “أياتا” الدَّولية لسفر الطّائرات، من يريد النّجاة لا بدَّ من التَّقيّد بالتّعاليم، في القصيدة لا أخطِّط للنجاةِ، والوصولِ الآمنِ.

  1. إنَّ الطَّبيعة أجمل فنّان ومبدع على وجه الدُّنيا، كيف ترى هذه المبدعة الخلّاقة: الطَّبيعة، بكلِّ تجلِّياتها الرَّحبة؟!

تضع يدك دائمًا على منبع الماء، الاستسلام لشعريّة الطّبيعة هي الّتي تحمي الشّاعر من الوقوع في براثن التَّقليديّة والنّمطيّة والكتابة المتوقِّعة، وحتّى في الكتابة السّرياليّة والغرائبيّة الَّتي تنحو نحو دهشة القارئ حين لا تضع الطَّبيعة في روحها، حين لا تصغي لصوت الأرض والكائنات، حين لا تتغذَّى على حركة الشَّمس ودورانها، وتبدّل اللَّيل والنّهار، وانحناء الجبال، على شرفات المغيب، وانتظار الوديان، لكرم السَّماء، وتوق الشّجر للنسيم، وتقلُّب الفصول، تصير مجرد أقوال، أو كلمات مكتوبة على شكل أوزان وتفعيلات عروضيّة.

  1. وجدتكَ تلوذُ نحو البحر وكأنَّكَ تجسِّدُ طفولتكَ فيما كنتَ ترتمي على شواطئ يافا وحيفا وعكَّا، فولدَ ديوان: “من جهة البحر”، ما أثر الطُّفولة في نصِّكَ الإبداعي؟!

في أوَّلِ رحلة مدرسيّة شاركت فيها طلاب مدرسة بلدتنا الإعداديّة وصلنا “نهاريا” على ساحل البحر المتوسط، كانت أوَّل مرّة أرى فيها البحر، أصبت بالذُّهول وانفصلت عن العالم المحيط بي، وأنا أمشي مشدوهًا نحو الماء، أخذني البحر، ولولا صراخ شقيقي الأكبر حسين رحمه الله، والّذي سحبني بقوّة من الماء، لربّما واصلت الذّهول، كان الطُّلَّاب قد جلسوا لتناول طعامهم، وصحوت كأنِّي كنت في عالم آخر، وإذ به يعاتبني، ويشدُّني حتّى أجلسني، وقد وضع الطّعام الّذي أعدَّته والدتنا للرحلة، كان الخدر يسري في روحي، لم أنتبه للطعام، وظللت مشوشًا، كأنِّي قد فقدت الوعي، وحين عدنا للبيت، لاحظت أمي أنَّ الخبز الَّذي صنعته بيديها من أجل رحلتنا، لم ينقص كثيرًا، سألت أخي فحدّثها أنِّي لم آكل، وقال لولا أنِّي انتبهت لكان قد أخذه البحر، وأضاف أنّه منعني من الوصول إلى البحر في زيارتنا إلى يافا، والحق يقال أنِّي لم أندهش عند بحر يافا، كما اندهشت المرّة الأولى في “نهاريا”.

قلت هذه الحكاية الغائرة في الطُّفولة لأنَّ سؤالك ذكَّرني بها، وبتعلُّقي بالبحر، هل لبرجي (الحوت) علاقة بذلك، لا أدري، لكنِّي مشدود بكلِّ جوارحي نحو البحر، الّذي يشعرني بالغموض والمغامرة.

 ظلَّ البحر يسيطر عليَّ كثيرًا وربّما أجده في الكثير من القصائد، حتّى أنَّ مجموعتَين من مجموعاتي الشِّعريّة كان للبحر فيهما النَّصيب الأوّل، فالمجموعة الرّابعة الّتي ذكرتها، من جهة البحر، وكنت أعني ذلك البحر الّذي دهشت فيه أوّل مرة، وهو البحر الّذي يضمُّ تلك البلاد الَّتي تنام في حضنه أو ينام في حضنها، والمجموعة الثَّانية حملت عنوان “جسد للبحر رداء للقصيدة”.

ربّما ارتبط حبِّي للبحر أيضًا بحبِّي لغناءِ السَّامر، ذاك الغناء الشَّعبي الَّذي كان يشرح لي صوت البحر في علوه وانخفاضه، وهو قادم من بعيد مع ذبذبات الهواء خلال ساعات اللَّيل الصَّامت والمعتم.

لا أجدُ تفسيرًا لكلِّ ذلك لكن سؤالك بعيد الأثر والرُّؤيا ولعلَّ الشِّعر يشبه البحر ربّما لستُ أوَّل من كتبَ عن البحر فكثيرون قبلي فعلوا وقدَّموا قصائد جميلة عنه لكن رغم فتنتي به ربّما لا زال أثر من الرّغبة عندي في الانتقام منه.

  1. ديوان “شجري أعلى” جانح نحو عوالم العمَّال والفلَّاحين ومواسم الحصاد والخير الوفير. كيف ولدَ كلّ هذا الشُّموخ؟!

كانت هذه المجموعة الثَّالثة الّتي كتبتها في العتبة الثَّانية من تجربتي، خلال تسعينيات القرن الماضي، كنت لا أستمطر القصيدة، بل كانت الحياة قد أخذتني في مساراتها ولم يعد يعنيني الشِّعر بشكلٍ يومي، كان هو يطرق الباب ويدخل أحيانًا من النَّافذة، كان يضيء طفولة ما، ومرحلة ما، دون تخطيط، ودون هدف ومقصد، فجاءت قصائد المجموعة متباعدة النَّمط والشَّكل، فمن إرهاصات الشَّكِّ إلى عذابات اليقين، ومن فراغ الرُّوح إلى قلق الفكرة وصخب الوجود المندفع في تلك السَّنوات، وحين قمت بتجميع المجموعة من أوراق متناثرة، كان لا زال الشِّعر لدي طفلًا مخلصًا لروح الشِّعر الحر والتّفعيلة، ومع ذلك كنت أخرج عن النَّمط وأمضي محاولًا التَّخلص من كلِّ قيودٍ على أن تلك المحاولات ظلَّت قريبةً من روح الشِّعر السَّائد، لكن الاختلاف كان كبيرًا في تلك القصائد والتّجربة كانت لا تسير وفق كليشيه محدَّدة ومن هنا كنت حرًا في الكتابة وحرًا عمَّا كان يسري في تلك المرحلة، وكنت بعيدًا عن اقتفاء أثر أحد، أحاول الغناء منفردًا وإن لم أتخلَّص من مزامير الأجداد ونزق الآباء.

كانت القصائد وكما رأيت تحمل طفولة ما، تشيد بنيانًا دون ملامح محدَّدة، ولهذا اقتفت أثر تلك الحقول البعيدة والجبال المترامية الأثر الّذي لا يزول من الرُّوح مهما حرَّرنا المنفى منها، وحين تمت قراءة المجموعة بنظرة دينيّة متزمِّتة وجد فيها المغرضون ما يمكن أن يكون تهديدًا لي، وكانت التّهم والمحاكمات الَّتي لم تخطر لي على بال من قبل، لكنّها لم تفقدني التَّوزان بل جعلتني أنتبه مجدَّدًا لأهمِّية القصيدة، كنت أتذكَّر كلام الصَّديق سميح القاسم، حين كان يقول لي في بداية التّسعينيَّات، يا موسى خذ الشِّعر بجدٍّ أكثر، هل رأى ما يستحقُّ، هل ما كتبته بعد ذلك يستحقُّ؟ لا أدري.

  1. ما رأيكَ بعبور حبق الشِّعر في فضاء النَّص الرِّوائي، لدى الكثير من الشُّعراء الرِّوائيين، هل هذا تأكيد على أهمّيّة تجلِّيات بوح القصيدة حتّى في السَّرد الرِّوائي؟!

في فترة سابقة كنت مؤمنًا أنَّ الشَّاعر لا يجوز له الذِّهاب للسرد، وأنَّ الفرق كبير في المنطلق بين الشَّاعر والرِّوائي، ولكن لم أعد متزمتًا لفكرتي، فربَّما يحتاج الشَّاعر إلى نوع من السَّرد، لتفريغ طاقته الشِّعرية أيضًا، على أنَّ التَّحوُّل الكامل للسرد سيفقدُ الشَّاعر دون أن يدري منطلقاته الشِّعريّة، وروحه الشّعريّة، ولكن إن كان يجرِّب ذلك تجريبًا ولا يهبط من منصَّة القصيدة وفضائها، فذلك ممكن وربّما يكون نهرًا إضافيّا لتجربته، كما فعل ممدوح عدوان ومحمّد القيسي وعادل محمود وأمجد ناصر وغيرهم، شخصيًا لم أكتب رواية لكنِّي أحبُّ كتابة السّرد، كنوع من وصف الحياة الّتي عشتها، كتبت بعض الفصول، ولم يأخذني السَّرد نهائيًا إلى ملعبه، ربّما يداعبني حنين خفي إليه، لا أعد نفسي بأي شيء فقد بتُّ أعرف أنَّ الكتابة عندي لا تأتي وفق مخطَّط وبرنامج، ولهذا ربما سأفشل لو ذهبت إلى كتابة السَّرد بشكل كامل.

  1. لديكَ نزوع نحو التَّمرُّد وحالة من القلق، متحفِّزان جدَّاً ويقودان إلى هواجس محرِّضة على انبعاث القصيدة؟!

  ربما يعود الأمر إلى طفولتي وطبيعتي، فحين تجد مسقط رأسك عبارة عن كيان متداعٍ ويتداعى، وتجد الأرض غير ثابتة تحت قدميك، والبيت الّذي ولدت فيه يتمُّ هدمه، وقصفه وتدمير البلدة الّتي تعيش فيها، ثلاث مرات، مرّة بتدمير جزء من أطرافها، ومرّة بتدمير أغلب بيوتها ومرّة ثالثة باحتلالها بشكل كامل، وتجثم دبابات ثقيلة على شوارعها، وفوق صدرك، وترى تلك الخنادق الّتي حفرت للدبابات العربية، ظلّت هياكل فارغة، وتعرف أنَّ الفترة السّابقة لميلادك تمَّ تقسيم بلادك وتمَّ استعمارها ثمَّ تقسيمها ثمَّ استطيانها.

 أمّا البيت الّذي ولدت وتعيش فيه فتشعر أنّه يضيق بك، والأب يضيق بك، والبلدة لا تتَّسع لحرِّيتك وطفولتك الّتي تقتل مرارًا، فكيف لا ينتج نفور وتمرّد من كلِّ ذلك؟

هذا إذا ما نظرنا إلى زيف المجتمع وتديّنه الشّكلي الَّذي يهتمُّ بكشف السَّلبيَّات أو يبحث عن النَّواقص فقط، ويغفل عن الكرامة الموؤودة، وترى الطَّمأنينة الزَّائفة الَّتي تقبل تجرُّع المهانة، وتسويقها ثمَّ التَّشبُّث بأوهام وصور إعلاميّة، وليست حقيقيّة، تلك الصُّور عن الفداء والمقاومة الّتي تفقد معناها وتتبدَّل.

كلُّ شي حولك محبط ومخيّب للطفولة والحلم

كلُّ شيء زلق ومتهافت

يتهاوى الكون أمامك فتفقد كلّ مقوِّمات الوجود

ويبرز في وجهك تزوير ونفاق فاضح يريد أن يقنعك بأنّك لستَ أنت، وأنَّ الحقيقة ليست ما ترى وتعرف وتؤمن، لعلَّ كل ذلك، يخلق ردّة فعل ما، عدم يقين، عدم قناعة، عدم رضا، تلك محاولة لتفسير روح التَّمرُّد الَّتي أشرت إليها، وربّما لا تحتاجُ الرُّوحَ المتمرِّدة لأيِّ سبب للتمرُّد، ولكن كانت الدَّوافع والمبرِّرات متوفِّرة بقسوة.

  1. “موتى يجرّون السَّماء”، إلى أين يجرّونها؟ حتَّى موتاك يتمتَّعون بقوّة لا تخطر على بال!

ربَّما يجرُّونها إلى الحياة، ربَّما يعاودون العيش في مكان آخر، في مكان أكثر عدلًا وشعرًا وإنسانيّة، في حياة ثانية ربَّما بشروطهم هم، برغابتهم وشوقهم وحنينهم وتطلُّعاتهم، ولكن لأنَّهم لم يتذوَّقوا طعم العدالة والكرامة في حياتهم الأولى، ولأنَّهم تركوا ندمهم ينخز الأرض فقد رأيتهم يعيشون هناك؛ في السَّماء وهم يجرُّونها لتكون أرض حياتهم المختلفة والحالمة والمرحة، أرض لا تشبه أرضنا وخرابنا.

شغلني الموت كثيرًا، تجرَّأت على نبش قبره واللّعب معه منذ طفولتي، لم أخشه ولم أتجنَّب اللّعب معه، وكأنّه إنسان حقيقي يمكن الجلوس معه في مقهى، وشرب فنجاني قهوة، ومن السَّهل مخاطبته ومداعبته والثَّرثرة معه، وفي كلِّ مرة كنت أجلس معه في مكان ما، كنت أجده فقيرًا مفلسًا، وليس مليئًا بفلسفة معيّنة، أو إيمان معين، بل ليس لديه تخطيط أو برنامج أو حكمة في اختيار ضحاياه، فهو بلا عقل، وبلا ذاكرة وبلا ثقافة، وليست لديه مشاعر ولا دموع أو ضمير، ولهذا لا أسلوب مثاليَّاً لديه ولا عبقرية وليست له أهمِّيّة، ولا ذكاء إلَّا بخبطه العشوائي، وسحقه المجَّاني لمن يستحقُّ ومن لا يستحقُّ، وهو يعتبر كلَّ الأحياء مشاريع متاحة له، يرى الأطفال، ويضحك ويتطلَّع إلى قبضة يده، ويتحسَّر لأنّهم كثيرو الحركة، ولا ينتظرون قبضته، هذه هي قيمته فقط، في فعله نفسه، وليس فيه هو، فهو خال من كلِّ قيمة ومنطق وخلق، ولذا لاعبته وما زلت ألاعبه، وأعتبره مهزومًا، وليس منتصرًا كما يظنُّ هو، فالاختفاء تحت باطن الأرض، لمن يضربهم ضربته ليس نهاية لهم، بل بإمكانهم الضّحك عليه والانتصار عليه، وحين ينهضون ويقومون بجر السَّماء، يقلبون المسرح على رأسه، فيشعر بالخسّة والصِّغار، لهذا يجرُّ موتاي سماءهم وهم يضحكون، ويسخرون من الموت، وهو ينكمش حين يراهم يفعلون ذلك، بل يصفرُّ وجهه، ولكنّه لا يتوقَّف عن الانتقام…حسنًا هو ينتقم منّا ببطشِهِ ونحنُ ننتقم منه في اليقظة والحياة الثَّانية، نحن نقول ذلك لكي نكسر هيبته وجبروته وإن كنّا غير واثقين ممَّا نقول ولكن على الإنسان ألَّا ينهزمُ حتَّى في موتِهِ.

  1. كيف يلتقطُ موسى حوامدة خيوط القصيدة وهي تومضُ بإشراقتها، هل تهربُ منكَ، هل تناغيكَ القصيدة، فتولدُ منسابة، أم تكشِّرُ لكَ عن غيظها، حدِّثنا عن كيفيّة انبعاث القصيدة لحظة الولادة؟!

معضلة، حقيقيّة، وألم حقيقي، ولا تتكرَّر بشكل اعتيادي أو مجرّب، في كلِّ مرَّة تتأتَّى بطريقة مختلفة، أحيانًا تتشكَّل في الإحساس الدَّاخلي، تتجمَّع تتراكم ثمَّ تندفع، أحيانًا تتخفَّى وتخسر شيئًا منها، أحيانًا تكون أثقل من استيعاب الحروفِ والكلماتِ لها، فتظلُّ تثقلُ الرُّوح ولا تخرج منها، وفي مرَّات تنفثها الرُّوح كيفما شاءت، وكيفما اتفق.

لا أجيد كتابة القصيدة حين أريدها، ولا أتقن عمليّة التَّهيئة والتَّحضير مثل مستحضري الأرواح، كلّ الطُّرق تفشل في محاولة استنطاقها حين لا تريد الظُّهور، أو محاولة الاستمطار، لذلك لا أتعب نفسي في البحث عنها، لكنِّي أشعر بإرهاصاتها، ببداية تشكُّلها، بحرارتها بغيومها برياحها، وحين تتجمّع مثل غيم كثيف، لا أعرف أين تمطر وفوق أي أرض ولا بأيِّ كلمات، مع ذلك لا تكفي تلك التّفاعلات الدَّاخليّة حتّى لو برزت، وظهرت بشكلٍ ما، يظل منها شيء في النّفس، وفي الرُّوح، وفي الخلايا، أمّا ما يظهر منها؛ فهو بعض ملامحها الّتي كانت تتخفَّى في العمق، وفي كلِّ مرَّة تتولد بطريقتها الخاصّة، غير أنِّي تعلَّمت منها أنَّ محاولة توليدها ولادة قيصريّة محكومة بالفشل، لذا عقدت اتِّفاقاً معها، لا أطرق بابها ولا أستغيث بها، ولكن حين تريد الظّهور، فلها مطلق الحرِّيّة، فلا باب مغلق في وجهها، إنّما أتمنّى دائمًا أن تأتي في الوقت الّذي يسعفني ويساعدني لأمرِّر ما تريد وأشكل من اللُّغة مادَّة تليقُ بها، وإن كانت لا تشكرني على ذلك ولا تشعر بالرِّضا وقد أوافقها على ذلك فقد باتت اللُّغة أقل من طموحها.

  1. هل تشعرُ أحياناً أنَّ القصيدة عصيَّة عن الإنصياع، كيف تطاوعُ عصيانها عندما تفرُّ بعيداً؟!

– أتركها حرّة، لا ألحق بها، فهي الّتي تكتبني ولستُ من يكتبها، هي الحرّة ولست أنا الحرُّ، لو كنت أنا الحرُّ، وأنا السَّيِّد، لجلبتها وقتما أشاء، كما يجلب السَّجين، أو المحكوم بالإعدام، لكن لأنّها حرّة نفسها، ولا سلطان حتّى لي عليها، فهي تعصي ولا تلتزم بأيِّ أمر، ولستُ غاضبًا من ذلك، بل أقدِّر اعتدادها بنفسها وكرامتها، وحينما تفرُّ بعيدًا دون أن تمنحني نارها، أحسُّ بنوعٍ من الأسى على شيء لم أملكه، نوع من النَّدم على شيء لا أدركه، لكنِّي أعيد تقليب أوراقي وأتناسى، أتشاغل، وأتذكَّر أنِّي إنسان طبيعي يريد أن يستمتع بوقته، كما يفعل أي عاطل عن القصيدة، يمرح، يتأمَّل، يحلم، يحاول قدح بعض المتع، يعيش الرّتابة واليومي، ويفكِّر بالأشياء البسيطة من حوله، ولكن حين تلتفت هي، وترغب بالمرح والتَّجلِّي أنصاع لرغبتها، وأحمل همًا ثقيلًا، حتَّى أستطيع وضع هذا الحمل الثَّقيل عن صدري. نعم إنَّ القصيدة وهو تتبلور داخل النّفس عمليّة معقَّدة، أكثر من تشكِّل المطر وانهماره، ولكوني أفهم ذلك أو صرت أفهمه، أترفَّق على نفسي من قدومها ولا أشكو حين أقدِّم لها كلّ طاقتي للتشكُّل، ولا أغضب منها، إن ظلَّت تلومني، أنَّني لم أحقِّق لها كل ما تصبو إليه.

 هذه العمليّة المعقدَّة، تجعلني في حالة شعور دائم بالنّقص تجاهها، وتجاه نفسي؛ تجاهها لأنِّي أخاف ألَّا أكون قد أوصلت ما تريد، وبالشّكل الَّذي تريد، وتجاه نفسي الّتي يتعبها هذا العناء، ما قبل الولادة، وخلال الولادة، وما بعدها، حيث لا ينتهي ذلك الوجع.

  1. تحمل تطلُّعاتكَ الشِّعريّة نزوعاً إنسانيِّاً عميقاً، حيث تجاوزْتَ عبر فضاءات النَّص، عوالم وحدود الوطن ومآسيه، إلى أن شملَتْ فضاءات الكون الفسيحة، كيف ترعرَعَتْ هذه الطُّموحات وأنتَ مطوَّق بالمرارات من كلِّ الجهات؟!

– نعم يا صديقي، لم أتوقَّف عند ذاتي المجرحة بوجع الأرض والتّاريخ، تركت روحي تطوف العالم، ترى جمالَه وبساطته وعقده وناسه وعذاباتهم وحيواتهم ولم أسقط في فخِّ الذَّات والذَّات الجمعيّة، فالذَّات الجمعيّة ليست سوى خلطة وهميّة، لتكريس عقلية القبيلة والقلعة، لم أستطع أن ألجم روحي لتكون على قيافة حبل واحد، وصيغة واحدة، ولذا وجدتُ آلام البشر، تفوقُ وضعها في لونٍ واحد، أو حيِّز واحد.

وجدت القصيدة لا تحبُّ القهر والحشر والأسر والتّعصُّب، فتركتها حرّة حتَّى منِّي، فأخذتني إلى أماكن كثيرة وبعيدة، ولم أشأ ترويضها، فليكن كما تشاء، فلست مجبرًا على فعل شيء إلزامي، ولست موظَّفًا في وظيفة وطنيّة معيّنة، ولغة معيّنة، صحيح أنّني أكتب بلغتي الَّتي أعرفها، ولكن لم أكن ملتزمًا بطرقها ودروبها الوعرة، وقد حاولت في أكثر من مرّة الهروب من اللُّغة، ليس إلى لغة ثانية، بل إلى مرامي أخرى في اللُّغة نفسها، وكم مرّة وجدت ما أحسُّ به أكبر من لغتي، وكم مرّة وجدت آلام قصيدتي أكبر من وجع جغرافي محدد، على أهمية وجع التضاريس التي نولد فوقها ونعرفها في طفولتنا، لهذا أطلقت خيولي بعيدًا.

لا أقول ذلك من باب ادِّعاء إنساني، ولا من  باب تضخيم الأنا، والذَّات، لكن هذا ما تقوله روحي المتعبة من كلِّ قيد وأسر وحاجز، هذا ما تراه قصيدتي الَّتي لا أحرمها من الشِّعور بمرارة المجرّات نفسها، فهذا الكون أرحب وأكثر تعقيدًا من حشره في معنى واحد، أو تعبير واحد، أو في زاوية محدّدة.

  1. هناك تكثيف بديع في نصِّكَ الشِّعري، ودلالات عميقة في بناء نصٍّ صافٍ وخالٍ من النّتوءات، كيف تبني نصَّكَ بكلِّ هذا الجمال الفنِّي الرَّاقي؟!

صدقًا لا أعرف، وقبل أن تأخذني النَّشوة جرَّاء هذه الشَّهادة، أتوقَّف عند هذه الجملة اللَّامعة في سؤالك؛ خال من النّتوءات الَّتي تشير من بعيد إلى أنَّ القصيدة ليست مخلوقًا مصنوعًا من أشلاء وقطع بشريّة متنافرة مثل “فرانكنشتاين” بل هي مخلوق طبيعي أصيل، تشكَّل في رحم طبيعي، حتَّى كبر وولد، ورأيناه إنسانًا مكتملًا، وحين أقول إنسانًا فأنا أبتعد عن جمال التَّماثيل المنحوتة والأيقونات المصقولة، من هنا ربَّما لا أبني ولا أعرف كيف تتمُّ العمليّة بشكل دقيق، لكن من حسن حظِّي أنَّ النّصَّ الَّذي أكتبه نال هذه اللَّفتة منك، والَّتي أتمنَّى أن يلحظها القارئ الذَّكي أيضًا.

  1. لغتكَ مختزلة من لوعةِ الحياة، ومآقي الأزاهير، ودموع الأطفال، وحنين الأمَّهات والآباء إلى الطِّين الأوَّل، كيف تشكَّلت هذه اللُّغة المعتَّقة بأصالة وحداثة ناصعة في العطاء؟!

منذ الطُّفولة، تمسَّكت باللُّغة، منذ سمعت لغة الإحتلال المختلفة لأوِّل مرّة، شعرتُ أنَّها تريد محو لغتي، ومحو التَّضاريس وتغيير الأسماء والأماكن، أدركتُ أنَّ الصِّراعَ ليس على الأرض فقط بل على اللُّغةِ والهويَّةِ، وكانت ردّة فعلي طبيعيّة؛ فذهبت للتشبُّثِ باللُّغةِ وبالتُّرابِ والأغاني الشَّعبيَّة، وبحكايات أمِّي.

وبسبب عقدتي النَّفسيّة، في التَّمسُّك بالمكان، ولا أدري إن كانت هذه المشكلة موجودة فيَّ من قبل أم تكوَّنت فيما بعد ونتيجة للاحتلال، صرت أشعر بنوع من التَّهديد، أقصد تهديد الوجود، فتشبَّثت بقارب النَّجاة، وهو اللّغة والهويّة، كأنِّي كنتُ أعتقد أنَّ التَّمسُّك بهما نكران للإحتلال، ورفض له، بل إنتصار عليه.

      ربّما من هنا جاء تشبُّثي بما قلتَ، وهو قول عميق ودقيق الملاحظة أشبه بقراءة فلسفيّة سيكولوجيّة لما وراء الكتابة أساسًا.

  1. لو نظرنا إلى الواقع الفلسطيني والعربي والشَّرقي، نجدُ أنَّ هناكَ خلخلة واضحة على كافَّةِ الأصعدة، هل الشِّعر يخفِّف من هذه الخلخلات الَّتي تحيق بكَ/بنا، ويخلقُ لديكَ نوعاً من التَّوازن في خضمِّ الجراحِ المتفاقمة يوماً بعد يوم؟!

– ربّما يشكِّل هروبًا ذاتيًا، من هذا الواقع الممزَّق، ومن هذه الخلخلة الَّتي أشرت إليها، ومن هذا الزَّحف غير المسبوق على الرُّوح، والمحاولات الحثيثة لخنق القصيدة وقتل روح الشَّاعر، ليس من قبل العدو، بل حتَّى ومن قبل الصَّديق، فالإقصاء المبرمج، والعقليَّات الإقصائيّة شريكة كفؤة للعدوِّ الأوَّل، الَّذي جاء يريد الامحاء، ومن الطّبيعي أن تنكمش مساحة القصيدة، وتتلاشى، ويعلن صاحبها الاستسلام كما يفعل الكثيرون، ربّما كانت لدي نوع من الصَّلابة الذَّاتيّة الَّتي حمتني من الفناء والهزيمة، وبدلًا من الرُّضوخ وجدت في كتابة الشِّعر شكلًا ما من أشكال الرَّفض، وليس تكريس الهويّة واللُّغة فقط، الرَّفض لكلِّ عمليَّات التَّزوير، سواء الَّتي قام ويقوم بها المحتل، وهو لديه منهج واضح ومكشوف، وسواء من قبل مؤسَّسات وشخصيَّات تتَّخذُ الوطنيّة زيًا لها، وتعمل في الخفاء من أجلِ وأد كلّ ما لا يستظلُّ بظلالها، وينفخ في أبواقها.

  1. لديكَ إهتمام بالنُّزوع الصُّوفي وإهتمام بما هو أرضي/ مادِّي: علمي، كيف تنعكس هذه الرُّؤى على نصِّكَ الشِّعري؟

صحيح أنا حائر أو متمسك بالنّقائض ومن ضمن هذه النّقائض والثّنائيات الَّتي أتمزَّق بينها حيرتي بين المادِّي واللَّامادِّي، بين الميتافيزيائي والفيزيائي بين الحسِّي والرُّوحي، وهي ليست الثّنائيّة الوحيدة لدي، فدائمًا أحمل الوجود والعدم، اليقين والشَّك، وحتَّى في الحياةِ أريدُ أن أذهب إلى نقطتي النَّقيض، نقطتي الخلاف، وأحوز التَّنافر، بالطَّبع فإنَّ النَّص الشِّعري نابع من عمق القلق الوجودي، من فُوَّهةِ البركان، ومن الطّبيعي أن يحملَ هذا التَّناقض، ويتجسّد خلال الكتابة، وهي اللَّحظة الأصدق للجوانيّة، ولما قبل دوافع الكتابة، ومنابعها وأسبابها وتجسُّدها في كلمات.

  1. شعرُكَ يشبهُ حياتكَ، أنتَ مخلص وأمين في ترجمة ما يعتريكَ من هواجس وأفكار وتطلُّعات، تعيشُ الحياةَ شعراً، وتكتبُ شعراً يدغدغ القلب، الرّوح والأحلام. كيف وصلْتَ إلى هذه الأمانة: المعادلة المستعصية لدى الكثير من الشُّعراء؟!

ربَّما بسبب العفويَّة، ربَّما بسبب القناعة بأنَّ القصيدة هي كائن حي وأنَّني أتنفَّس من خلالها، وأحيا فيها من جديد، وربَّما لقناعتي أنَّ القصيدة لا بدَّ أن تنبع أو تتأتَّى من تجربة حقيقيّة، رغم ما يعتور التّجارب من عاديّة وواقعيّة، لكن القصيدة تتكفَّل بخلق أجنحة للواقع والتَّحليق بعيدًا عنه، ولكن ليس دونه، وليس بمعزل عنه.

 اجتهدت في الإجابة على سؤالك وقد لا أكون توصَّلت لجوابٍ شافٍ، فبعض الأسئلة الّتي تطرح أعلى من محاولات الاتِّساق معها أو تفسيرها. على كل ما زلت أجتهد أكثر في تقريب المتخيِّل من أرض الواقع، وإن كان الواقع من السُّورياليّة بحيث لا يحتاج إلى تخيّلات لكنِّي أسعى أكثر إلى إجلاس القصيدة على المقهى وفي الأزقَّة والحارات ودفاتر الفلسفة، دون أن تفقد شعريَّتها، ودون أن تتخلَّى عن فتنتها غير العاديّة وحصَّتها من الوهم.

  1. الشِّعر أشبه ما يكون بمحرقة، يصفِّينا من شوائب الحياة، أراك تجنحُ نحو لغة إنسانيّة بانسيابيّة شفيفة، مازجاً ترميزات شعريّة ومجازات قائمة على روحٍ قلقة، تنزع نحو إبداعٍ صافٍ، خالٍ من أيَّة رتوش، لمعانقة جوهر الحياة!

– يساروني دائمًا قلق إنساني، لا يكتفي بحدود لغة واحدة، ولا قصيدة كلاسيكيّة، تقتفي أثر الأسلاف الطَّيِّبين، وإلزام ما لا يلزم، وما يلزم، فقد نفرت من الأطر ليس كرهًا فيها، وفي جماليّة الشِّعر العربي، قديمًا وحديثا إنَّما بحثًا عن لغة تسع الكائن البشري، أينما كان، لغة لا تحتاج إلى كلام، لن أستنبط حروفًا جديدة، لن اجترح معجزات لغويّة، لكنِّي أحلم بلغة تزيل الفروق من عجمة الألسن، وإن كان من الصَّعب ترجمة القصيدة إلى لغاتِ العالم، فلتكن لغات العالم في القصيدة، لا أعني بلغاتِ العالم حروف وإيقاع تلك اللُّغات، بل رطوبة المخيّلة الإنسانيّة، واتِّساعها بلا حدود، لكي تقترب أكثر من لغة الأشجار والينابيع الَّتي يفهمها العالم كله، بدون ترجمة، ربَّما هي مهمّة مستحيلة شكلًا، لكن يمكن أن تتغلغل الينابيع والأشجار في نسغ القصيدة دون فذلكات.

 هل أسعى لذلك؟ هل أصل إلى نقطة ما؟ هل ألتقط معنى يرفع حصَّة الإنساني أكثر من الذَّاتي؟ لا أملك جوابًا، لكن الطَّريق إلى ايثاكا تحتاج إلى محاولة، دون توقُّع الكثير، على رأي قسطنطين  كفافي.

  1. ماذا تعني لكَ المفاهيم التَّالية: الكون، الكتابة، الحضارة، الإنسان، الحياة، الموت، الحوار، الدِّين، الحرب، الحبّ؟!

 -الكون هو العالم الغامض الَّذي لا تحوزه ولا تعرفه ولا تمتلكه، بل هو من يمتلكك، يمضي بك ولا تدرك إلى أين أو كيف ولا السَّبب.

أمَّا الكتابة فهي محاولة لفهم النَّفس قبل العالم، محاولة لترويض العسير وكشفه وفهمه، محاولة لرسم دائرة المستحيل الَّتي لا تتحقَّق في الكون، لكن الحضارة تتيح لنا سبلًا جديدة لنكون إنسانيِّين أكثر، منتفعين منها أكثر، ومن الضّروري عدم السُّقوط في صراع الحضارات، والتَّمترس خلفَ جدرانٍ تقليديّة وعصبيّة، تَحرمُ أصحابها من التَّماهي والسَّير مع الحياة نفسها.

الحياة هي العيش والتّجربة مع الآخر؛ سواء كان هذا الآخر هو الطَّبيعة أو كان إنسانًا، ودون الاحتكاك بأيٍّ منهما لا تُعرَفُ الحياة، رغم مرارتها، فهي تملك من الغموض الّذي يجعلنا نحبُّها ولا نفهمها، وهذا أحد أسرار جمالها الكثيرة.

الإنسان هو نظرة الآخر له، البعض يراه عدوًا، صديقًا، نقيضًا شبيهًا تابعًا، البعض يراه مستهلكًا، البعض يراه شرِّيرًا أو خيِّرًا، البعض يريده كائنًا دينيًا أو نفعيًا أو خليفة الله على الأرض أو تجسيد للألوهة أو عديم القيمة.

وحسب وجهة نظري في هذه اللّحظة أرى أنّه محاولة جدِّية لصنعِ إله أو فهمه، وهو تجريب ناقص على ذلك.

الموت؛ كتبتُ كثيراً عن الموت، تخلَّل العديد من قصائدي، وكانت لي مجموعة بعنوان “موتى يجرُّون السَّماء”، كما أشرت في أحد أسئلتك، وما زلت أكتب عنه، أو يحضر في قصيدتي، ولم أفهمه بعد، قد يكون نهاية فرد، أو مخلوق، ولكنّه فشل تام في إحداث فيزياء غير تقليديّة على الأرض، إنّه نهاية جديرة بفشل تجارب كبرى لا ندركها، لأنّنا ما زلنا نرفضه، ونحاول ابتكار تأويل معادل له، مثل انبثاق حياة أخرى في مكانٍ آخر، ولم نصدِّق الفلاسفة الَّذين قالوا أنَّ الفلسفة هي تعلم فكرة تقبُّل الموت. يظلُّ الموتُ موضوعًا أثيرًا في قصيدتي الَّتي تبحثُ عن شكلٍ من أشكالِ حياةٍ ما، بطرق متعدِّدة، لكنّها لم تصل إلى نتيجة، ومثل كلّ الشِّعر الحالم في العالم لن يحقِّق نقلة علميّة أو منطقيّة.

الحوار؛ ليس بين طرفين، ما يجري بين طرفين لهوٌ أو محاولة خداع الآخر، الحوار هو ما يجري داخل الإنسان نفسه، وهو قادم من الصِّراع الذَّاتي وعدم القبول بالواقع.

الدِّين؛ وسيلة لإسعاد البشر عبر اليقينيّات، وتقبُّل فكرة الموت.

الحرب؛ انعكاس لعدم قبول الآخر والتَّعايش معه، انبعاث قوى الشّرِّ داخل الإنسان نفسه، ومحاولة الهيمنة على غيره واستلاب حرّيته ومقدراته.

الحبُّ؛ هو الوصفة النَّاجعة لسرقة العمر دون انتباه والتَّحايل على الذّات بأنّها موضع اهتمام.

* عن موقع رأي اليوم – لندن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *