قراءةٌ سردِيَّةٌ في رواية حيوات سحيقة للرِّوائي الأردنيّ يحيى القيسيّ

قراءةٌ سردِيَّةٌ في رواية حيوات سحيقة

للرِّوائي الأردنيّ يحيى القيسيّ

*إيمان السويركي

المقدِّمة

تعدُّ رواية حيوات سحيقة واحدةً من الأعمال الأردنية الحديثة القائمةِ على البحث العميق والتَّأمُّلِ في الماورائِيَّاتِ والرّوحانيَّاتِ والتَّصَوُّفِ، والنَّبشِ في دواخلِ النَّفسِ البشرِيَّةِ في محاولةٍ لفهمِها؛ للوصولِ إلى مكنونها من مَعارِفَ وتأمُّلاتٍ وصُورٍ وخيالاتٍ، وهي تُناقِشُ إمكانِيَّةَ وجودِ حيواتٍ مُتَعَدِّدَةٍ للإنسانِ، قد يكونُ قد عاشَها قبلَ وصولِ روحِهِ إلى جسدِهِ الحالِيِّ، ويُورِدُ كاتِبُها على لِسانِ شَخصِيَّاتِهِ ما يُوضِّحُ ذلك، فيقولُ بطلُ الرِّوايَةِ صالح إنَّهُ “مرّةً قرأَ كتابًا عن التَّقَمُّصِ الَّذي تُؤمِنُ بهِ الطَّائِفَةُ الدُّرزِيَّةُ في سوريا ولبنان، وحتَّى دروز منطقة الأزرق في الأردن، وخلاصَةُ أفكارِهم عن ذلكَ أنَّ الجَسَدَ عبارةٌ عن قَميصٍ تلبسُهُ النَّفسُ البَشَرِيَّةُ، أو اللطيفَةُ الرُّوحيَّةُ، حيثُ تتجَسَّدُ من خلالِهِ أثناءَ رحلتها الأرضِيَّةِ، وتتركُهُ أو تخلَعُهُ حينَ الموتِ، وأنَّهُ لا يمنعُ أن تعيشَ النَّفسُ الواحِدَةُ في كلِّ حياةٍ بقميصٍ جسدِيٍّ جديدٍ ومُختلِفٍ عمَّا سبقَهُ، وقد تتذكَّرُ بعضُ النُّفُوسِ حياتها السَّابِقَةَ تمامًا في حالاتٍ مُعيَّنَةٍ، مثلُ الصَّدماتِ الشَّديدةِ للرَّأسِ، أو عبرَ التَّأمُّلِ العميقِ، وأيضًا التَّنويمِ المِغناطِيسِيِّ، وقد لا تتذكَّرُ ذلكَ أبدًا، وهذا هو الأغلبُ”[1].

وكاتبُ الرِّوايةِ واحدٌ من الرِّوائِيِّينَ العربِ القلائِلِ الَّذينَ كتبوا حول الرُّوحانِيَّاتِ كمشروعٍ مُتكامِلٍ في أكثر من عملٍ روائِيٍّ، ويرى أنَّ الرُّوحانِيَّاتِ جزءٌ من التُّراثِ الإسلامِيِّ، حيثُ نراها في التَّصَوُّفِ الَّذي قُمِعَ عبرَ قُرونٍ طويلَةٍ لصالِحِ التَّركيز على الإسلامِ الظَّاهِرِيِّ، وهي كذلكَ جزءٌ من بِنيةِ الكَاتِبِ في نشأتِهِ وقِراءاتِهِ المُكَثَّفَةِ الَّتي قادَتهُ إلى التَّعمُّقِ في هذا المَجالِ بشكلٍ أكبرَ.

وفي هذهِ القِراءَةِ مُحاوَلَةٌ بسيطَةٌ لإلقاءِ الضَّوءِ على هذه الرِّوايَةِ وَفقَ رؤيَةٍ تَحليلِيَّةٍ سَردِيَّةٍ.

مُؤلِّفُ الرِّوايَةِ

 يحيى القيسيّ روائِيٌّ أردُنِيٌّ وُلِدَ عامَ 1963 في قرية حرثا في إربدَ، درسَ الهندَسَةَ المِيكانِيكِيَّةَ ثُمَّ اللُّغَةَ الإنجليزِيَّةَ والتَّرجَمَةَ، وعمِلَ في التّعليمِ لمدةِ عشرةِ أعوامٍ، وفي وزارة الثَّقافةِ عشرَةَ أعوامٍ أُخرى، وعمل في المجالِ الصَّحفيِّ والبَحثِيِّ المُتنقِّلِ بينَ تونسَ والإماراتِ وبريطانيا حيثُ يقيمُ حاليًّا، وقد صَدَرتْ لهُ عِدَّةُ مُؤلَّفاتٍ في المَجالِ البَحثِيِّ والثَّقافِيِّ، وفي القِصَّةِ القصيرَةِ والرِّوايةِ.

يُذكَرُ أنَّ هذهِ الرّوايةَ هي الرِّوايةُ الخامسةُ بعدَ: باب الحِيرةِ 2006، أبناء السَّماء 2010، الفردَوس المُحرَّمُ 2015، بعد الحياةِ بخطوَةٍ 2017.[2]

مُلخَّصُ الرِّوايةِ

تتَحدَّثُ الرِّوايةُ عن شابٍّ أردنِيٍّ في نهايةِ العقدِ الثَّالثِ من عمرهِ يُدعى صالح، يعملُ كدليلٍ سِياحِيٍّ، فيُرافِقُ مجموعاتِ السُّيَّاحِ في مناطقِ الأردنِّ، يَتَعرَّضُ لحادِثَةٍ تُؤثِّرُ في مَجرى حياتِهِ، وهي سُقوطُهُ في كهفٍ يقع في سفح جبل هارون في البتراءِ أثناءَ مُرافَقَتهِ لطاقَمٍ تلفزي بريطاني يعملُ على إنجازِ فيلمٍ وثائِقِيٍّ يرصُدُ دخول الرَّحالةِ السويسريِّ بيركهارت إلى البتراءِ، ويبدأُ من لحظةِ السُّقُوطِ هذهِ يرى مَشاهِدَ من حَيواتٍ سابِقَةٍ لحياتهِ الحالِيَّةِ، ولزمانِهِ الآنِيِّ، فَيُحاوِلُ البحثَ عن المُساعَدَةِ أو التَّفسِيرِ المَنْطِقِيِّ لما يُعانِيهِ، وهُنا تَظهَرُ عُقدةُ الحِكايَةِ.

يلجأُ صالح إلى شَخصِيَّاتٍ ثلاثة، هم: صديقُهُ غاريث المُخرِجُ البريطاني، وأليس صديقتُهُ المُقَرَّبَةُ، ودورثي خبيرةُ التَّنويمِ المِغناطِيسِيِّ، وهم الثلاثَةُ الَّذينَ وَصَفَهُم في نِهايَةِ الرِّوايةِ بالمُتشكِّكينَ في الظَّاهِرِ، المُكَذِّبينَ في البَاطِنِ، وبهذا يفشَلُ في الحصولِ على المساعدةِ، ليعُودَ بعدَ عامينِ إلى الكهفِ مَدفوعًا بالرَّغبةِ في التَّأكيدِ لهؤلاءِ الثّلاثةِ صِدْقَ ما قالهُ، وبالحزنِ الَّذي تركَهُ في نفسهِ تخلي صديقِتهِ عنه، وهناكَ يختَفِي في ظُروفٍ غامِضَةٍ.

والرِّوايَةُ إذ تستندُ على فكرةٍ غيبيَّةٍ أو ماورائِيَّةٍ، فإنَّها إلى جانِبِ ذلك تقومُ بعرضِ محاوِرَ أخرى، أهمُّها تفشِّي الخِطابِ الدِّينيِّ المُتشدِّدِ الظَّاهِرِ في شخصِيَّةِ النِّمس (أبو حذيفة)، وانزِلاقُ الشَّبابِ إلى العُنفِ والإرهابِ مدفوعِينَ بالتَّأثُّرِ بهذا النَّوعِ من الشَّخصِيَّاتِ.

ويعرض كذلك نماذجَ للعنفِ ورفضِ الاختلافِ على مدى قرون؛ أثناءَ عمل صالح في إعداد “الكتاب الأبيض”، ويعرض ذلك أيضاً في حديثِ “أليس” عن العنف ورفضِ الآخر في أوروبا خلال حِقبة طويلة.

إضافةً إلى تناوُلِ العلاقةِ بينَ الشَّرقِ والغربِ من خلالِ الشَّخصِيَّاتِ الأجنَبِيَّةِ البريطانية والنيوزلندِيَّةِ الَّتي جَسَّدتِ التَّواصُلَ مع ثقافَةِ الآخَرِ للوصولِ إلى المرحَلةِ المِثالِيَّةِ مِنَ التَّفاعُل، وهي التَّأثُّرُ والتَّأثيرُ.

العُنوانُ

” أكَّدَتِ المناهجُ النقديّة الحديثَةُ على أهمِّيَّةِ العُنوانِ؛ لما يلعبُهُ من دَورٍ في إضاءَةِ النَّصِّ، وقد عُدَّ المُوَجِّهَ الرَّئيسَ في الكَشفِ عن مُكتنزاتِ النَّصِّ وبِنياتِهِ المُختلِفَةِ والمُتنوِّعةِ؛ لأنَّهُ يُشكِّلُ في الأعمالِ الإبداعِيَّةِ عامَّةً خلِيَّةً تَحوي الجِيناتِ الدِّلالِيَّةِ الَّتي يَتَكوَّنُ منها العملُ الإبداعِيُّ، وهو في العملِ الأدبِيِّ أصغَرُ خَلِيَّةٍ فنِّيَّةٍ لفظِيَّةٍ تَحوي جيناتٍ سردِيَّةٍ ينبغي أن تتقاطَعَ مع عناصِرِ البناءِ الفَنِّيِّ، وكُلَّما تَحقَّقَ التّقاطُعُ والتَّجاذُبُ بينَ العنوانِ وعناصِرِ البِناءِ، ارتَقى المُستوى الفنيُّ للعملِ الأدَبِيِّ”.[3]

” والعنوانُ هو الإشارةُ الأولى الَّتي يُرسِلُها المبدِعُ إلى قارِئِهِ، والرَّابِطَةُ الأولى بينَ الكاتِبِ والعملِ الأدَبِيِّ، والقارِئِ”.[4]

والرِّوايةُ الّتي بينَ أيدينا اختارَ الكاتِبُ تسمِيَتَها (حَيوات سَحيقةٌ)، والحَيواتُ السَّحيقَةُ (البَعيدَةُ الغابِرَةُ) وفقَ ما تُشيرُ إليهِ كلمةُ سحيقَةٍ جاءَتْ نكرةً؛ إذ لا يُمكِنُ تحديدُ ماهِيَّتِها أو حقيقَتِها بشكلٍ دَقيقٍ، وهي إشارَةٌ واضحَةٌ لفكرةِ الكاتِبِ حولَ إمكانِيَّةِ وُجودِ أكثرَ من حياةٍ سابِقَةٍ للإنسانِ، قد يكونُ عاشَها من قبلُ، إذ إنَّ الوُجودَ الإنسانِيَّ سابِقٌ على الوجودِ الجَسَدِيِّ للإنسانِ في رأيِ الكاتِبِ، وبينَ هذه الحَيواتِ الَّتي يَتنقَّلُ بينها البَطَلُ تَظهَرُ شَخصِيَّتُهُ الّتي تمتَزِجُ فيها الواقِعِيَّةُ بالغَرائِبِيَّة.

وقد شكَّلَ العُنوانُ مدخلًا حقيقيًاً مُعبِّرًا بإيجازٍ عنِ الفكرةِ الَّتي تقومُ عليها الرّوايةُ، ورغمَ أنَّ كلمةَ سحيقَةٍ قبلَ البَدءِ في قراءَةِ الرِّوايةِ قد تأخُذُ المُتلقِّي إلى معنى الألمِ والسَّحقِ، إلَّا أنَّها تحملُهُ إلى معنى البَعيدِ القديمِ الغابرِ بعدَ أن يبدَأ في قراءَتها.

ومن ناحِيَةٍ أُخرى قد يكونُ اختيارُ مفردَةِ سحيقَةٍ تَحديدًا مقصودًا للإشارةِ إلى الألمِ، وخاصَّةً أنَّ أغلبَ المَشاهِدِ الَّتي راودَتِ البطلَ لحظاتِ عودَتِهِ إلى حيواتِهِ السَّابقَةِ كانتْ حافِلَةً بالألمِ والمُعاناةِ، وكأنَّنا نَقِفُ أمامَ فكرةِ احتفاظِ ذاكرةِ الحيواتِ بالألمِ بشكلٍ بفوقُ احتفاظَها بالمَشاعِرِ الأُخرى.

الشَّخصِيّاتُ

“الشَّخصِيَّةُ هِيَ كائِنٌ موهوبٌ بِصفاتٍ بشرِيَّةٍ، مُمَثِّلٌ مُتَّسِمٌ بِصِفاتٍ بَشَريَّةٍ، والشَّخصِيَّاتُ قد تكونُ مُهِمَّةً، أو أقلَّ أهمَّيَّةً (وفقا لأهمِّيَّةِ النَّصِّ) فَعَّالَةٌ (حيثُ تَخضَعُ للتَّعبيرِ)، مستَقِرَّةٌ (حينما لا يكونُ هناكَ تناقُضٌ في صِفاتِها وأفعالِها)، أو مُضطرِبَةٌ وسطحِيَّةٌ (بسيطَةٌ لها بُعدٌ واحدٌ فَحسبُ، وسِماتٌ قليلةٌ يمكنث التَّنبُّؤُ بسلوكِها) او عميقَةٌ (مُعقَّدَةٌ، لها أبعادٌ عديدةٌ قادِرةٌ على القيامِ بسلوكٍ مُفاجِئٍ)، ويمكنُ تَصنِيفُها وفقًا لأفعالِها وأقوالِها ومشاعِرِها”.[5]

ويرتَكِزُ تحليلُ الشَّخصِيَّةِ على ثلاثةِ معاييرَ أساسيَّةٍ هي:[6]

  • التَّشخيصُ السَّردِيُّ مُقابِلَ الصُّورِيِّ: (تَحديدُ الفاعِلِ التَّشخِيصِيِّ السَّارِدِ أو الشَّخصِيَّةِ).

  • التَّشخيصُ الصَّريحُ مقابِلَ الضِّمنِيِّ: (هل السَّمات الشَّخصيَّة مُحدَّدة بالكلماتِ، أو هل هي مفهومة ضمنًا من سلوكِ شَخصِيَّةٍ ما).

  • التَّشخيصُ الذَّاتِيُّ مقابِلَ التَّشخيصِ بالإنابةِ: (هل فاعِلُ التَّشخيصِ يعرضُ نفسَهُ أو شخصًا آخرَ).

ومن الجَلِيِّ أنَّ روايةَ حيوات سحيقة تقومُ على التَّشخيصِ السَّردِيِّ، حيثُ يعرضُ السَّاردُ شخصيَّاتِ الرِّوايةِ دونَ تَدَخُّلٍ منها، وهو أيضًا تَشخيصٌ صريحٌ، عدا بعضِ المواقفِ الَّتي عُرِضَتْ فيها سِماتُ الشَّخصِيَّاتِ بِصورَةٍ ضِمنِيَّةٍ، مُعتمِدَةً على سُلوكِها لإظهارِ فكرَتِها.

ويُمكنُ القولُ إنَّ الشَّخصيَّاتِ الواردةِ في الرِّوايةِ هي:

يحيى القيسي
  • صالح: الشَّخصيَّةُ الرّئيسةُ، وهي شخصيَّةٌ فعَّالةٌ غير مستقرَّةٍ وعميقة. (بطلُ الرِّوايةِ) وهو شابٌّ أردنيٌّ في العقد الثَّالثِ من عمرهِ، من أصلٍّ بدويٍّ، يتيمُ الأبِ، تعيشُ أسرتُهُ في الزَّرقاءِ، بينما يُقيمُ هو عادةً في شقَّةٍ في عمَّانَ، يَحملُ درجةً جامعيَّةً في التَّاريخِ، صاحبُ مزاجٍ هوائِيٍّ، مُتقلِّبٌ لا يُطيقُ العلاقاتِ، والتَّديُّنُ بالنسبة له لم يكن أكثر من تقليد موروث في عائِلةٍ مُحافِظَةٍ.

عملَ في التَّعليمِ، ثمَّ في الإرشادِ السِّياحِيِّ، ثمّ انتقلَ بعدَ سقوطِهِ بعامينِ للعملِ كباحِثٍ في مركزِ الدّراساتِ والتَّوثيقِ، وتتبَّعَ جُذورَ العنفِ في العُهودِ الإسلامِيَّةِ المُبكِّرَةِ.

لهُ علاقاتٌ عاطِفِيَّةٌ كثيرَةٌ فاشلة، آخرها علاقَتهُ بأليس.

ظهرتْ ثقافَتُهُ الواسِعَةُ واطِّلاعُهُ في أكثَرَ من موضِعٍ في الرِّواية، أهمُّها: المعرفة والاطِّلاع الواسع على أهمّ المعلومات الخاصَّة بالبتراء، وبالرَّحَّالةِ والمؤرِّخينَ الَّذين كتبوا عنها، ومرُّوا بها، ومعرفة تاريخ منطقةِ وادي موسى، والكرك، والبتراء فترة الدَّولةِ العُثمانِيَّةِ، وإيرادِ بعضِ التَّفاصِيلِ حولَ الحياةِ الاجتماعِيَّةِ هناكَ آنذاكَ، والرُّجوعِ إلى تفاصيلَ من أزمنةٍ غابرةٍ، كاستحضارِ الحواراتِ بينَ موسى وهارونَ مثلا، والاطِّلاع الدَّقيق على أصولِ العناصِرِ المكوِّنَةِ لمدينةِ الزَّرقاءِ (مكان نشأتِهِ)، وما أورَدُ من تفاصِيلَ حولَ جُذورِ العنفِ في العُهودِ الإسلامِيَّةِ المُبكِّرَةِ.

شَهِدَتْ شَخصِيَّتُهُ تَطوُّرًا ونُموًّا في ثلاثةِ مواقِفَ، هي: سُقوطُهُ في الكَهفِ، وعملهُ في إعداد “الكتابِ الأبيضِ”، وافتراقِهِ عن أليس، هذا الافتراقُ الَّذي جاءَ نتاجًا طبيعِيًّا لاختلافِ طبيعَةِ كُلٍّ منهما، وما يُمثلهُ ذلك من اختلافٍ بينَ حَضارتينِ؛ فهو يتشبَّث بمحاولة فهمِ ما جرى بعد سقوطهِ، وهي تَسعى للمِضيِّ قُدمًا في حياتها، وهو اختلافٌ بينَ الشَّرقِ القابِعِ في الماضِي، والغربِ السَّاعي إلى التَّطوُّرِ والحَياةِ.

أمَّا اسمُ صالحٍ، فيُشيرُ إلى الصَّلاحِ بصورةٍ تَختلِفُ عن الصَّلاحِ بالمفهُومِ التَّقلِيدِيِّ، فهو ليسَ مُلتَزِمًا دينيًّا، لكنَّهُ سليمٌ نَفسيًّا، مُعتَدِلٌ في أكثر جوانبِ حياتِهِ، إضافةً إلى نبذهِ للعنفِ، وعبارتُهُ في آخرِ الرِّوايَةِ كفيلةٌ بالكشفِ عن ذلكَ “لو كنتُ سأختارُ مذهبًا في هذهِ الحياة، فمن المؤكَّدِ سيكونُ دينَ الحُبِّ، الَّذي ينفتِحُ على الإنسانِيَّةِ جمعاءَ، وينبذُ العنفَ، ويحتفي بأمَّنا الأرضِ، وما فيها من الكائِناتِ والشَّجرِ والحَجَرِ”.[7]

في الرِّوايةِ إشارَةٌ إلى كونِ ذاتِ الإنسانِ وطبيعتِهِ عبرَ الأزمنةِ الَّتي يمرُّ بها قد تَتَغَيَّرُ، لكنَّها في الغالبِ تَحتفِظُ بثوابِتَ كالميلِ إلى الخيرِ، أو الميلِ إلى الشَّرِّ، على أنَّهُ في الغالبِ لا يكونُ خيِّرًا بالمُطلَق، او شريرًا بالمطلقِ، فقد رأينا صالح إنسانًا مبتعِدًا عن الخيرِ في شخصِيَّةِ ابنِ نوحِ عليهِ السَّلام، وروحانِيًّا سامِيًّا في شخصِيَّةِ أحدِ مُريدي الحَلَّاج، وهي الصُّورةُ الَّتي تبدو أكثرَ قربًا من شخصِيَّتِهِ في زمانِهِ الآنِيِّ، حيثُ يقولُ:” في طفولتي كانتِ المدينةُ تَضُمُّ طُرُقًا صُوفِيَّةً وزوايا للذِّكرِ. ولجتُ عتباتِها أحيانًا مع أخي محمود بشكلٍ عفويٍّ دونَ أن أفقَهَ كثيرًا مِمَّا يُقالُ فيها، غيرَ أنَّني انغمستُ بالحياةِ وتفاصِيلِها لاحِقًا، وتركتُ جانِبِي الرُّوحِيَّ نائِمًا، فيما غَرِقَتِ المدينةُ الصَّاخِبَةُ بجماعاتٍ خَلَطَتْ السِّياسَةَ بالدِّينِ، وأصبَحَتْ تَحلُمُ بالخِلافَةِ، وتمَّ ركنُ الزَّوايا في الظِّلِّ، وتبعثَرَ المُريدُونَ في كُلِّ اتِّجاهٍ، ولم تبقَ من ذاكرتي منها غير رائِحَةِ البَخورِ والأذكارِ والمَدائِحِ بعدَ صلاةِ العِشاءِ من كُلِّ خميسٍ”.[8]

فنرى أنَّ الجانِبَ الرُّوحانِيَّ في شَخصِيَّتِهِ هو الأبرزُ، وإن كان يغيبُ أحيانًا ويتركُ جانبًا لصالحِ الجانبِ المادِيِّ.

  • أليس:

شخصيَّةٌ رئيسَةٌ، فعَّالَةٌ، غيرُ مستقرَّةٍ، وعميقَةٌ.

بريطانِيَّةٌ تعيشُ في عمَّانَ رفقةَ والدَيها منذُ ثلاثةِ أعوامٍ، والِدُها يعملُ مدرِّسًا للُّغةِ الإنجليزيَّةِ في المركزِ الثَّقافِيِّ البريطانِيِّ، وتعملُ والدَتُها في السَّفارَةِ البريطانِيَّةِ. متعمِّقَةٌ في دراسَةِ اللُّغةِ العربيَّةِ في الجامعةِ الأردُنِيَّةِ بعدَ دراسَتِها للعلومِ السِّياسِيَّةِ في جامعةِ لندن، هاويةٌ للتَّصويرِ والمُغامرةِ، يتعرَّفُ إليها صالح أثناء قيامِها بأداءِ دورِ ماغي في الفيلمِ الَّذي جسَّد حياتها، ويدخلُ معها في علاقةٍ يختلِفُ مفهومُها بينَ كليهما، حيث يقتربُ هو إلى مفهومِ الحُبِّ، فيما لا تتخطَّى في مفهومها الصَّداقةَ والمصلحةَ المتبادلة، وقد انفصلت عنه في النهاية حين تلقت عرض عملٍ في وزارة الخارجيَّةِ في بلادِها يقتضي العودةَ للعيشِ في لندن.

اعتقدَ البطلُ بدايةً أنَّ التَّشابُهَ الرّوُحِيَّ بينهما كبيرٌ، إلا أنَّهُ بعد ذلكَ أدركَ الاختلافَ في قولها: “لدينا طريقانِ مختلفانِ، أنتَ مُصِرٌّ على الغوصِ عميقًا في وحلِ الماضي، وأنا أُحاوِلُ الذَّهابَ إلى حاضِرٍ أكثرَ أمانًا يحتفي بالحياةِ”.[9]

  • غاريث:

المخرج البريطاني المتحمِّسُ القادم من ويلز، الصَّديق الودود لصالح، الَّذي أظهرَ تعاطُفًا والتزما مهنيًّا تجاههُ بعدَ سقوطِهِ في ذلكَ الشَّقِّ الصَّخرِيِّ، ورغم عدمِ قناعتهِ بما جرى معه، إلا أنه حاول الاستفسارَ لإيجادِ حلٍّ له، واصطحبهُ إلى الجمعيَّةِ الرُّوحيَّةِ البريطانِيَّةِ، وهو شخصِيَّةٌ ثانويَّةٌ عميقةٌ وفعَّالةٌ.

  • دورثي

شخصِيَّةٌ ثانوِيَّةٌ فعَّالةٌ، لكنَّها مستقرَّةٌ وسطحيَّةٌ.

إنجليزِيَّةٌ تعملُ في الجمعيَّةِ الرُّوحِيَّةِ البريطانِيَّةِ، خبيرةٌ في مجالِ التَّنويمِ المغناطِيسِيِّ، ووسيطَةٌ روحِيَّةٌ عاليَةُ الدَّرَجَةِ، تصِفُها الرِّوايَةُ بأنَّها “بدَتْ لهما في نِهايةِ الخمسيناتِ من عمرها، وأقرَبُ إلى البَدانَةِ، غيرَ أنَّها مُفعَمَةٌ بالحَيَوِيَّةِ، ولها وجهٌ طُفولِيُّ الملامِحِ يفيضُ بالبشاشةِ والطِّيبَةِ”.[10]

إنَّ الشَّخصِيَّاتِ الثلاثة الّتي لجأ إليها صالح طالبا المساعدةَ في فَهمِ ما يحصُلُ معه هي شخصِيَّاتٌ غربِيَّةٌ مُؤثِّرةٌ في حياتِهِ، ورغم ثقتِهِ بالنَّظرِ الغَربِيَّةِ لمفهومِ الرُّوحانِيَّاتِ والماورائِيَّاتِ، وحقيقةِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ، إلَّا أنَّ ثلاثتهم –على اختلافِ طبيعةِ علاقةِ كُلِّ واحدٍ منهم بالبطلِ- قد خيَّبوا ظَنَّهُ، وهو ما يُشيرُ غالبًا إلى ضرورةِ إعادةِ النَّظرِ في فكرةِ البَطَلِ “الغَربِيُّونَ يفهمونَ عادةً النَّفسَ البَشَرِيَّةَ بشكلٍ ربَّما يكونُ أعمقَ من العربِ”.[11]

  • النِّمس (أبو حذيفة):

شخصِيَّةٌ ثانَوِيَّةٌ، شابٌّ بعمرِ صلاح، وزميلُ طفولتهِ وشبابهِ، وهو من نفسِ قبيلته، عُرِفَ عنهُ في السَّابقِ تمرُّدُه ومشاغبته، وعدم قدرة الناس على اتقاء شرِّهِ، وقد تحوَّلَ إلى مؤذن مسجد بعد تعرفه إلى عدد من المجاهدينَ العائِدين من أفغانستان والعراق، وأصبح إضافة إلى ذلك ممثلاً للفكر التكفيري، وهو كما يصفه البطل يفيضُ بطاقة الشَّرِّ في حالتيه الأولى والثَّانية، مع اختلاف طريقة التَّعبيرِ عن هذا الشَّرِّ.

أُلقيَ القبضُ عليهِ إثرَ تظاهُراتٍ ضد الدَّولةِ وحُبسَ لأكثر من سنة، ثم تسلل إلى الأراضي السورية وتبرَّأتْ منه عائلته وقُتِلَ بعد ذلك.

  • ماغي:

شخصِيَّةٌ ثانَوِيَّةٌ، نيوزلنديَّة (مارغريت غيلدير ملسين) المتزوجة منذ عام 1987 من بدويٍّ من البتراء، وهي صاحبة كتاب “تزوَّجتُ بدوِيًّا”، وقد كانت صديقة لأليس الَّتي مَثَّلتْ دورها في الفيلم الوثائِقيِّ الَّذي صوَّرَ حياتَها، وقد وَصَفتها الروايةُ بأنَّها احتفظتْ رغم كل ما تعلمته من العرب بطباعها الغربيَّةِ في عدمِ محاولةِ التَّدخُّلِ في شؤون الآخرينَ.

  • ستيف:

باحثٌ في الماورائِيَّاتِ، التَقاهُ البطلُ في الجمعِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ البريطانِيَّةِ، وهو أحدُ المَسؤولينَ عن إدارَتِها.

  • حسن:

الأخُ الأصغرُ لبطلِ الرِّوايَةِ، في السَّنَةِ الجامعِيَّةِ الأولى، تعرَّفَ إلى النِّمسِ وتأثَّرَ بِفكرِهِ التَّكفيرِيِّ، فتحوَّلَ كغيرهِ من الشَّبابِ إلى شخصِيَّةٍ مُستلَبَةٍ، وقد أدى به تعلُّقهُ هذا إلى الحبسِ شهرا، حاولَ بعدها أن يتغيَّرَ تدريجِيًّا إلى أن عادَ إلى دراسَتِهِ.

  • محمود:

شقيقُ البطلِ، وهو يعملُ ضابِطًا في الشُّرطَةِ، متزوِّج يتنقَّلُ مع أسرته وفق مكانِ عملهِ.

  • والدَةُ صالح:

أرملة تربِّي أبناءَها الَّذينَ ظهرَ منهم صلاح ومحمود وحسن، ولم تبدُ علاقتُها بصلاح قويَّةً، إذ لم تعرِفْ شيئا عن علاقته بأليس، ولم يخطر في باله أن يخبرها ما حدث معه في الكهف.

  • بيركهارت:

(ظهرتْ قصَّتهُ منفصلةً تدورُ في ذهن البطل، في ذاتِ المكان وفي زمنٍ مختلفٍ)

الرَّحَّالةُ السويرسريّ الّذي قدِمَ عام 1812 كباحثٍ من الجمعية الأفريقيّةِ بلندن، واكتشف تفاصيلَ البتراءِ بينما كانَ مارًّ بالمنطقةِ باتِّجاهِ تمبكتو ضمنَ خُطَّةِ سيرٍ تقضي بالانتقالِ من أوروبا إلى حلب، ثمَّ إلى جنوبِ الأردنِّ، وصولا إلى سيناء، ثُمَّ القاهرة، ليتسلَّلَ مع الحُجَّاجِ الأفارقةِ العائِدينَ باتِّجاهِ مالي.

وقد أظهرَ الرَّاوي في بِدايةِ الرِّوايةِ تشابُهًا بينَ ما حَدَثَ مع صالح حينَ سقط في الكهف من تغييرِ مجرى حَياةِ كُلٍّ منهما، فكلاهُما اكتشفَ اكتِشافًا غيَّرَ مجرى حياتِهِ.

إنَّ القارِئَ يُمكنهُ بسهولةٍ ملاحَظَةُ غَلَبَةِ الشَّخصيَّاتِ الغربِيَّةِ على العَرَبِيَّةِ في روايةٍ تدورُ أحداثُها في الأردنِّ، وهي كذلكَ الشَّخصِّيَّاتُ الفاعِلَةُ والمُؤثِّرَةُ في سيرِ أحداثِ الرِّوايَةِ.

الزَّمانُ

يمكنُ التَّمييزُ بينَ ثلاثِ حالاتٍ لتصنيفِ السَّردِ على أساسِ الصِّيغَةِ الزَّمنيَّةِ للفعلِ في الحِكايَةِ، وهي:[12]

  • العملية السَّرديَّة الاستعادِيَّةُ اللاحقة، وهي الّتي تنتج سردًا في صيغة الماضي، بحيث أنَّ كُلّ حوادثه ووحدة أفعالِهِ حدثتْ في الماضي.

  • العمليَّةُ السَّردِيَّةُ التَّزامُنيَّةُ: وهي الَّتي تُنتجُ سردًا في صيغَةِ الحاضِرِ، تحدث أفعالُهُ في ذاتِ الوقتِ الَّذي تُسرَدُ فيهِ، والحالةُ النَّمطِيَّةُ هي اليومِيَّاتُ والتَّقاريرُ.

  • العمليَّةُ السَّردِيَّةُ المستقبليَّة – التَّوقُعِيَّةُ: وتُنتِجُ سردًا بصيغَةِ المستقبلِ، وهو سردُ أحداثٍ لم تحدث بعدُ.

 يبدو أنَّ كُلَّ ما في رِوايةِ” حيواتٌ سحيقَةٌ” هو عمليَّةُ استرجاعٍ زمنيٍّ، وسردٌ لاحِقٌ للأحداثِ، فالبطلُ يتذكَّرُ ما جرى معهُ في البتراءِ حينَ سقطَ في الشَّقِّ الصَّخريِّ، والرِّوايَةُ تبدأ بعبارة “لا مناصَ ممَّا جرى”[13]، حيث يجلس صالح مستحضراً ما جرى معه، ومستذكراً ببطء تلك الأحداث الَّتي تنبثق الآن بقوَّةٍ من أعماقِهِ عن تفاصيل تلك اللَّيلةِ شديدة الضَّنك.[14]

ويمكن فهم هذا الاسترجاع بوضوح في نهاية الرِّواية عند الحديث عن اختفاء صالح في البتراء، فيدرك القارئ أنَّ اللحظات الأولى في الرواية هي اللحظات الأخيرة في حياة البطل.

يُؤكِّدُ ذلك استخدامُ صِيغَةِ المضارع في الصَّفحةِ الأولى من الرِّوايةِ (يستحضِرُ، يغسلُني بلطفٍ، يغطِّي كلّ شيء) في الصَّفحةِ الأخيرةِ، واستخدام الفعل الماضي في سرد أحداث الرِّوايةِ كاملةً.

لم يكن هناك فواصل زمنية في النص (في بداية النَّصِّ تحديداً) اعتمادًا على وحدة المكان (البتراء)، ومحاولة تمثيل مشهد مضى عليه مئتا عامٍ، فنرى صالح يسترجع الأحداث الَّتي كانت قبل عامين، وتارَةً يكونُ الزّمنُ هو 1812، ودون أي إشارة ننتقل إلى العام 2012 حيث دارت الأحداث الفعلية للرواية، فيستعرض الرَّاوي بداية رحلة صالح مع فريق التَّصوير البريطانيّ.

ويظهر ذلك جليًّا في الصفحة الثالثة عشرة عند الانتقال من الحديث عن تفاصيل رحلة بيركهارت إلى الحديث عن صالح ولغته الإنجليزيَّة، وخبرته كدليل سياحِيِّ “بينما حمل بيركهارت نفسه قربة ماءٍ جلديّة ثقيلة زوَّادةً للطَّريق”.. ينتقلُ الرَّاوي إلى الفقرة التَّاليَةِ مُباشَرَةً “يُدرِكُ صالح أنَّ لغته الانجليزِيَّةَ الجيِّدَةَ….”.[15]

حتَّى أنَّ القارِئَ للحظاتٍ يجد صعوبة في تحديد ما إن كان الحديث عن بيركهارت نفسه، أم عن مشاهد التَّصوير الخاصَّةِ بالفيلم الَّذي يُجسِّد رحلته.

وتبدأ الأحداث بالانتظامِ زمنيًّا في عملية سردٍ لأحداث ماضية مرتّبةٍ عند الفقرة “لو لم يجرِ الأمر بتلكَ الطَّريقَةِ.. وهي تُهاجِمُهُ بشراسَةٍ”.[16]

لا بُدَّ من الإشارةِ أيضًا إلى وجودِ حذفٍ زمنيٍّ في بعضِ المواضع، أهمُّها: “مرَّ عامانِ وئِيدانِ منذُ سُقوطِهِ”[17]، فما حدثَ خلال العامين محذوف، كذلك فإنَّ جميع حالات الانتقال لذكريات وعوالم أخرى يُعدُّ حذفًا لأحداثِ الزَّمنِ الآني، مثل خروجِهِ من زمنهِ الآني إلى واسط في العراق فترة حكمِ الخليفةِ المقتدرِ، حيث تدور أحداث إعدام الحلَّاج على مدار يومين، فتمرُّ سريعًا كأحداثِ شريطٍ نغيبُ معهُ للحظاتٍ عن سيرِ الأحداثِ الطَّبيعِيِّ في الرِّوايةِ.

يمكن ترتيب الزَّمن في الرِّوايةِ كالتَّالي:

  • الجلوسُ في البتراءِ والتَّذكُّرُ:

(زيارة البتراء مع فريق التَّصوير + رحلة بريكهارت)

 ثُمَّ السُّقوطُ في الكهفِ

 ثُمَّ المستشفى

ثمَّ العودة إلى الزَّرقاء

ثُمَّ عامانِ مفقودانِ

ثُمَّ العملُ في مركزِ الدِّراساتِ

ثُمَّ السَّفرُ إلى بيرطانيا

ثُمَّ العودةُ إلى الأردن (الزَّرقاء)

ثُمَّ العودةُ إلى البتراء

(العودة إلى البتراء والتَّذكُّر هي ذاتها نقطة البِدايةِ)

المكانُ

“يؤدِّي المكان في السَّردِ عادةً إحدى وظيفتين أو كلتيهما، الأولى هي تأطيرُ الأحداثِ لصنعِ مساحةٍ ملائمة لحركة الشَّخصِيَّاتِ، وكذلك لرسم الخلفِيَّةِ المكانِيَّةِ المُوهِمَةِ بواقِعِيَّةِ السَّردِ، والثَّانيةُ وظيفَةٌ تمثِيلِيَّةٌ، حيثُ يتحوَّلُ الفضاءُ نفسُهُ إلى موضوعٍ للسَّردِ”.[18]

وقد درات أحداث رواية حيوات سحيقة في عدَدٍ من الأماكنِ، هي:

  • تبدأ الأحداثُ في البتراء (الآثار) منطقة التَّأمُّل واسترجاع الأحداث، ومنها أيضًا تبدأ الأحداث المُسترجَعَةُ (فترة تصوير الفيلم الَّذي يتحدَّث عن بريكهارت، (وهو مكان مفتوح)).

  • الكهف في جبل هارون في البتراء، حيث سقط البطل وبقي ليلةً، وهو المكان الّذي شكَّل نقطة تحوّل في حياته وفي مجرى أحداث الرِّوايةِ، وقد أعطت الرِّوايةُ هذا الكهفَ سماتِ المكانِ الأثريِّ الرُّوحانِيِّ، حيثُ النُّقوشُ الّتي لم يستطع البطل رؤيتها بوضوحٍ، وكذلكَ الجِرارُ، والأهمُّ من ذلك قُربُ هذا الكهفِ من (مقام هارون).

وفي هذا المكان تحديدا، وبعد تناول البطل بعضا من السَّائل الموجود في الجِرار بدأت تهاجمه مشاهد من عصور سحيقة تقطع زمنه الحاضر، فتتأرجح روحه بين عالمه الحاضر وعوالم سابقة. (وهو مكان مغلق).

  • المستشفى: شهر للعلاج، حيث تداهم البطل للمرة الثَّانية حالة التَّشنُّج المحيِّرَة، (وهو مكان مغلق).

  • الزَّرقاء:حيث منزل أهل البطل، والرَّاوي يقارن بين الزَّرقاء قديما وحديثًا، ويذكر تسلسل مجيء العناصر المُكوِّنة للمدينة.

(المدينة مكان مفتوح، ومنزل الأهل مكانٌ مغلَق)

  • الشَّقَّة في عمَّان (مكانٌ مغلق).

  • مقهى الرَّشيد في عمّان، حيث بداية لقاءات صالح وأليس، ونهاية لقاءاتِهِما. (مكان مُغلق).

  • لندن – مطار هيثرو- الفندق- ضفَّة نهر التَّايمز- متحف الشَّمع- المتحف البريطاني- عين لندن- شارع العرب (إدجوار رود) (أماكن مفتوحة ومغلقة).

  • الجمعيّة الروحية البريطانيّة: حيث عاد في جلسة التَّنويم المغناطِيسي إلى بداية روحه “رأى نفسَهُ حينها يلهثُ من الرَّكضِ المتواصِلِ.. يا بُنَيَّ اركب معنا ولا تكُنْ مِنَ المُغرَقِينَ”[19]، إنَّهُ إذا ابن النَّبيِّ نوح، وتلك هي تفاصِيلُ المشهدِ كاملًا.

ثُمَّ بدأ بعد ذلك بالانتقالِ السَّريعِ بينَ حيواتِهِ الغابرةِ في أماكِنَ مُتباعِدَةٍ، وأزمِنَةٍ مُختَلِفَةٍ، مع بشرٍ عرفَهُم في حيواتِهِ الكثيرَةِ.

  • العوةُ إلى الأردنّ (مكان مفتوح)- الزَّرقاء البيت (مكان مغلق) – البتراء (مكان مفتوح).

وفيما يتعلَّق بالأماكن أيضًا يظهر من خلال الأحداث الرَّبط بينَ الوضع المكانِيِّ والنَّفسِيِّ للبطلِ، وحالة الانتقال الرُّحي إلى مكان آخر، فنراهُ فيما يتعلَّقُ بالرَّبطِ النَّفسِيِّ في المستشفى بعد إصابَتِهِ يتعرَّض لضغط أسئِلة رجُلَي أمنٍ عمَّا حدثَ معه، فتنتقلُ روحُهُ إلى حالةٍ مماثِلَةٍ يبدو أنَّهُ جَرَّبها ومرَّ بها في عصرٍ سابِقٍ، حيثُ السِّجنُ في قبو حجرِيٍّ نتِنٍ، ونراه يرزح تحت ضغطِ استنطاقِ اثنين من الجلَّادِينَ، نعرف فيما بعد أنَّهما كانا يستنطقانِ أتباعَ الحَلَّاجِ.

ويظهرُ الرَّبطُ المكانِيُّ بحالةِ الذُّهولِ والدُّخولِ في الرُّؤى الضَّبابيَّةِ الَّتي أُصيبَ بها أثناءَ سيرِهِ في السِّيقِ في مدينَةِ البتراءِ، ليدخلَ في عصرٍ سابقٍ في نفسِ المكانِ، شهِدَ فيهِ السِّيقُ سيلًا جارِفًا، حاملا معه عددا من الجُثَثِ الطَّافِيَةِ.

إيمان سويركي

الرَّاوي

” الرَّاوي هو أسلوبُ صياغَةٍ، أو بِنيةٌ من بِنياتِ القَصِّ، شأنُهُ شأنُ الشَّخصِيّة والزَّمانِ والمكانِ، وهو أسلوب تقديمِ المادَّةِ القَصَصِيَّةِ”[20]، وقد برز دورُهُ لأنَّهُ يُقدِّمُ المادَّةَ الحِكائِيَّةَ في الرِّوايةِ، وهو الموصلُ في عرضِ الرِّوايةِ أمامَ القُرَّاءِ، فدورهُ يتَّسمُ بالتَّقييد أو الحُرِّيةِ وفقا لما يرتئِيهِ كيانُ الرِّوايةِ، “ويُعرَفُ بأنَّهُ ذلك الشَّخصُ الّذي يروي الحكايةَ أو يخبرُ عنها، سواء أكانَ حقيقيًّا أو خيالًا، ولا يُشترَطُ أن يكونَ اسمًا مُعيَّنًا، وقد يكتفي بأن يكونَ متقنِّعًا بصوتٍ او مستعينًا بضميرٍ ما، يصوغُ بواسطتهِ المروِيَّ”[21].

وقد صنَّفَ (نورمان فريدمان) منطَلقَ طُرُقِ نقلِ مادَّة الرِّوايةِ، وعلاقَتِها بالرَّواي كالآتي[22]:

  • الرَّواي العارف بكل شيء، المقتحم للقصَّة.

  • الرَّاوي العارف بكل شيء، المُحايد.

  • شاهد العيان (أنا).

  • (أنا) الشَّخصِيَّة الرَّئيسة.

  • العارف بكلِّ شيء، المتعدد المنتقي.

  • العارف بكل شيء، الوحيد المنتقي.

  • الشَّكل المسرحِيّ.

  • الكاميرا.

ويُلاحظ المتتبِّع لصوت الرَّاوي في رواية حيوات سحيقة أنَّ (راويا خارجِيًّا) يستخدم ضمائر الغائب في روايته للأحداثِ، وهو عالِمٌ بمكنون الشَّخصِيَّاتِ جميعًا، حيث استطاعَ وصفَ مشاعرِهم، والتَّحدُّثَ عن أفكارهم، وهو إضافة إلى ذلكَ (راوٍ مفارقٌ) لم يظهر كشخصِيَّةٍ في النَّصِّ.

إلَّا أنَّ الرِّوايةَ لم تشهد نوعًا واحدا من الرُّواةِ، كإحالةِ عمليَّةِ الرِّوايةِ إلى الشَّخصِيَّةِ الرَّئِيسَةِ، وقد ظهرَ ذلكَ في استخدامِ ضمير المتكلِّمِ في غير موضعِ الحوارِ الدَّاخِلِيِّ، ومثال ذلكَ في مشهد إعدامِ الحَلَّاجِ، حيث كان الرَّاوي خارِجِيًّا مفارقًا (عارفا بكلِّ شيءٍ مُحايدًا) يتحدَّث عن مريدي الحَلَّاجِ، إلى أن انتقلت عمليَّةُ الرِّوايةِ إلى البطلِ حينَ قال: “وصاحَ آخرونَ وهم يُشيرونَ إلينا”[23]، ثُمَّ ينتقِلُ مباشرةً من روايةِ (أنا الشَّخصيَّةُ الرَّئيسَةُ) إلى رواية الرَّاوي (العارف بكل شيء المُحايد في قولهِ) في ذاتِ الصَّفحَةِ: “يُقسم المريد أنَّهُ رأى نوراً ساطعاً يغشى الأعين”[24]، وضمير الغائب في الفعل (يُقسِمُ) يُشيرُ إلى عودةِ السَّردِ إلى الرّاَوي الخارِجِيِّ.

الحوار

يعرِّف عبد الملك مرتاض الحوار في الرِّواية بأنَّهُ “اللغةُ المعترضة الَّتي تقع وسطًا بين المناجاة واللُّغة السَّردِيَّة، وهو يجري بين شخصِيَّةٍ وشخصِيَّةٍ، أو بين شخصِيَّاتٍ وأخرى داخل العمل الرِّوائِيّ..، ويجب أن يكون الحوار الرِّوائي مقتضبا ومُكثَّفًا، حتى لا تغذو الرِّوايةُ مسرحيَّة، وحتَّى لا تضيع لغة السَّارد والسَّرد، يضيع أيضاً عبر هذه الشَّخصِيَّاتِ المتحاورة على حساب التَّحليل، وعلى حساب جمال اللُّغة واللَّعب بها”[25].

وقد جاءت الحوارات في رواية حيوات سحيقة بسيطة مقتضبة ومكثَّفة وعميقة، وتنوَّعتْ بينَ حوارات دَاخلية وخارِجيَّةِ، فما دار بين صالح والنِّمس، وما دار بين صالح وغاريث، وحوار أليس وصالح حول تبادل اللّغة هي حوارات خارجِيَّة.

أمَّا الحوارات الدَّخلية فهي الأقل، ومعظمها كان يدور في نفس البطل أثناء جلوسه مع النَّمس، أو عندما قَرَّرتْ أليس الابتعاد عنه.

وتعود قلة الحوارات إلى طبيعة التَّشخيص القائِمِ على السَّردِ لا على الحوارات أو على تقديم الشَّخصِيَّاتِ لصفاتها وسِماتِها عبر سُلوكاتٍ أو حواراتٍ.

اللُّغَةُ في الرِّوايةِ

” اللّغةُ هي أهم ما ينهض عليه البناء الفني للرواية، فالشَّخصِيَّةُ تستعمل اللغة، أو توصف بها، وهي بذلكَ مثل المكان أو الحيِّز والزَّمان والحدث… فما كان ليكون وجود لهذه العناصر أو المشكلات في العمل الرّوائي لولا اللغة”[26].

جاءت اللغة في الرِّواية واضحة بعيدة عن الإغراق في الرّمزيِّة، حافلة بالتَّعابير ذات الدَّلالة الرُّوحانية الواضحة، وقد برزت دقَّة الكاتب في إيراد المفردات الدَّالة الدَّقيقة الّتي تؤدي الغرض وتعبر عن جوهر الأشياء الّتي يتناولها، رغم ما ظهر في لغته من عمق ناتج عن إطالةِ الاطِّلاعِ على كتب التُّراثِ، ولا سيما كتب التَّصوُّف.

إضافة إلى بعض المقاطع الشِّعرِيَّةِ الَّتي ظهرتْ في بعضِ الفصول، مثل[27]:

“تلافيف رأسي مأهولَةٌ بخيالاتٍ وروائِحَ وألوانٍ لا تُحصى

مُدُنٌ مزدَحِمَةٌ بالطَّاعونِ

رائِحَةُ قهوةٍ وهيلٍ تتسرَّبُ من خِباء

حَنوطُ أمواتٍ مَجهولينَ

قنادِيلٌ معلَّقَةٌ في مارستانات

أثداءٌ رؤومَةٌ مُدَلَّاةٌ لأطفالَ جائِعينَ”

الخاتِمَةُ

تناولتْ هذهِ القِراءَةُ رواية حديثة تستندُ على الماورائِيَّاتِ والرُّوحانِيَّاتِ، في محاولةٍ لتحليلها، للوصولِ إلى طبيعةِ التَّشخيص والشَّخصِيَّاتِ فيها، وطبيعةِ الزَّمانِ والمكانِ، ودورِهِما في إبرازِ فكرةِ الرِّوايَةِ، إضافةً إلى معرفةِ نوعِ الرَّواي والحوارِ فيها، وصولًا إلى طبيعةِ اللغة المستخدمة فيها.

وقد خلُصتِ القراءَةُ إلى ما يلي:

  • في عنوانِ الرِّوايةِ إشارةٌ واضحةٌ لفكرةِ الكاتِبِ الَّتي يطرحُها في روايَتِهِ (إمكانية وجود أكثر من حياة سابقة للإنسان).

  • تقوم الرِّوايةُ على التَّشخيصِ السَّردِيِّ الصَّريحِ، حيثُ يعرضُ السَّاردُ شَخصِيَّاتِ الرِّوايةِ دونَ تَدخُّلٍ منهُ، ويغلبُ على الشَّخصِيَّاتِ العنصرُ الغربِيُّ، فيما تُعدُّ الشَّخصِيَّاتُ العربيَّةُ غيرَ مُؤثِّرَةٍ.

  • ومن ناحِيَةِ الزَّمنِ جاءَ السَّردُ في الرِّواية سردًا لاحِقًا قائِمًا على استِرجاعٍ زَمَنِيٍّ، وظَهَرَ في الرّواية كذلك حذف زمنيٌّ.

  • دارت أحداث الرِّواية في أماكن مختلفة، أكبرها تأثيرًا هو الكهف (كمكان مغلق)، والبتراء (كمكان مفتوح)، وكلاهما مرتبط لِقِدمِهِ وحضارته بالماورائِيَّاتِ والرّوحانِيَّاتِ.

  • الرَّاوي في رواية حيوات سحيقة (خارجي مفارق لمسروده) (راوٍ عارفٌ بكل شيء- مُحايد)، لكنَّهُ لا ينفرد برواية كل التَّفاصيل، حيث يظهر البطل راويًا في بعض الأحداث.

  • الحوار في الرِّواية قليل بسيط، ومقتضَبٌ لكنَّه مكثّف.

  • اللُّغَةُ واضحةٌ، بعيدةٌ عن الإغراق في الرَّمزِيَّةِ، رغم العمق في بعض المواطن الَّذي جاء ناتجا عن سعة اطِّلاع الكاتب على كتب التُّراث.

 

  • إيمان السويركي: كاتبة وطالبة دراسات عليا في الآداب العربية – جامعة اليرموك

[1] القيسي، يحيى.حيوات سحيقة. خطوط وظِلال للنَّشرِ والتَّوزيعِ، الأردن، 2020، ص133-134
 أُخِذت معلومات الرَّاوي من صحيفَةِ الرَّأيِ، إضافةً إلى قائِمَةِ (صدر للمؤلِّفِ) في آخرِ روايتهِ.[2]
[3]  عتيق، عمر.تقنيات سردية في قصص الدكتورة القاصة امتنان الصمادي. مجلة أفكار ، منشورات وزارة الثقافة الاردنية، العدد 284، أيلول، ص20
[4]  عيَّاد، شكري. مدخل إلى علم الأسلوب. دار العلوم، الرِّباط، ط1، 1982، ص74
[5]  برنس، جيرالد. المصطلح السَّردي: معجم المصطلحات. ترجمة خزندار، عابد، ط1، المجلس الأعلى للثَّقافة، القاهرة، 2003،ص42
[6]  مانفريد، يان. علم السَّرد: مدخل إلى نظريَّة السَّرد. ترجمة أبو رحمة، أماني، دمشق،2011، ص135
[7]  القيسي، يحيى، حيوات سحيقة. مرجع سابق، ص161
[8]  القيسي، يحيى، المرجع السَّابق: ص162
[9]  القيسي، يحي، المرجع السَّابق: ص162،163
[10]  القيسي، يحيى، المرجع السَّابق: ص132
[11]  القيسي، يحيى، المرجع السَّابق: ص43-44
[12]  مانفريد، يان. علم السَّرد: مدخل إلى نَظَرِيَّةِ السَّرد. مرجع سابق، ص115-116
 [13]  القيسي، يحيى. حيوات سحيقة. مرجع سابق، ص7
[14]  القيسي، يحيى، المرجع السَّابق، ص8
[15]  القيسي، يحيى، المرجع السَّابق، ص13
[16]  القيسي، يحيى، المرجع السَّابق، ص18
[17]  القيسي، يحيى، المرجع السَّابق، ص81
[18]  بكر، أيمن. السرد في مقامات الهمذاني. الهيئة العامَّة المصريَّة للكتب، القاهرة، 1998، ص104
[19]  القيسي، يحيى. حيوات سحيقة. مرجع سابق، ص138
[20]  قاسم، سيزا. بناء الرواية. منشورات جمعية الرعاية المتكاملة، مصر، 2004، ص131
[21]  إبراهيم، عبد الله. السَّردِيَّة العربية: بحث في البنية السَّردية للموروث الحكائي العربي . المؤسسة العربية للدِّراسات والنشر، بيروت، ص200
[22]  سمعان، إنجيل. وجهة نظر في الرواية المصريَّة. مجلة فصول، مجلد2، عدد2، 1982، ص91
[23]  القيسي، يحيى. حيوات سحيقة. مرجع سابق، ص93
[24]  القيسي، يحيى، المرجع السَّابق، ص93
[25]  مرتاض، عبد الملك. في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السَّرد. منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنوان، الكويت، 1998، ص134
[26]  مرتاض، عبد الملك، المرجع السَّابق، ص125
[27]  القيسي، يحيى. حيوات سحيقة. مرجع سابق، ص164

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *