عائشة البصري: لن ننسى بسهولة هزيمتنا أمام فيروس صغير!

* عماد الدين موسى

عائشة البصري شاعرة وقاصة وروائية مغربية، عضو الجمعية الدولية للنقد الأدبي (AICL) في فرنسا، وعضو بيت الشعر، واتحاد الكتاب في المغرب، وعدد من لجان التحكيم الأدبية.
صدر لها في الرواية: “ليالي الحرير”، 2013، و”حفيدات جريتا جاربو”، 2015، و”الحياة من دوني”، 2018، و”كجثة في رواية بوليسية”، 2020. وفي القصة القصيرة: “بنات الكرز”، 2017، وفي الشعر: “مساءات”، 2001، و”أرق الملائكة”، 2002، و”شرفة مطفأة”، 2004، و”ليلة سريعة العطب”، 2007، و”خَلْوَةُ الطير”، 2010، و”السابحات في العطش”، 2015.
حازت على جوائز عدّة، نذكر منها: الجائزة الدولية للرواية باسم كاتب ياسين لسنة 2016 عن رواية “حفيدات جريتا جاربو”، وجائزة سيمون لاندراي للشعر النسائي في باريس 2017 عن قصائد مترجمة للفرنسية من المجموعة الشعرية “السابحات في العطش”.
حول روايتها، “كجثة في رواية بوليسية”، التي تتناول موضوع الساعة “جائحة كوفيد 19″، التي حصدت، ولا تزال، أرواح مئات الألوف من الناس، وعن اللحظات التي تزامنت مع كتابتها، هنا حوار معها:

مشاركة القارئ في الكتابة

(*) في روايتك الجديدة، “كجثّة في رواية بوليسية”، نجد أنّ المحقِّقين، العقيد المُقرِّر، والرقيب المُقرِّرة، كما لو أنهما (أنكر ونكير)، يحاصران الراوية باعتبارها جثَّة، وهي على سرير الموت الافتراضي؛ وذلك من أجل معرفة ما في ذاكرتها، بعد إصابتها بفيروس كورونا، خاصة ما بين 2010 و2020. هل من أمل لتتحول الجثة إلى جسد، أو أسرار علمية؟
ربما ليس علي أن أقود القارئ إلى تفسير ما. في رواياتي، أترك دائمًا مساحة كبيرة من الحكاية للتأويل. على القارئ أن يشارك في كتابة الرواية. لكن، وتجاوزًا، أستطيع أن أقول إن رواية “كجثة في رواية بوليسية” تدخل في إطار مشروعي الإبداعي ككل، وهو التحسيس بالوضع المجحف للمرأة، الذي بدأ بشكل خجول في مجموعاتي الشعرية، وأصبح واضحًا في رواياتي، كقضايا إنسانية (اغتصاب النساء في الحروب، الجنون كبديل عن واقع مختل، الاغتراب الداخلي، الذاكرة الممزقة)، لأن الإبداع، ورغم انشغاله بجمالياته، ليس “كتابة بيضاء” تمامًا بمفهوم رولان بارت، الكتابة فعل متضامن والتزام إنساني.
أما في هذه الرواية، فقد تناولت المرأة والموت. ففي الموت، كما في الحياة، تجد المرأة نفسها تخضع للتحقيق أمام أسئلة تمييز جنسي، وفي موقف دفاع عن مواقف وقرارات أرغمها المجتمع على اتخاذها. الدفاع عن قدراتها الإبداعية والفكرية التي تتعرض للهجوم والتشكيك لمجرد أنها امرأة.. تبرير علاقتها المتوترة مع العالم الخارجي.
منذ الصفحات الأولى، توضع الجثة في قفص الاتهام، وتحاصر بأسئلة وانتقادات تصل إلى التعذيب النفسي، مرغمة على تبرير حياة عاشتها بالتقسيط، تختبئ وراء سر كبير. ومن الواضح أن المقرر، الرجل العسكري، ومساعدته، إشارة إلى السلطة، السلطة الدينية والسياسية والاجتماعية.
للإشارة “كجثة في رواية بوليسية” قد تكون الجزء الثاني لـ”ليالي الحرير”، أو الليلة الثانية من (ليالي الحرير). فبعد عشر سنوات، تعود الساردة إلى نفق الموت “البرزخ”، الذي دخلته بموتها الإكلينيكي في الرواية السابقة. هذه المرة تدخله من باب الموت الوبائي في زمن كورونا.

(*) الغرفة في المشفى تبدو غرفة تحقيق، كما تبدو حفرة قبر. كيف تساوين بينهما وبطلة روايتك تسخر وهي تبحث عن مكان آمن للموت؟
ليس من المؤكد أن الأحداث تدور في غرفة في مشفى. هذه الرواية السابحة في مكان ما لا تخضع لمقاييس واقعية. فضاء الرواية بلا حدود منطقية، وكذلك زمنها. فالليلة تمتد لتصبح شهورًا، والغرفة المكان الضيق الملتبس يتسع ليصبح مركزًا كبيرًا لتجميع آلاف الجثث الموبوءة. إنها خارج المتفق عليه. وواقع الشخصيات لا يخلو من مظاهر وتعبيرات سريالية، أو فانتاستيكية، أو ما شابه ذاك.
هي لعبة سردية. السرد في الرواية ليس تقليديًا، حيث الراوية عالمة بكل شيء، حتى الساردة لا تعرف إن كانت ميتة، أو حية، إن كانت في غرفة مشفى، أو قبر، أو نفق. ينهي القارئ الرواية من دون أن يعرف مَنْ مِنَ الشخصيات في دائرة الموت، ومن منها في دائرة الحياة. بل يغادر القارئ الرواية وهو يحمل أسئلة أخرى: هل هنالك حدود للموت؟ هل هنالك حدود للحياة؟ هل الموت موت نهائي؟ هل الموت امتداد للحياة؟

أمل في نهاية لكل نفق
(*) الجثة في النفق جثة لم تنفق. هل هو الأمل بالشفاء من كوفيد، مع أنَّ الراوية تريد موتًا جميلًا أنيقًا ورومانسيًا؟
دائمًا هناك أمل، وهناك نهاية لكل نفق. حتى الموت في آخر الرواية موت جميل وشاعري. الموت ليس بتلك البشاعة التي يتصورها البشر، فقد يكون حلًا. والمتتبع لمساري الإبداعي

المتواضع سيلاحظ أن ثيمة الموت حاضرة بقوة في كتاباتي الشعرية، كسؤال وجودي ناتج عن ذلك القلق الفطري الذي ضخمه حضور الموت من حولي أكثر من الحياة.
إحدى شخصيات روايتي “ليالي الحرير” ترى أن الموت هو مجرد عبور إلى وجود ثالث، لا يمكن أن نسميه حياة ولا موتًا، لأنه المجهول. لأنه ليس هناك شيء نهائي، لا الحياة ولا الموت، ولا حتى ما بعد الموت. لقد جهدت الديانات، قدر المستطاع، لإعطاء تفسيرات وأسماء لذلك الوجود الثالث فقط لطمأنة النفس البشرية.
لا أدري من قال إننا نقضي عمرنا بحثًا عن مكان ملائم للموت.

(*) الجثة لم تكن لتنقطع عن التفكير. تسأل الرقيب المقرِّرة: ماذا يحدث في العالم؟ فتعنفها، بأنَّ هذا ليس عالمها الآن. لماذا القمع والموت يسري في الجثة؟
إنها غريزة البقاء التي تجعلنا نتشبث بالحياة، حتى ولو كانت رديئة، نتشبث بها لأننا لا نتحمل فراق الأحبة، والساردة في هذه الرواية ترتبط بالحياة بحبل الأمومة، أبناءها الأربعة.

(*) إنعاش الذاكرة لفتح الصندوق الأسود هو ماتذهب إليه روايتك. فهل هو للقبض على لحظة مايجري بعد الموت؟
جدتي لأبي كانت تقول خذوا الحقيقة من أفواه الموتى، وكانت تقصد من هم على فراش الموت. الصندوق الأسود لذاكرتنا يفتح في تلك اللحظة بالذات. وبصدق، الموتى لا يكذبون. الغريب هو أننا حين نشرف على الموت تنشط الذاكرة بشكل سريع وكثيف، نستعيد الحياة كفيلم يبدأ من نهايته.
بالإضافة إلى نقل أجواء جائحة كوفيد 19، كلحظة مفصلية يعيشها العالم والموت بكورونا، حاولت أن ألتقط هذه اللحظة، فترة الإقامة في مكان مبهم وغامض. لحظة تتأرجح بين عالمين

عالم الموت وعالم الحياة. حسب تجربتي لموت إكلينيكي لا أحد يعود كاملًا بعد هذه التجربة، جزء منا يظل هناك فتسكننا رغبة جارفة للقبض على تلك اللحظة.
شخصيًا، يعجبني مثل هذا اللعب في عوالم من هذا القبيل. فالسرد في روايتي “الحياة من دوني” يقوده رماد امرأة من داخل جرة. وفي روايتي “ليالي الحرير”، الشخصيات كلها ميتة، وفصل كامل في الرواية نفسها تدور أحداثه في مقبرة مونبارناس.
لا شك أن حضور الموت في أعمالي الروائية يكاد يكون سورياليًا أكثر منه تعبيرًا عن قلق وجودي.

ترويض الموت
(*) من تصديرك للرواية، أنتِ في حالة خوف من الموت. هل الرواية دفاع عن الحياة؟
“كجثة في رواية بوليسية” رواية لا تهاب الموت، بل تحدق فيه، وتحاول ترويضه وجعله أليفًا عبر السرد. وما الكتابة عن الموت إلا محاولة  لترويضه وأَنْسَنته، بجعله شيئًا بديهيًا لا يستحق منا كل هذا الرعب. وهي أفضل طريقة لتجاوز التجربة الإنسانية الحالية، بسبب جائحة كورونا، وتجارب شخصية حدية ومضنية، بما في ذلك تجربة مجاورة الموت.
الكتابة السردية في هذا السياق غالبًا ما تستعين بالفانتازيا والغرائبية لبناء عوالم وفضاءات
الموت. الرواية تحدق في الموت ولا تخافه، رغم أنها كتبت في أجواء مخيفة، أجواء الموت والعزلة والأخبار التي تصلنا كل يوم عبر القنوات الفضائية، وضبابية المستقبل، وحتى الشك في الغد، والخوف المرعب من العدوى.
الخوف من شيء غامض، فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة، عدم اليقين في المستقبل، فقدان الإيمان بالأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، بالأنظمة الدولية، وحتى بالعلم. ليست الرواية هي التي تحاول المقاومة والدفاع عن الحياة. الكتابة في حد ذاتها دفاع عن الحياة، تشبث بالاستمرارية، وأبدية صغيرة لمن لا أبدية لهم.

(*) حاولتِ، وإن بجملة تهكمية، أن تقولي إن الموت يساوي بين الملك وخادمه، وبين المسؤولين والنجوم وسائر الناس. هل الموت لحظة انتقام، تنتقمين فيها لتحقيق العدالة؟
الموت في الرواية هو موت وبائي وجائحة عالمية. الساردة تتأمل مسار انتشار الفيروس، والإصابات التي بدأت من أعلى هرم المجتمع، انقلب السحر على الساحر. لأن  فيروس كوفيد 19 أعطى لكل فئة حقها في الموت، تسلل ومنذ البداية إلى داخل القصور والوزارات والمؤسسات الدولية وبيوت المشاهير والأغنياء، فيروس معولم وعادل. هربنا من الشوارع واختبأنا خلف جدران لم تحم أحدًا.

سرد الجثة
(*) تشيرين في جزء من الصندوق بعد حقنه وإنعاش الذاكرة إلى أنك نادمة، وأن المرأة، أُمًا وزوجةً، هي أَمَةٌ لأبيها ولزوجها وابنها وعن طواعية. كأن الأنثى هي ذاك الهندي الأحمر في أفلام الويسترن الذي يغتصبه ويقتله رجل الكاوبوي الأميركي. مقارنة ساخرة وأليمة. لماذا الندم؟ أهو تحقير للذكورة التي تتعالى على الأنوثة؟
للإشارة، لست أنا (الكاتبة) التي ندمت على تقبل علاقة أسرية استغلالية، إنما شخصية الرواية.
قصد الرواية ليس تحقير الذكورة، لأنني تربيت في حزب يساري، وأومن بأن المجتمع يتكونمن رجال ونساء، وأن المرأة والرجل في خندق واحد ضد الظلم والحروب والحيف الاجتماعي.. التفكير الذكوري الذي يحط من قدر المرأة موجود كذلك في العنصر النسوي. والرواية تشير لذلك من خلال الموقف العدائي غير المفهوم للمساعد الراقنة تجاه جثة المرأة.
قد يكون هذا إشارة إلى وضع المرأة داخل المجتمع البطريركي الذي يشبه العبودية المقنعة في بعض المجتمعات.
الجثة الشخصية الرئيسية التي تقود السرد في الرواية تجسيد لذلك الوعي القوي للمرأة، بواقع الحيف والتمييز الجنسي الذي يؤدي إلى شرخ مؤلم في شخصيتها، وينعكس في التباعد بين ما تعتقده المرأة وتؤمن به وبين ما تعيشه، تباعد بين العقل كمولد للأفكار، وبين الجسد الذي من مهامه تطبيق هذه الأفكار ولا يستطيع. إذ يقف عاجزًا أمام قمع المجتمع والدين والسياسة، عاجزًا أمام نصوص اجتماعية قمعية، ونصوص دينية زجرية، وقواعد سياسية وضعها الرجال كخطوط حمراء كي لا تتجاوزها المرأة.. هذا ما حاولت التعبير عنه في الرواية حين فصلت بين الجسد والروح، وتركت السرد لجثة تكاد تكون ملغية الحواس.
وقد تشمل الإشارة، كذلك، إلى الهنود الحمر، ما آل إليه العالم العربي من حروب ومحاولة الإبادة. ألا يبدو أننا كعرب أصبحنا، أو سنصبح، كالهنود الحمر؟

(*) لاحظتُ في الصراع الذي يقوم بين المقرر والمقررة المحققين مع الجثة أن المقررة تتهم المقرر بأنه تعاطف مع الجثة، فلقد انجذب إليها جنسيًا، فيدافع عن نفسه بأنه مخصي، وهو شرط قبوله في الخدمة. ما معنى هذا الترميز؟
إنها إشارة إلى الما بين الذي تنبني عليه الرواية، بين الموت والحياة، بين الذاكرة والنسيان، بين البوح والكتمان، بين الرجولة والأنوثة. ليست هنالك أنوثة كاملة، ولا ذكورة كاملة، وهو مثبت علميًا في علم الجينات. قد يكون الإخصاء إشارة إلى شيء أبعد من الرغبة، أو القدرة الجنسية.
تستهويني الفضاءات الغرائبية، وتعجبني الكتابة داخل الخط الفاصل، ذلك الما بين الملتبس: بين الغيبوبة واليقظة في روايتي “ليالي الحرير”، بين الجنون والعقل في روايتي “حفيدات جريتا جاربو”، بين الموت والحياة في روايتي “الحياة من دوني”، وبين ميتتين في هذه الرواية. أما شخصياتي فهي تلك الأشباح التي تتجول بين هذه العوالم.

(*) راويتك، وهي على سرير الموت، ورغم وفاتها متأثرة بفيروس كورونا، حسب تقرير الطبيب، لم تستسلم، وكأن ما جرى هو حلم، فتستيقظ على ضوء، ضوء حياة. أما تزال الحياة تغرينا لنعيشها؟
لا أعرف إن كانت الراوية تحلم، أو تحتضر. لا أعرف إن كانت ماتت، أو نجت من الموت في ما يخص النهايات، دعني أشاركك سؤالًا يلح علي دائمًا: لماذا يطلب من الكاتب أن يكون زارع أمل، لماذا نستهجن النهايات المحزنة، ويفرض الناشر، أو الناقد، على الكاتب نهاية سعيدة حتى لا يمرر سوداويته إلى القارئ، ومن ثم إلى المجتمع؟ في الأخير، ومع ذلك، سأستعير كلام الشاعر محمود درويش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.الوبائي. بصدق لا علم لي.
إن كلمة ضوء في الجملة الأخيرة هي إنقاذ للرواية من سوداوية غطت على مئة وعشرين صفحة.

  • عن موقع ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *