* عباس بيضون
إلى أختي
تحمل حدبة في ظهرها، كبيرة وبارزة كالجريمة. السماء هكذا صارت أعلى وكذلك الأشجار المنتصبة وأعمدة التلفون.
لم تتكلم عظامها، لم يرسل قلبها إشارة، عندما سقط كتفاها. أرادتها قوة غير منظورة أن تنخسف
لم تكن دمية لكنها التوت كخيط الدخان وصارت لعبة
جسدها انطوى ولم يعد بيتها. انه الآن كومة لا تعرف كيف تخرج منها. لقد سرقوه ولم تشعر. لم تسمع شيئاً في رأسها ينذرها.
تتأمل أن تكون هذه غيمة ركبت ظهرها، أو طاقية أخفتها عن العالم
انها تستدعي الآن غضبها لكنها تشعر انه التوى مثلها. تستدعي قشعريرة لكنها تحس انها قسمتها نصفين.
تفكر انها قد لا تكون الكلمة الأخيرة. تعرض نفسها على قضاتها العابسين لكنهم يخبرونها أن وقت العدالة، لهذه العائلة، لم يحن بعد.
لم يعد ذلك النهار الذي تقاسمناه حصصاً. تقاسمنا الشمس والبيت والفناء والغيوم. حصتكِ الأصغر قصمت ظهركِ،
لعبنا في الباحة، لكن عذاب الأشقاء يتأخر كثيراً. الماء الذي رميناه من النافذة سقط على حظنا. نجونا من العجلات، لكن خرجنا بحدبه وساقين مكسورين. وقت العدالة لم يحن لهذه العائلة.
الكاهنة
المرأة الصغيرة، ذبابة المنزل، بطول مكنستها. في الواقع تبدوان توأمين وتصلان متراقصتين إلى الدرج.
مع ذلك هي في ثيابها السود نوع من كاهنة. انها تؤاخي حشرات البيت. تحبس الفئران، بكلمة، في جحورها. تجبر الذباب على أن يختصر دوائره. تلقي الاسم الأعظم على هرة. تجمّد طيرا بإشارة وتقطع طريق نملة.
ماكينة الخياطة ماركة «سنجر» هي تقريباً ديرها. ما ان تنزل الإبرة في القماش حتى تبدأ شعرة الضوء، الصادرة من عينيها وجسمها، في تدوين ما تجد صعوبة أكبر في تسجيله.
انها تشرد بفكرها، إذ تخاف ان تبتعد عن البيت، اسم الله وحده يثبّتها فيه. تكرر اسم الله على النافذة وعلى كيس المؤونة، على خزانة الثياب وعلى عمود الفناء.
باضت ولدين، حين صارت لهما حراشف أخذا يتضاربان. صارا ضخمين حتى لم يعد في وسعها، هي المرأة الصغيرة، أن تفصل بينهما. مع ذلك آختها الأقدار، انها بثيابها السود متأهبة لها دائماً. الموت يرود حولها وهي تعرف بالضبط إلى أين يصل وأين يتجه.
ما ان تظلم حتى تجمع قطيعها في المأوى، والذي لا يعود تلحقه في الشوارع لكي لا يكون صيداً سهلاً.
إنها، في الواقع، قدر صغير يزداد ضآلة، ولم يعد في وسعه أن يحكم وسط هؤلاء الأشخاص الضخام. تنسى الاسم الأعظم وتغفل عن التعبّد على ماكنتها. في الواقع قدرها الصغير اسمه ترقق العظام.
صلاة لبداية الصقيع
احتاج إلى تلك الكلمة لأبدأ، وإلى نحلة لتنقلها. لن أجدها في هذا الوقت، كم حيا مات تحت البرد.
أفكر ان اصنع لها جناحين ورأسا بعينين في المقدمة وأطلقها. لكن البرد لا ينقل شيئاً.
أفكر بكل تلك النمال التي بادت مع مؤونتها، بالذباب الذي نفق في مكان ما، وربما خارج العالم.
انظر إلى تلك الغيمة البيضاء وأناديها، لكن الكلام يلتصق بأسناني.
الصقيع لا ينتقل بالكلمات والغيمة وحمة على جلد السماء، لن نستطيع بواسطتها ان نتزلج عليها، لن استطيع حتى أن أجد ثقباً لأختفي فيه.
أنا الوحيد الحي هذا الصباح. لقد أرقتّني هذه الفكرة، كان التلفزيون أمامي مليئاً بالأموات.
يمكنني مع ذلك أن أكون شاهداً، أن أكون تلك الغيمة البيضاء الثابتة على بطن السماء، يمكنني ان امتطيها. هناك كلمة لذلك لا اعرفها، كلمة لإحياء العالم.
ستكون النمال أول من يأتي. ستحمل لي ذبابة أغنية من هناك. ستجدني نحلة على آخر نَفَس، وهذه العبارة التي لم تفدني بشيء «الأزهار المريضة» ستكون هي الصديق الذي كلمني عن صداعه في التلفون.
ستمتلئ الغرفة بهذه الكائنات وسأجرّها كسفينة نوح.
لكن النحلة التي وجدتها ميتة في مرطبان المربى، قد تكون هي «الزهرة المريضة» ولن استطيع بكل المعجم الذي حصلته، أن اصنع عقاراً للشباب.
خارج الصفحة
يقرأ معي في الصفحة نفسها مع انه يعرف أن هذا عديم المعنى. يتبعني بعينيه لكن لست أكيداً من انه يتقصد الفهم.
ثمة شيء في الجو خارج الصفحة، وربما تحتها، بلا رائحة ولا لون ولا حجم. ظننت أن من السهل تغطيته بورقة كبيرة. من الممكن طرده بالقراءة، وكلمة بعد كلمة يصبح خارج المكان.
هو، بدون ان يشعر بي، لا يريد أن ينسى شيئاً تحت الكلمات، وهذا الأثير العديم الطعم، لا يريد أن يبعده.
انه يستمد وجوده تقريباً منه. هما لا يزنان، لكنهما هنا من أجلى.
لأنه ليس مأمونا تركي وحدي مع كتابي
ليس مأمونا تركي وحدي مع رأسي
أنا في العمر الذي لا تُعطى فيه السعادة كاملة، بل ممزوجة بهوامش وتعليقات تعكر فيها.
البارحة أمضيت منتصف الليل وأنا أخابط حموضة تهدد بأن تصعد من جوفي. لقد خابطنا معاً. استطعنا أبعادها لكنها معركتي أنا. رأسي وحده الذي نجا. فريقي اختفى كأنما كان ينوي إغراقي.
الصباح لم يكن سهلاً. لم أشعر بأنني كنت ألقي كتابي فوق حفرة. ثمة نمال كثيرة تحته وإكسير خفي في القاع.
لم اشعر بأن جزءاً من وجودي يتنشق غازاً ساماً وأن مرقدي مليء بالنمال.
عش في السقف
عش يسقط من السقف، يبقّع الأرض ويطبع عصفوراً عليها. السقف يهبط قليلاً ويتكثف السر في الهواء وفي الوقت. عندئذ ينطبق الكتاب. تختفي الفكرة التي نقلتني إلى هنا وأتغطى بجفوني.
يتجولون بين الموائد بأجنحة قصيرة. المفارش المطوية على أيديهم لا تجعلهم يطيرون، انهم يرتسمون على السقف ويعومون في الحجر.
العيدان تقف كالألغاز وتدخّن في الجو. يمشون في الكفّ ومن هناك يوجهون الأجراس، من هناك يثيرون أمطاراً ورياحاً وخطوات كبيرة فوق الصعيد. يتخبطون في الجملة العصبية والحبل الشوكي، وفي النهاية يطبعون الكف بكل إشاراته على الجدار ويدخلون منه.
السقف يهبط قليلاً ويلقي عشا آخر. انه يملك كل رموز القصة. الريح تدعوه لكنه كالكف، بأصابع قصيرة لا يستطيع أن يطير.
يتجولون بين الموائد. لكن العصافير تدوّي بين الأشجار حيث لا يزال نفر قليل لم ينصرفوا من التظاهرة.
شيء في الفم
أُصرّ كثيراً على أسناني
وأنا مطبق الفم في نومي
أظن ان ثمة شيئاً أقوله عند ذلك
أو انها معان لا كلام لها تتحطم
ثمة أفكار تحت جلدي
ومشاعر في كل مكان من جسدي
تعربد او تواصل حياتها الليلية
أتعجب من انني بعد أن أمضيت
طوال النهار
أطرد ذلك كلمة كلمة
مالئاً الهواء به
زافراً أياه من بين شفتي
يبقى كامناً في أحشائي
جيوب منه لم تتفرّغ
أعاني منها طيلة الليل
حينما تشتبك الألفاظ بالأسنان
أو تموت عليها
معان وربما ألحان
لا كلمات لها
تعربد في حنجرتي
_______
*السفير