دور الثقافة والمثقفين في تحصين الجبهة الداخلية

(ثقافات)

 

دور الثقافة والمثقفين في تحصين الجبهة الداخلية

(مقال إستعادي للأديب الراحل عدي مدانات)*

   الثقافة؛ معرفة وإبداعاً منتج العقل الجمعي، الأكثر سمواً ورهافة وجمالاً وغذاءً روحياً لأي جماعة، وتشمل الفنونَ الأدبية والتصويرية، في أطيافها كافة؛ شعراً، وسرداً روائيا وقصصياً، وموسيقى، ومسرحاً، ورسماً، ونحتاً، وتصويراً من اللقطة الواحدة الثابتة، إلى السينما المتحركة.. وتتسع لتضمَ البحوثَ العلمية والأدبية، والرؤى الفلسفة، بوصفها مقارباتٍ فكريةَ إبداعية لماهية الحياة والكون. وهي فاعلية معرفية عقلية وجمالية، تنبثق من مجموعة معارف المجتمع ومستوى تطورها عبر مراحل التاريخ، وبدورها تبني عليها وتزيد في زخمها، ويمثل ازدهارُها ازدهاراً للمجتمع بأسره، يعكس مدى تقدمه حضارياً.

    آن لنا أن نتعظ ونفيق من سباتنا، ونتخلى عن ترف الاسترخاء، وحصر اهتماماتنا ونقشاتنا بما هو دون معركة المصير الواحد، فالخطر الذي يتهددنا كياناً وطنياً وهوية وانتماءً يدق الأبواب، وما لم ننتبه وننزع عنّا غفلتنا ونشحذ همتنا ونحشد قوتنا ونرص صفوفنا، سنلحق درب الدول المفككة، والجماعات التي تفرّ من مناطقها لتبحث عن مأوى آمن. الخطر الذي كنّا نظنه وهمياً وزائلاً، صار حقيقة وخطف منا الأرض التي نقف عليها، ووجه حرابه إلى نحورنا وعقولنا. وبصرف النظر عمن أنشأه وأعطاه القوّة وحشد له الحشود؟ فإن البيئات العربية في ظل الحكام الذين انفردوا بالسلطة وتمسكوا بها واصطفوا نخباً من الأعوان، صارت ملاذا حاضنا للجهل والتطرف.

 والآن في ظل مناخ مدلهم، يرخي سدوله على الأمة جمعاء، تشتد الحاجة وتلح، لبناء جبهة وطنية جامعة لكل عناصر الصمود والمواجهة، من شأنها أن ترص الصفوف وتحشد كل القوى المعنية بمعالجة المحنة القائمة ونواحي القصور، لدرء الأخطار المصيرية وتأمين سلامة واستقلال الوطن وتمهد الطريق نحو مستقبل آمن ومستقر ومنتج. لا تستطيع القوى العسكرية والأمنية وحدها الضلوع بهذه المهمة وإنجازها، دون مشاركة قوى المجتمع النيرة، وإسهامها في جعل جبهة الدفاع عن الوطن موحدة وفاعلة. ولأن المعركة تدور رحاها بين الجهل والمعرفة، بين الحفاظ على الوطن وتعريضه للخطر فإن المثقفين يقفون في الطليعة، بيد أن منابرهم ضعيفة وأدوات إيصال أصواتهم إلى الجماهير محدودة.

   الثقافة؛ معرفة وإبداعاً منتج العقل الجمعي، الأكثر سمواً ورهافة وجمالاً وغذاءً روحياً لأي جماعة، وتشمل الفنونَ الأدبية والتصويرية، في أطيافها كافة؛ شعراً، وسرداً روائيا وقصصياً، وموسيقى، ومسرحاً، ورسماً، ونحتاً، وتصويراً من اللقطة الواحدة الثابتة، إلى السينما المتحركة.. وتتسع لتضمَ البحوثَ العلمية والأدبية، والرؤى الفلسفة، بوصفها مقارباتٍ فكريةَ إبداعية لماهية الحياة والكون. وهي فاعلية معرفية عقلية وجمالية، تنبثق من مجموعة معارف المجتمع ومستوى تطورها عبر مراحل التاريخ، وبدورها تبني عليها وتزيد في زخمها، ويمثل ازدهارُها ازدهاراً للمجتمع بأسره، يعكس مدى تقدمه حضارياً.

    تأهيل الثقافة وإشراكها في معركة التحرير والاستقلال والبناء، مهمتان حالتان وملحتان تقتضيان الخروج المؤسسي من حالة الركود واللامبالاة إلى التقنين المحفّز والراشد ؛ وهذه مهمة وطنية لا نزاع فيها وهدفُ حميد وكبير، وعناصرُه كلُها متوفرة؛ فلدينا تاريخ معرفي وثقافي حافل بكل نافع ومنير؛ ولدينا ومثقفون حاليون مبدعون على سوية عالية، وغزارة إنتاجٍ في مناحي الإبداع كافة؛ ولدينا وزارة ثقافة بدوائرها المتخصصة؛ ولدينا قانون رعاية الثقافة، وهو قانون طموح تتسع أهدافُه لتشملَ  قسطا ممّا نطمح إليه، إذا أُحسن تطبيقه؛ ولدينا نظام مكتبة عمان لسنة 2009 إذا فعّل، ولدينا المباني المؤهلة لاستيعاب مختلف النشاطات الثقافية: المركز الثقافي الملكي ومركز الحسين الثقافي وبيت تايكي وبيت الشعر والقرية  الثقافية في حدائق الملك حسين، ولدينا وزارتا التربية والتعليم، والتعليم العالي، وهما المكلفتان بتهيئة الناشئة لاستقبال الثقافة، فإن فعلتا أفادتا وإن أهملتا أصابتا مستقبل الثقافة بضربة، ولدينا رابطة الكتاب، ورابطة الفنانين التشكيليين، ونقابة الفنانين؛ وجمعية النقاد، والمنتدى الاشتراكي، والعديد من الجمعيات التي تحتفي بالنشاط الثقافي، ولدينا منبران للثقافة إضافيان: مؤسسة شومان، ودارة الفنون؛ ولدينا منابر الصحف بملاحقها الثقافية، وقبل وفوق هذا كلِه، لدينا تاريخ ثقافي غني، يفوق ما لدى العالم بأسره.

فأين المشكلة!

   في يقيني أنْ المشكلة قائمة منذ أمد طويل، تكمن في التجاهل الرسمي لدور الثقافة وإهمال وظيفتها بوصفها مكوّن أساسي وعقلاني من مكونات الدولة والمجتمع، والاكتفاء بتقديم المظهر على الجوهر، في حين تركز الدولة جهدها- دولة النخب والمنتفعين على محاباة أصحاب رأس المال، والزعم أن رعاية الثقافة مكلفة، وموارد الدولة شحيحة. الحجة هنا ضعيفة، فموارد الدولة تصرف بسخاء على مشاريع غير منتجة وزيادة الدخول المالية لمن ليس لهم من مشاركة في بناء الوطن سوى زيادة مداخيلهم بشتى الوسائل والحجج. رعاية الثقافة  إذا أخذنا ما لدينا من عناصر الثقافة مجتمعة وعقنا العزم، وأحسنا الإدارة، ووفرنا المظلة القانونية، فما ينقصنا هو الإرادة، والإدارة الحصيفة، والموارد المالية، وهذه العناصر تكفي، في حال أخذها مجتمعة، ونجحنا في إدارتها، فالحلول الجزئية لا تؤتي أكلها. وفي هذا الصدد، فإن العبء يقع على عاتق الجميع، أفراداً وروابطَ ثقافيةِ، وحكومةِ، ومؤسسات القطاع الخاص، فلكلٍّ دورُه وواجُبه في بناء الاستراتيجية الوطنية.

   يشير الواقع الملموس إلى أن حجم المتحقق على طريق بناء سياسة ثقافية جامعة لا يكفي، وأن أمر إنتاجها والتقدم بها، متروكٌ لنشاطات ومبادرات المثقفين وحدِهم، وهم رغم ضيق الحال وقلة الرعاية، فاعلون ومستمرون في العطاء، وما تقدمه وزارة الثقافة وأمانة عمان لا يكفي، كما أن الحاجة ملحّة لإشراك رأس المال الخاص في المساهمة بخلق بيئة ثقافية متسعة ومرنة وميسورة الحال.

   وإذا كانت التشريعات الناظمة للثقافة لا تشمل الجميع ولا تلزمهم، من حيث المساهمات المالية، فليصدر المزيد منها، لتوفير مظلة مالية كافية، فلا يجوز أن يترك من يحقق الأرباحَ الطائلة طليقاً، دون تحميله نصيباً من المسؤولية. وأشير في هذا الصدد إلى الشركات الأجنبية، التي منحناها خيراتَنا الوطنية، تفريطاً منا بحقوقنا، وإذ بها تحقق أرباحاً طائلة وترسلها إلى الخارج، فما يمنع من أن نُلزمُها بخدمة الوطن في نطاق الثقافة، بموجب قانون خاص. ولدينا الشركات الوطنية التي تجني أرباحها من جيوب الناس، فلن يضيرَها أن تساهمَ في تخصيص جزء يسير من أرباحها لخدمة غرض وطني جليل. إن لم يتحقق المطلوب طوعا،ً فليتحقق وفق القانون، لأن ضريبة الثقافة واجب وطني، فأين المشكلة؟

   مهمة بناء استراتيجية وطنية للثقافة، تحتاج إلى فريق عمل، وأبحاث مستفيضة، وتقارير عن مستوى الوعي العام، والمزاج الجماهيري، ومدى تقبله للمنتج الثقافي وإقباله عليه، وسعة الحاضنة الثقافية، ومصادر تمويلها، والأساليب المتبعة في ترويجها، وصولاً لتأسيس برنامجٍ فاعلٍ وميسّر، ولا يكفي في هذا السياق مقالٌ طموحٌ لصاحبِ رؤية فردية، إنما لا بد من جهد جماعي، ما يجعل المهمة الموكولة إليّ من الصعوبة بمكان.

   الثقافة منتج العقل الجمعي، الأكثر سمواً ورهافة وجمالاً وغذاءً روحياً لأي جماعة، وتشملُ الفنونَ الأدبية والتصويرية، في مناحيها كافة؛ شعراً، وسرداً قصصياً، وموسيقى، ومسرحاً، ورسماً، ونحتاً، وتصويراً من اللقطة الواحدة الثابتة، إلى السينما المتحركة.. وتتسع لتضمَ البحوثَ الأدبية، والرؤى الفلسفة، بوصفها مقارباتٍ فكريةَ إبداعية لماهية الحياة والكون. وهي فاعلية معرفية جمالية، تنبثق من مجموعة معارف المجتمع ومستوى تطوره، وبدورها تؤثر فيها، ويمثل ازدهارُها ازدهاراً للمجتمع بأسره، يعكس مدى تقدمه حضارياً.

   وإذا كانت العلوم عامة ترفع سوية العقل وإنتاجيته، وإذا كانت الزراعة تقدم الغذاء الجسدي، والصناعة تلبي متطلبات الحياة الأخرى، فإن الثقافةَ تسمو بالعقل والروح، وتجمّل الحياة، وتأتينا بالبهجة في أعلى مراتبها، والسكينة بعد اضطراب الفكر واعتكاره. الثقافة “لدينا” لا تجلب مردوداً مالياً، في حين أن إنتاجها يتطلب المال. المبدعون ليسوا من أصحاب المال، والإبداع ليس تجارتهم. الثقافة في العالم الرأسمالي المتطور سلعة، تتولى شركات رأسمالية أمر إنتاجها وترويجها بقصد تحقيق الربح، وفي هذه خطورة، لأن رأس المال إن امتلك سلعة ما، فإنه يحوّلها إلى تجارة تهدف إلى الربح. وإن تسخير الإبداع لصالح الربح، يؤدي إلى إفراغ الثقافة من مضمونها ورسالتها، ولتجنب هذا المصير، يتعيّن على الحكومة أن تعمل ما بوسعها، وأن تتحمل الجهد كله، وأن تفرض على الشركات والمؤسسات الربحية، الإسهام في دعم الثقافة، لا تحويلها إلى سلعة ربحية، فضريبة المواطنة تقضي بذلك، ويتعيّن على من يكسب المال بالتجارة، ويتغذى من قوت الشعب، أن يعطي الشعب حقَه في تمويل ثقافته.

    الحضارة العربية الإسلامية ضاربة في عمق التاريخ، ويحق لنا أن نفاخر بأن خزائننا الثقافية امتلأت عبر مراحل عدة من تاريخ أمتنا، بكل رائع ومتقدم ومفيد، حتى إنها لم تترك باباً إلاّ ولجته وأبدعت فيه. وليس بدعة أن نقول، إننا زودنا العالم أجمع بما أبدعنا، وأسهمنا في بناء حضارته، فالشواهد لا تُحصى. غير أننا للأسف، في حين أن الغرب أخذ ما لدينا وصيّره منتجاً من حضارته، نزعنا عباءاتنا وتلفحنا بثقافة الاستهلاك، هذا المنتج الرأسمالي الماسح للعقول، في خدمة الجشع المتزايد للرأسمالية، التي بلغت ذروتها في التحكم بمصائر الشعوب، ومصادرة حقها في بناء اقتصاد وثقافة وطنيين.

   ولو عدنا إلى تاريخنا لوجدنا أن أمتنا العظيمة فاقت غيرها، في إنتاج الثقافة – الشعر منها على وجه الخصوص- حتى بلغ بها الحالُ حدَ المفاخرة به، كأحد مكوناتها بوصفها أمةَ الشعر ومرسلتَه كجريان الماء، وصارت القصائد قلادات مفاخرة، ترتحل في أرجاء الجزيرة العربية، وتتبارى في الجودة، وفي جمالِ الصورة، وسعةِ الدلالة وتعددهاِ، وصار لكل قومٍ شاعُرهم أو مجموعة شعرائهم، وصارت القصائد جامعاً للناس على اختلاف لهجاتهم وتباعد أطرافهم، وبلغت بهم الحال، في مفاخرتهم بها، أن أقاموا لها أنصاباً في مكة، يفدون إليها من الأطراف كافة، حتى صارت المعلقات، وهي سبعٌ في قول وعشرٌ في قول آخر، مفخرةً للعرب كلهم. وتكفي إعادة قراءة معلقة طرفة بن العبد، الذي قُتل وهو في مطلع العشرينات من عمره، لنرى فيها، ليس قوة انسياب الكلام وجزالة المعنى وتدفق الموسيقى وحسب، إنما جمال الصور وتتابعها أيضاً، وهو يرصد حركة الخيول، على نحو يمكّن القارئ من الحصول على وجبة جمالية متكاملة.

وماذا نقول في شعر الصعاليك، وهم من نبذوا مجتمعهم، ومصير من ينبذ مجتمعَه، أن يصير إلى هزال وافتقار معيشي ومعرفي وروحي؟ لكن الأمر في حالتنا جرى على غير المألوف، بتفوق قصائدِهم على غيرها، حتى صارت من مفاخر الجميع، وهذه “لاميّة” الشنفرى، وقصائد عروة بن الورد وآخرين كثر، تحتل أفضلَ ما أنتجنا في تاريخنا، فهي دررٌ تنتقل من جيل إلى جيل ولا تفقد شيئاً من لمعانها. ولعلّ في مجلس سكينة بنت الحسين، الذي جمع الشعراء والمغنين والملحنين، ما يعزز الاحترام الذي كَنَّهُ أجدادنا لبدائع الشعر والغناء وصوت العود، ما رفع منسوبَ الذائقة الجمالية لديهم.

وإذا تدرجنا في تتبع مكانة الشعر، والمقام هنا ليس هذا المقام، فسنصل إلى مجالس الملوك، وهذا رأس الدولة، سيف الدولة يفتح صدره لمجالس الشعر، ويتصدى للروم في آن واحد، وها هو المتنبي في مجلسه، يعاتبه إن لمس ميلَه لغيرِه، كما لو كانا قرينان ، وليسا ملكاً وواحداً من الرعية. سُئل دوجانس على قول أبي حيان التوحيدي: “متى تطيب الدنيا؟”، فأجاب: “إذا تفلسف ملوكها، وملك فلاسفتها”. لنا في الفلسفة باع طويل، وهذا ابن الفارض والحلاّج، وابن العربي، وابن خلدون، وأبو حيان التوحيدي، وحبل أمثالهم طويل، يمتد ليصل بنا إلى حضارة الأندلس، وما فيها من طلاقة الفكر وعمق الفلسفة ورقة الشعر، ما فاق بكثير ما بلغه الغربُ عبر تاريخِه كلِه.

* كتب المقال بتاريخ 25-11- 2014

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *