مُدن مغاربية: هل تنقذ الكتابة ما ضاع من جمال الأمكنة؟

*سعيد هادف

في العدد الماضي (الأسبوع المغاربي، العدد 83)، حول ملف المدينة في جزئه الثاني، تناول مصطفى قطبي (باحث وإعلامي مغربي) أزمة الهوية المعمارية في المغرب ورأى “أن ضعف الأداء المعماري أدى إلى طغيان التنافر البصري، ونجد هذا واضحاً ليس في المدن المعاصرة فقط بل حتى في المدن التاريخية أو الأثرية القديمة، نتيجة لهجوم البنايات الإسمنتية ذات الألوان والأشكال الهندسية “الغربية” التي أثرت على طابع تلك المدن التي امتاز بعضها بالقدسية الدينية، وإقحامها في قلب النسيج العمراني بلا أية ضوابط”، وحول واقع الهندسة المعمارية في المغرب م يقر “أنّ تدريس الهندسة المعمارية في المغرب يعيش وضعا حرجاً، وحتى بعض البلدان الأوروبية التي كانت تحتضن الطلبة لتمدنا ببضع مهندسين معماريين… لم تعد تقبل حاملي شهادة البكالوريا المغربية بحجة انخفاض مستواها”، ليخلص إلى “أنّ البلدان في الوقت الراهن تبني اقتصادياتها على الصورة المعاصرة للمدن، وليس فقط على ثرواتهم المادية، لذلك فهي تولي عناية خاصة بخصوصيات الهندسة المعمارية… إننا بالفعل أمام مفارقة عجيبة، يتعين على الجميع مواجهتها حتى ننقذ مستقبل مدننا وهويتنا المعمارية”. أما الكاتب الجزائري، الناقد في المجال الأدبي وأحد الأطر السياسية سابقا في صفوف اليسار الجزائري، الأستاذ مخلوف عامر، استعاد في مقاله، ذاكرة مدينة سعيدة ودورها النضالي منذ مقاومة الأمير عبد القادر، ودورها الثقافي من حيث أنها ظلت تمثل “نهضة ثقافية متنوِّعة”، في المسرح والسينما والأنشطة الثقافية والفنية، وكانت المدينة المفضلة لدى الراحل عبد القادر علولة في العرض الأول لمسرحياته. “كان الناس يتردَّدون على المؤسَّسات الثقافية للمطالعة، ويتداولون فيما بينهم الكتب إذ كانت نادرة أو ممنوعة. يلتهمونها بشغف ويبحثون عن أخرى. فأمَّا الجامعة الشعبية فكانت تدرِّس مجاناً بفضل أساتذة متطوِّعين، وتنظِّم نشاطات مختلفة”.

كانت سعيدة منفى بشير حاج علي، أحد أبرز المثقفين اليساريين، واستضافت وجوهاً بارزة من داخل الوطن وخارجه، “ولما اقترحت جهات لبنانية أن يكون يوم اغتيال المفكِّر(حسين مروة) يوماً للمثقف العربي، كانت سعيدة هي الوحيدة التي بادرت بإحياء الذكرى الأولى”.

وينهي الأستاذ مخلوف مقاله بالقول أن “سعيدة التي يجري اسمُها على سائر الألسنة جَريانَ مائها المعدني، لا يبدو أنها سعيدة كما يوهِمُ اسمُها. فقد ضاعت منطقتُها الصناعية الواعدة، وتراجع فيها الفعل الثقافي حدّ التصحُّر، شوارعها مليئة بالحُفَر، والمُمَهِّلاتُ فيها لا تخضع لمقاييس مُوحَّدة. واتّسعت أكثر ولكن، لا يستوقفك فيها إلا تراكم الإسمنت المسلَّح، مثلما تَسَلَّح بعض الجُهَّال بـ”الشكارة” ليمثِّلوها في أعلى الهيْئات، فهي اليوم أبداً لا تُشْبه البارحة”.

الدكتور محمد قصيبات، الباحث والشاعر والمترجم الليبي الذي طوف في آفاق عدة مدن يرى أن “المدن كالبشر تكبرُ وتتغيرُ … تحب وتقسو …لكنها تترك في قلوبِنا وأرواحنا أثارا وجراحًا ونترك نحنُ فيها آثار خطواتنا”.

في سرديته شديدة الاختزال والكثافة، استعاد علاقته بالمدن منذ غادر مدينته الأولى بنغازي و”لأن للزمن دوائر فإن القلبَ يعود حتما (طوعا أو كرها) إلى حُبه الأول ولكن كم من الأعوام تمضي حتى يقول المرءُ أنه غاب طويلا؟”

لا شك أن الشاعر قصيبات وهو يستعيد سيرة مدنه، ولاسيما سيرة مدينته الأولى بكثير من الشوق كان تحت إيقاع الزمن الليبي الراهن وهو يلملم ملامحه المتنافرة بحثا عن شروط تناسقه وانسجامه.

محمد داود، الأكاديمي والباحث الجزائري، فضل أن يكتب عن وهران كفضاء هوت إليه أفئدة كثير من  “الأدباء الذين تفننوا في التعبير عنها (…) فمدينة وهران التي عرفت تاريخا طويلا امتد من فترة تأسيسها من قبل تجار أندلسيين سنة 902 إلى الآن مرورا بالتواجد الاسباني ثم التركي فالفرنسي، هي مدينة التنوع الثقافي والتهجين اللغوي، مما أكسبها طابعا مميزا. وزاد من بهائها تلك الجغرافية الخلابة وموقعها الاستراتيجي على ضفاف البحر الأبيض المتوسط وجبلها “المرجاجو”وهضبة مولاي عبد القادر الجيلاني وحيها العتيق “سيدي الهواري” وغاباتها المتعددة و كورنيشها الفاتن”. هذه الفضاء انعكس في العديد من الأعمال الروائية و الدواوين الشعرية وفي فنون التعبير من أغاني شعبية ورسوم و أمثال و قصص خيالية. وأعطى الأستاذ داود مثلا بإيمانويل روبلس، جول فيرن، عبد القادر جمعي، الحبيب السائح، لعرج واسيني، ألبير كامو. وفي سياق حديثه عن رواية الطاعون التي كانت وهران مسرح شخوصها تطرق إلى رواية “طير الليل” لعمارة لخوص.

عبد الرحمان غندور، المثقف والمناضل والحقوقي  اليساري المغربي، الذي وضع تجربته النضالية تحت مجهر التأمل منذ أعوام، وجد ملاذه في اللون والكتابة التأملية، فاستعاد أمكنة عديدة في مقالات مفعمة بالمشاعر مشفوعة بلوحات تشكيلية جميلة مستثمرا موهبته في الرسم. في مقاله، وقف عند شجرة الكرز، ومدينة صفرو التي اكتشف أسرار سحرها أواخر سنة 1974 بعد التحاقه بفاس كمدرس لمادة الفلسفة. “ارتبطت بمدينة صفرو، يقول الأستاذ غندور، ارتباطا نضاليا وثقافيا أول الأمر، من خلال الزيارات المتوالية للتأطير والتكوين، والحملات الانتخابية، والمحاضرات والندوات الثقافية، جعلتني أحظى بصداقات وعلاقات إنسانية عميقة (…) ومن خلال هذا الارتباط اكتشفت في مدينة صفرو وضواحيها منجما هائلا للجمال الذي يزركش بهاء طبيعتها، ويجعلك تعشقها بدون تردد، لا سيما وهي الموطن الرئيسي لفاكهة الكرز، حب الملوك، الشجرة التي يقام لها عرس موسمي كل سنة”.

يوثق الأستاذ غندور لحظاته العميقة مع هذه المدينة بكثير من مشاعر الحب والأسف، لينهي مقاله بالقول “من مخزون الذاكرة البصرية والوجدانية، أسترجع في هذه الخربشة، شجرة الكرز كما تمثلتها ذات ربيع، وكل ربيع، متمنيا لإخواني بصفرو والنواحي من قدماء المناضلين، ولأخواتي وإخواني في شبكة القراءة بالمغرب، مزيدا من الوفاء لجمالية علاقاتنا الانسانية، كوفاء شجرة الكرز لمواعيدها، وهي تهبنا جمالها الفاتن كل ربيع”.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *