فصول من سيرة زماننا

  • نبيل عبدالفتاح

تبدو كتابة السيرة الذاتية، ومحمولاتها الموضوعية، عن وقائع وظواهر السياسة، والاجتماع الانسانى، فى الأدب العربى محدودة، مقارنة بالتراث السيرى الغربى، خاصة التى تتسم بالجرأة، والبوح، والصدق الذى يصل إلى حد كشف الذات، ودخائلها، وأسرارها. الكتابة الكاشفة عن الأسرة، والتنشئة الاجتماعية، والتكوين، والحياة الموازية من عشق، وممارساته حواسية وجنسية، وقلق دينى، تبدو محدودة فى السير التى كتبت، من السياسيين، والمثقفين، والشعراء والادباء. الغالبُ هو نزعة التحفظ والكتمان، والانصياع إلى النواميس السائدة، والميل إلى تبرير سلوكيات الكاتب، وأفكاره، وتحولاته الفكرية، والأيديولوجية، وعلاقاته بالسلطة، أو جماعة الرفاق، أو الأحزاب السرية، أو العلنية، أى نمط من دفاع النهايات عن حياة الذات العلنية! نادرة كتابات الكشف والتعرية للذات الساردة أمام الآخرين –القراء-، ولعل من أبرزها أيام طه حسين المتقشفة والمحافظة، والأكثر جرأة وتحديا للتقاليد، وانكشافا للذات تمثلت فى الخبز الحافى للمغربى محمد شكرى، مرورًا بأوارق العمر، وسنوات التكوين، للويس عوض حيث انطوت على بعض من الجرأة، إلى جلال أمين، ماذا علمتنى الحياة، ورحيق العمر، ومحمد أبو الغار على هامش الرحلة . لا شك أن السير الذاتية فى الأدب العربى المعاصر هى الأقرب إلى دفاع الذات الساردة عن ذاتها، ويغلب عليها التبرير لاسيما من السياسيين. تحولت السير الذاتية مؤخرًا إلى موضة كتابية، مثل موضات نظام الزى، لكنها لا تزال تدور فى مدارات التبرير وتحسين صورة الذات فى حياتها، وفى السياسة بقطع النظر عن قيمة الذات الساردة، ودورها، وفعلها فى الحياة والسياسة والكتابة، والبحث.. إلخ!

من الكتب السيرية كتابة محمود الوردانى الروائى والقاص البارز الإمساك بالقمر.. فصول من سيرة زماننا، يبدو عنوان الكتاب دالا على متنه وموضوعه، وهو الميتا حلم السياسى والثقافى للكاتب وجيله، وهو السعى للإمساك بالقمر فى علاه، وهو تعبير عن المثال الذى راود مثقفى هذا الجيل على قلتهم، وهو مجاز على حلم بدا لبعضهم وكأنه قابل للتحقيق، والانفلات من قهر السنين، وتخلف بلادهم التاريخى المركب. لا لم يكن حلما كان ما بعد الحلم السياسى والحضارى، ورغبة هذا الجيل فى تجاوز الواقع المأزوم –هزيمة يونيو، والسعى إلى تحرير الأراضى المحتلة-، من هنا تمرد هذا الجيل السبعينى على النظام. حضرت نوستالجا الرفض، كعلامة فى قلب الذاكرة التاريخية للكاتب القدير، الذى انتقل فى سلاسة سردية من السياسى إلى الثقافى، ومن المزاوجة بين الذاتى، والعام، والمتداخل فيما بينهما، ومن أبرز معالم هذه السيرة أو بعض منها، هو تناول أدوار شخصيات بارزة فى مسار الثقافة المصرية من الستينيات إلى السبعينيات وما بعد، من أهمها تناول الدور البارز الذى لعبه الكاتب الكبير عبدالفتاح الجمل، فى تقديم الدرر اللامعة للكتاب الموهوبين المبشرين، وذلك على الرغم من القيود، والمضايقات، والإشارة إلى كتاباته المهمة. من ناحية آخرى إشارته إلى تمرد هذا الجيل من الكتاب والشعراء والنقاد على السلطة الثقافية الرسمية، والصحف التى كانت تشيع التسطح، ومن هنا كان التمايز بين هذا الجيل، وبين كتاب السلطة، من خلال ما اسماه “ثورة الماستر”، أى المجلات التى كانت تصدر متقشفة الشكل، وجادة المحتوى فى هذه الفترة، ودورها فى بلورة ملامح أولى لهذا الجيل وكتابه ونقاده. تبدو الكتابة عن هذه الشخصيات الموهوبة والملهمة، فى بعض من سيرة زماننا مغزولة بالمحبة والتقدير، والغفران من الكاتب، وتمثل إعادة تحيين للذاكرة الثقافية بالأباء الكبار فى الهامش الثقافى، الذين استطاعوا بناء عوالمهم الخاصة والعامة كما شاءوا فى ظل القيود المفروضة على المجال العام، وكراهية النظام للابداع والمبدعين، والرؤى المغايرة والابداعات المختلفة عما هو سائد من ركاكة! ثمة تداخل بين السرد الذاتى الشفيف، وبيت الرفيقة نعمات –والدته- المصرية الأصيلة الذى كان بيتها مفتوحا على مصراعيه لاصدقاء الكاتب وأخيه المثقف البارز عبدالعظيم الوردانى، وكذلك ركز الكاتب القدير على المسارات السياسية المضطربة، وعالم فضاءات الخوف الذى كان سائدًا أيام السادات ضد معارضيه، من الوشاة إلى عمليات القبض، والاعتقال، والتحقيقات، والهروب، فى سلاسة، وسرد يحيلك إلى هذه الأجواء من الخوف والشجاعة، والتمرد داخل السجون.

عالم خاص مشوب بالتوتر والغضب. إلى إشارته لعمله مدرسا، فى القاهرة، والوادى الجديد، والقبض عليه، وزوجته الفاضلة هناك. إشارات إلى عالم المنظمات اليسارية السرية، وبعض أجوائها دون إفصاح على الرغم من نهايتها، لكنها بقايا الانضباط التنظيمى القديم تبدو مستمرة !. كتابة من سيرة زمان الكاتب، وزماننا، أيضا جزءً من فصول سيرته الذاتية غير المكتملة، حيث المزج بين الخاص والعام، فى لغة مشرقة وشيقة وسلسة على الرغم من انها تستمد نسغها من ذاكرة الألم. استطاع الكاتب الحر أن يتجاوز الألم، فى سرده وارائه السياسية عن هذه المرحلة، وتهسهس لغته فى شعرية هامسة وناعمة فى نصوصه، فيما وراء سرده لعلاقته بزوجته الفاضلة، ووالدته الرفيقة نعمات، وحنانها الشخصى معه، والعام مع رفاقه واصدقائه فى بيتها المفتوح عن سعة لصداقات ابنيها محمود، وعبدالعظيم الوردانى، وأيضا فى إلماعاته عن عسر الحياة لهذا الجيل، وطعم الونس والأنس المتقشف فى لذائذه، ومتعه السريعة.

  • عن الأهرام العربي

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *