هلوَسَاتٌ بعينٍ نصف مُغْمَضَة

(ثقافات)

هلوَسَاتٌ بعينٍ نصف مُغْمَضَة

قصَّة قصيرة

الأديب السُّوري موسى رحوم عبَّاس

    على شاطئ هذه البحيرة الفاتنة في البلاد البعيدة تنقرُ العصافير في صحني، نتقاسم ” المنقوشة” فيتناثرُ الزَّعتر على جانِبَي الصَّحن، تقتربُ منِّي، تسابقني على لقمتي، فإذا سبقتني؛ ترفرفُ جَذْلى بانتصارها عَلَيَّ، تزقزقُ كأنَّها تضحكُ، ربما لم تَرَ ما يسيلُ من عيني، لا تعرف أنَّ عصافيرَ الشَّرقِ، وقططه، وكلابه، تهربُ مِنِّي، لا تقتربُ حتى لو نثرتُ له الحَبَّ والطَّعامَ، كأنَّها اكتشفتْ سِرِّي، تعرف ما تخبئه الفخُّ من خفايا الموت اختناقًا، تدركُ وَلَعَنا بالإعدامِ والمقاصلِ، تهربُ العصافيرُ واليمَامُ بعيدا، لكن مقاليعنا تلاحقها؛ لتسقطَها صرعى، … عفوا!!

–  لم أسمعْكِ، روز، هل تعيدين ما كنتِ تقولينه؟

–  لم أقلْ شيئا، يمكنكَ متابعةَ هلوساتِكَ!

كانتْ صديقتي رُوزماري ، ابنة الإلب وثلوجه، وأناديها دائما رُوز،  تراني طفلا كبيرا، لم أشعرْ بالارتياح لهذا، حاولتُ الهروبَ منها، مرَّة أغلقتُ هاتفي، ونمتُ في الحديقة العامَّة مع عدد من أصدقائي المُشرَّدين، لكنَّها سرعان ما وصلتْ إليَّ، فهي تعرف ولعي بالموسيقا، لذا حددت الزَّاوية التي يمكن أن أكونَ فيها قُبَالة الفرقة الأفريقية للجاز على دوار الكنيسة، قالت لي يومها – وهي تضحكُ –  تختبئُ عندَ بابِ بيتِ الرَّبِّ لعَلَّهُ يَرْأفُ بك! وفي المرَّة الثانية اختبأتُ في الخزانة، والثالثة كنتُ أطعمُ السَّلاحفَ أوراقَ الخَسِّ قرب النَّهر، والرَّابعة بقيتُ ليلتي في المكتبة العامَّة بعد أنْ خدعتُهم، فأغلقوا الأبواب ظنًّا منهم أنَّني غادرتُ فنمتُ ليلتي بين أصحاب الكتب الأموات غالبا… لا جديد فنحن نعيش مع الأموات غالبا، وهم يعيشون معنا!

اصطحبتني روز إلى أحد الملاهي الصَّاخبة، قالت لي هذا مصنع الفرح، شدَّتني من يدي بقوَّة لساحة الرَّقص، تمايلتْ بشدةٍ، هصرتني إلى صدرها، كان العالمُ يميل بي كأرجوحةٍ، وكان صدرُها حقلًا من رُمَّان حَلَب[i]، لكنَّ روحي كانتْ تفرُّ مني إلى جهة أخرى عائدةً كطيرٍ مُهاجرٍ ضَلَّ سِرْبه، أنقذتني من هذا المأزقِ المُشاجرةُ الكبيرةُ بين عددٍ من الرُّوس الثَّملين وآخرين من أوكرانيا، لم أفهم شتائمهم، لكنَّهم كانوا يتكلمون عن الاحتلال والأرض وتلك القضايا التي كانتْ تشغل سهراتنا القديمة وهتافاتنا في عيد الاستقلال، كنتُ أضحكُ وأقهقه بصوتٍ جنوني، بينما روز تغلقُ فمي بكفِّها، وأنا أحاول إبعادها؛ لأتنفسَ، وحسب، تسألني عن أسباب ضحكي المجنون هذا! أقول لها هذه الأرض التَّعيسة تدور حول نفسها ، هل هذا صحيح؟

– وما الجديد؟ هل اخترعتَ الذَّرَّة؟

– فقط أجيبي.

– نعم، يا سيدي تدورُ كلَّ أربع وعشرين ساعة؛ ليتعاقب الليلُ والنَّهارُ، هل أنتَ سعيدٌ بهذا الكشف العلميِّ الفذِّ الآن؟!

 لم أكترث لنبرة السُّخرية في إجابتها، تابعتُ، هي تدور فتقذفنا نحن الملعونين ومن طحنتْهُمْ أحلامُهم على حَوافِّها، تصطدمُ رؤوسنا بها، تسيلُ دماؤنا على أرضها، نفقأ عيونَ بعضنا، نحاربُ بسيوفنا وحرابنا وسيوف الآخرين وحرابهم ، نشعلُ الحرائقَ في بيوتِنا ورؤوسنا، نقترفُ الخياناتِ والدَّسائسَ المُتبادلة، وهنالك من يبقى في المركز هانئًا سعيدًا يشربُ نَخْبَ انتصاراته علينا، هو ثابتٌ رغم دوران كوكبنا التَّعيس! المركزُ ثابتٌ، الهامشُ يدورُ، تضحك رُوز، وترفع يديها للأعلى، تقول: الله، الله، إنجازٌ عبقريٌّ في علوم فيزياء الكواكب،  كيف فَرَّطَتْ بك بلادُك؟! فأجيبها ساخرًا، بل لهذا أنا هنا على ضفة بحيرتكم، أصدقائي الحَمَامُ والكلابُ! مرَّتْ عبارتي الأخيرة دون احتجاج، فروز تُحِبُّ الكلابَ، ولا تراها إهانةً ألبتَّةَ!

المسكينة رُوز كانتْ تسندني إلى كتفها، تحاولُ إبعادي عن بحيرة الدِّماء التي غطت أرض الحانة مُختلطةً ببقايا الزُّجاجِ المطحونِ بعد أنْ حوَّله أولئك القانعون بعدالة قضاياهم إلى سلاح فتَّاك، فغرسوه في نُحورِ بعضهم، وبينما هي تلتقط أنفاسها على الرَّصيفِ المقابل بجوار سُورِ البحيرة الذي تغطِّيه الزُّهورُ، كنتُ أزحفُ؛ لأصلَ تلك الزَّاوية التي أعرفها جيدا، لأقطفَ ثلاث زهراتٍ من الأوركيديا السَّوداء ذات الملمس المُخْمَلي، كنتُ أتمنَّى أنَّني عرفتها سابقا، وزرعتها في شرفة بيتي الذي أحرقته الطائراتُ، فهي تليق به، عندما رفعت روز رأسها كانت عيوننا تلتقي بانكسار، كنتُ أقدِّم لها أزهار الأوركيديا السَّوداء، وهي تقترب مني بحنوٍّ ودفءٍ ، ربَّما كانتْ تقولُ في سِرِّها، أنتَ كائنٌ عَصِيٌّ على الفرحِ! بينما كنتُ أراها  بعينٍ نصف مُغمضة!ِ

[i] المدينة الثانية في سوريا، وهي العاصمة التجارية للبلاد، وتقع على طريق الحرير

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *