* محمود الريماوي
إلى إبراهيم أولحيان
يجلس في الصف الأمامي من المقهى على مبعدة مترين من رصيف المشاة.عرفه الزائر الراوي ما إن لمحه. بدا أصغر من سنّه بنحو عشر سنوات، ولون سحنته رمادي على أبيض بلون ملابسه غير المتأنقة، ويشبه صُوَره بعض الشبه مع محاكاة لهيئة شبح مسرحي شيكسبيري. تقدّمنا منه، وقدّمني صديقي إليه ساعة الغروب فصافحني بتهذيب ونظرات غائمة، وكذلك فعل رفيقه ضخم البنية. جلسنا وراءهما في الصف الثاني من المقاعد. حين لمحته وحتى خلال المصافحة لاحظتُه غارقاً في أفكاره.. ذكرياته، سوانحه، والآن في جلستي وراءه فإن جذعه يبدو منحدراً للأسفل، ورأسه غارقة في رقبته، وقامته الطويلة غاطسة في ملابسه الشتوية، كمن يستطيب الغرق.. يستدفىء به أمام الأنسام الباردة لنهاية الخريف، أو أنه لا يبالي به. وفيما ارتشفتُ الشاي الأخضر بهناء، وتبادلت مع صديقي الحديث حول المقهى والداخلين إليه نساء ورجالاً من شتى الأعمار ممن يبثّون رسائل مختلطة، وحول ما يحدث في الساحة ساحة جامع الفنا بمراكش أمامنا، فقد اعتصم هو ورفيقه بالصمت. لم يتبادلا في واقع الأمر كلمة واحدة طيلة أربعين دقيقة وأكثر، ولا التفت أحدهما للآخر، ربما فعلا هذا كثيراً قبل مجيئنا، واستنفذا الحديث «المخصص» لهذه الجلسة. لم أبُح بملاحظتي لصديقي. وددتُ رؤية الرجل بعينيّ، والخروج بانطباعي الخاص دونما استعانة بصديقي الذكي، الذي يعرفه معرفة جيدة.
لا تسرّني مراقبتي لغيري، بيد أن الموقف حتّم ما يحدث. فأنا أراه لأول مرة، وربما (مدفوعاً بنزعتي التشاؤمية) لن أراه مرة ثانية، وأية مراقبة هذه من بُعد ومن الخلف.. سمعت عنه وقرأت له الكثير، وقد فوجئتُ بوجوده، واجتهدت أن أبدو طبيعياً أمامه لدى المصافحة، وفي جلستي وراءه في الصف الثاني للمقهى التي علمت أنه يواظب على ارتياده. وقد ساعدني هو من دون قصد فهيئتي لم تعْنِ له شيئا البتّة، وكذلك اسمي. حتى إنه لم يعمد الى مجاملة صديقي (ذلك مجرد أسلوب، وليس موقفاً سلبياً)، فهل كان سيفعل مع طارىء غريب الهيئة؟.
لكم أتوجس ممن يطيلون الصمت في الأمكنة العامة، وقد حدث ــ ابتداء من مخافتنا التسبب بإزعاجه ــ أن انتقلتْ عدوى الصمت تدريجياً إلينا صديقي وأنا. واستعنّا بطلب فنجان قهوة «كحلاء» لكلّ منا لمشاغلة الصمت الذي حلّ ضيفاً صارماً. وأخذتُ من ناحيتي أراقب حلقة حكواتي غير بعيدة في الساحة .» إنه يرتجل التمثيل، التشخيص في كل مرة يحكي فيها»، كما أعلمني صديقي قبل دخولنا المكان. لكم تمنيت أن أطلق طاقتي التمثيلية الحبيسة، بيد أنني محض متفرج يُخفق في المعاينة، وينأى خلال الفرجة بعيداً ويسرح في الملكوت: الناسوت واللاهوت. بينما أفراد الحلقات لا يرتضون الجلوس متفرجين، فلا يتركون لأقرانهم وحدهم مهنة الجسد المتكلم والمُشَخِصّ. أتعس أطفال الحي والمدرسة، وأدعاهم للشفقة هم من يُحكم عليهم بدور المتفرج في أية لعبة ناطقة، أو حركية. الفرجة عقاب لهم وعليهم. وجدتُ بهذا أمراً مشتركاً بيننا، فالرجل أمامي ثابت لا يريم متجمدٌ في جلسته، ورفيقه يُشايعه ويفعل مثله. حتى أنه زاهد في الحِسّيات الأوليّة: لا يتناول مشروباً ولا يدخن مثلي، وحسناً يفعل.
للأسف، كان لا بد من المغادرة. اقترح ذلك صديقي ووافقته على الضد من رغبتي في مواصلة الجلوس لمجرد الجلوس، وترقّب ماذا سيفعل الرجل المُهم.
غادرْنا، حييّناه فأومأ برأسه.
وأنبأني صديقي إبراهيم لدى خروجنا أن الرجل لم يعد غريباً أجنبياً، فقد امتدّت إقامته الدائمة هنا منذ سنة 1975، سألته : في المقهى؟ أجاب: لا ، في البلاد .. ووصَفَه بأنه « يتحدث الدارجة مثلنا «. فصارحته: إنه يصمُت مثل صمت أهل البلاد، ولصمته صوت يكاد يكون مسموعاً.
حانت مني ــ ولم نكن قد ابتعدنا كثيراً ــ التفاتة إلى الوراء، إليهما، فإذا هما يتبادلان حديثاً يكاد يكون غاضباً، قلت لإبراهيم: انظُر. نظر، واستغرب لكن بدرجة أقل من استغرابي. بدا المشهد أشبه بخلاف عائلي، وأنهما انتظرا مغادرتنا كي ينفجرا ببعضهما. ووصف صديقي الرجل المُهم خوان بأنه نبيلٌ ومزاجي، وما يحدث ليس خلافاً علنياً بل حماسة طارئة عليه في تبادل الحديث مع رفيقه الذي جاراه في حماسته. فأخذت على نفسي سوء الظن، وتمنيت لو أعود إلى المقهى. لم يكن ذلك ممكنا. سأبدو لو فعلت فضولياً وكذلك صديقي، وقد ينسحب الرجل المُهِم ويغادر مع رفيقه ما إن ندخل المكان.
في اليوم التالي أخبرني إبراهيم أن خوان نهض وانضم إلى حلقة حكواتي وجاراه في الارتجال، وأن رفيقه حاول عبثاً ثنيه عن الانضمام مخافة أن يأخذه متفرجون عابثون مأخذ هزء، وأنه ارتجل دور رجلٍ قرر التوقف عن الفرجة، ومنازعة الحكواتي على دوره، وقد شجعه الأخير على أداء الدور وأعانه عليه، وأن نجاحه ولو بعض نجاح شجعه على الانتقال إلى حلقة أخرى غير بعيدة، وهناك نشب سجال أدائي ارتجالي بينه وبين حكواتي تلك الحلقة، حين تقاسما دور قاض ٍيختتم حياته المهنية بالانتحار خنقاً بيديه، وقد استيقظ ضميره بالتصريح بأن أحكامه ومحاكماته على مدى أربعين عاماً قلّما كانت نزيهة، مع سرد أمثلة منها حكمه بالسجن لأسبوع على حمار عقاباً للحيوان على التبول في الشارع، وحكمه على أرملة بعدم زيارة قبر بعلها خضوعاً لنزوات ذوي المرحوم المتنفذين، وحكمه على رجل مُسن بأن يروي أربعين نكتة أمام المحكمة قبل إطلاق سراحه، للبرهنة على أنه سيفعل الأمر نفسه في البيت مع زوجته التي اشتكت من دوام تجهمه، وكان الفوز في الدور من نصيب الحكواتي الذي ربما أدى الدور من قبل مراتٍ ومرات، والذي بِحُكم كونه من عامة الناس يخْبَر جيداً حكايا الظالمين والمظلومين، فقد واصل الأداء بصوته الرخيم وقسماتِ وجهه الناطقة، وبأطرافه المطواعة، فيما صاحبنا أفرغ ما لديه في بضع دقائق، وتحول إلى متفرج مُتصنّم ولكن داخل الحلقة، وأنى له أن ينجح في أداء الدور وهو يراقب نفسه ويراها وهي تمثل، وأن الرجل المُهم الديمقراطي كابر على نفسه، وبدا خلافاً لما يعتمل في نفسه راضياً بما جرى، بينما اغتمّ رفيقه غماً شديدا، وقرّعه بهمسٍ مسموع فيما هما يغادران، وتكاد تتوزع بهما الدروب: ما حاجة كاتب كبير لأن يكون ممثلاً هاوياً في الثمانين من عمره؟ ولم يُجبه الرجل فقد كان مُجهداً يجفف عرق الانفعال عن جبينه، وغارقاً في بئر نفسه.
سرَدَ صديقي ما سرده، وقد سمعتُ ما سمعتْ بهدوء وبغير اندهاش، فقد توقعتُ أن يلتقط الرجل ـ بمَعونة قوى خفية حليفة ـ الرسالة ما إن تصافحنا، وأن يخوض التجربة بنفسه وعنّي وقد فعل، فهو لا يرتضي دور المتفرج، كما لا يسَعَهُ أبداً الاندماج الكامل في أداءٍ تمثيلي، فأنا أعرف ذات نفسي المشطورة، وقد وجدتُ نظيراً فورياً لها في الاندفاعة المرتجلة للكاتب اخوان. لم أبُح بذلك لصديقي جرياً على طبعي المُتكتّم، وانتظرتُ حتى أدوّنه لقارىء يتشكك في رفع الحقيقة إلى مرتبة الخيال.
واكتفى إبراهيم بأن نظر لي نظرة متوجسة، ثم قال من تحت نظراته بنبرة يمتزج فيها التحذير بالدُّعابة: لا حاجة بك للالتقاء بالرجل، لقاء نصف الدقيقة بينكما كان كافياً.
ــــــــــــــ
* قاص وروائي أردني
(العلم) المغربية