نصف طولي


*رباب كساب

حافي القدمين، بيده كسرة خبز أسمر جافة، وجهه غارق في محلول الـ(ميكوجيل)، كنت أرقبه من بعيد يأكل الخبز بلا غموس، لا يتلذذ، متعجل، عيناه غائرتان، ملابسه متسخة، شمر بنطلونه إلى ركبتيه، وكذا كميه قد شمرهما لمرفقيه، كنت متلفحة بكوفية صوفية وبالطو أسود ثقيل، اقتربت منه لكنه كان قد أنهى طعامه وجرى، بقيت عيناي تلاحقه، يذوب وسط الجموع لكني مازلت ألمح ملابسه الكحلية الأقرب للسواد.

شعره أشعث، تتشابه رأسه والرؤوس من حولها، شيء ما يهديني إليه، وسط كل هؤلاء أشعر به.
نبهني صوتها المنفر، ينذر ببدء العمل، فاستيقظت حواسي الخمس؛ يجرون جميعهم من أمامها، تختفي الهتافات، تتبخر كلما صرخت هذه الآلة الضخمة، جميعهم يهرولون وأنا أنسحب ببطء، راجعة بظهري للخلف، أصرخ بهم ألا يجروا بسرعة، يتعجبونني، أخاف تدافعهم كي لا يموتوا بأيديهم، ثوان لا تكف فيها الآلة البغيضة عن الصراخ حتى ينطلق الصوت الآخر المنتظر، خيط دخان طويل ينطلق منها بطول المدى الذي تستقر عنده عبوة الغاز المسيل للدموع.
تمتلئ عيناي بدموع حارقة، وجهي يؤلمني، أحكم لف الكوفية على وجهي لمنع الغاز من التسرب لأنفي، لا فائدة، تاه مني الصغير، تاه مني وسط جموع تشبهه تماماً، وأطوال يضيع بينها طوله الذي يماثل نصف طولي.
انشغلت بهاتفي، محاولة الوصول لصديقتي المجنونة التي اخترقت صفوف الناس لتصور المدرعات الثلاث عند مدخل كوبري قصر النيل، كنت خلفها، لكنني خفت -أعترف- استمعت لنصائح الشباب من حولي بالتراجع للخلف، تراجعت كثيراً.
صاحبتي لا ترد على الهاتف، لا أعرف أين هي، كلما توغلت عني بعيداً في كل خطر أتذكر طفلتاها، وأتذكر يوم أوصتني بهما -ليتها تختار أحداً غيري- أحبهما، لكنني فاشلة، زهرات القرنفل التي أحبها وانتقيتها بنفسي لأزين بها شرفتي لم أفلح في العناية بها، نسيت مراراً إطعام عصفوريّ الصغيرين، فماتا! 
تصر صاحبتي على الغوص في قلب الخطر، ابنتاها تحبان الميدان، تحبان عودتنا لنلهو سوياً، نحل مسائل الحساب ونحن نقفز على مرتبة السرير الأسفنجية، حين أعاتبها لتهورها، تباغتني بنظرة تخرسني فلا مستقبل للطفلتين إن لم ننتزع لهما الحرية.
الفتى المتسخ هو الآخر يحلم، انتزع الشارع الخوف من قلبه، خلته مع ابنتي صديقتي في المدرسة، يرتدي حذاء وملابس نظيفة، أظافره مقلمة، يقف في قلب الطابور يحيي العلم، تحيا جمهورية مصر العربية.
لكنه يهتف الآن هتافاً مختلفاً، عيش، حرية، عدالة اجتماعية. ترى أين هو؟! 
تُرى أين هي الآن؟!
حين انطلقت قنبلة الغاز سقطت بالقرب مني، أين ذهبت؟ تملكني الفزع لقد كانت قريبة من الجنود والمدرعات.
ترد عليِّ أخيراً، تحاول أن تصف لي مكانها، أتلفت حولي، صوتها خائف عليِّ، وصوتي خائف علينا، يظهر الصغير فجأة أمامي، أنحني له وعلى وجهي ذهول من عودته إليَّ، ابتسمت حين قالي لي: «بتدوري ع الأبلة اللي معاها (التاب)».
أومأت برأسي موافقة -كانت لم تزل معي على الهاتف- أشار لي بإصبعه المتسخ نحو تمثال عمر مكرم وهو يقول: «عديناها من شوية هناك». 
لمحتها حيث أشار، أغلقت الهاتف، وأنا أبتسم له، وقبل أن أنطق أو أذهب لصديقتي كان قد أمرني بلهجة حاسمة أن أبتعد عن طريق المدرعة، التفتّ ماشية وقد أطعته صاغرة، لكن عيني تعلقت بكسرة الخبز الجافة التي تطل من جيبه
________
*قاصة وروائية من مصر(المجلة العربية)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *