صباح بشير
يمتلك أدب اليافعين خصوصية لا يخطئها قارئ أو ناقد، فهو يقوم على مقومات فنية وموضوعية محددة، كما يرصد يوثّق ويحلّل كل ما يُكتب وَيُوَجَه إلى هذه المرحلة العمرية، التي تحتاج إلى الفكرة المناسبة عند الكتابة إليها، فتعكس بذلك اهتماماتها وتعبر عنها، فالفتيان في هذه المرحلة تدور في أذهانهم الكثير من التساؤلات التي يحاولون الإجابة عليها، لذا فمن المهم أن نكتب لهم بصدق وشفافية، وأن لا نستهين بذكائهم وشغفهم وحبهم للاطلاع والاكتشاف والمعرفة، فهم عادة يتمردون على الكثير من المسلَّمَات ولا يتقبّلون المعلومات دون تحليل أو تمحيص، فالقارئ الصغير ذكي في تحليل ما تلقى وهو أصعب مراسا في الإقناع بما يقرأ من القارئ الكبير، من هنا فالكتابة لهم تساعد على تقويمهم وتجيب على أسئلتهم، وتساهم في توسيع مداركهم ومستوى وعيهم.
من هذه المنطلقات طرح الأديب جميل السلحوت روايته “أنا من الديار المقدسة” التي تقع في ستين صفحةٍ مُدججة بالمعلومات التاريخية والثقافية العامة، لتوثّق تشرح وتوضح، وتسرد التاريخ بحكاية، وقد صدرت هذه الرواية عن مكتبة كل شيء في حيفا. ولأن الفهم والتحليل عمليتان تخصان قارئ العمل الإبداعي أو ناقده، وبهدف تفسير الرواية وتوضيح علاقتها بالواقع، لذلك وفور انتهائي من قراءتها، قررت الكتابة عنها.
بعد التمعن في العنوان “أنا من الديار المقدسة” نجد أنه أول عتبة من عتبات النص، فقد امتلك بنية ودلالة متصلة به، وبعد استقرائه يمكن التوقع بماهية النص ومحتواه، ويمكننا أيضا فتح الذهن على علاقتهما الوطيدة (العنوان والنص) بالتاريخ والأحداث التي ظهرت من خلالهما، هذا التقاطع بينهما وبين الاحداث برز من الوهلة الأولى، حتى فَرَض العمل نفسه كقيمة فنية أدبية، إنسانية واجتماعية.
في حصة المطالعة في مدرسة مونتس يوري، في حي جرين بروك بمدينة شيكاغو الامريكية، سألت المعلمة تلاميذها من طلاب الصف السادس الابتدائي عن أصولهم التي جاؤوا منها، من هنا انطلقت فكرة الرواية حين أجابت لينا بأنها قادمة من فلسطين، حيث الأرض المباركة التي تحكي تاريخها، وحيث القدس مدينة التعددية الثقافية، وحيث مآذن المساجد التي تعانق أبراج الكنائس وأجراسها، فراح الكاتب يعمد إلى تعرية الحاضر من خلال الماضي، وبرؤيته الواعية تم تطويع النص لعرض الواقع التاريخي كمجال إبداعي، وذلك عبر حبكة مشوقة وأحداث تثير فضول القارئ الصغير، ليتماهى مع شخوصها ويشعر بأنها تتحدث معه وتشاركه واقعه ومستقبله.
تمكنت رواية “أنا من الديار المقدسة” من التقاط الأبعاد المغايرة للحدث، فقد شَخّصَت الهم الفلسطيني وقدمت شهادة إنسانية على الحدث، عايشت الواقع المُعاش وتأملت المستقبل، كان التاريخ أحد مكوناتها التي أوغلت في حلّ طلاسمه وفك رموزه، وعادت بنا إلى الماضي لاستكشاف الحاضر، من هنا فقد كان استدعاء الكاتب للتاريخ استدعاءً لإحيائه وتوثيقه في ذاكرة اليافعين بشكل خاص، وفي الذاكرة الجمعية بشكل عام.
مَزَجَت هذه الرواية بين رواية وطنية، تاريخية واجتماعية، وأدب الرحلة، ولعلها مهارة خاصة بالكاتب حين يقوم بهذا المزج بسلاسةٍ ويُسر وتداخل نوعي جميل، مدركاً أهمية النشء في المجتمع، الذي لا بد من إعدادهم وإشباعهم المعنوي، وذلك لتحقيق الثراء الفكري، الوجداني والثقافي فيهم، وترسيخ القيّم الأخلاقية والوطنية التي يجب أن يُربوا عليها، كالتمسك بالهوية، تقبل الاخر، روح التضامن والتعاون، الثقة بالنفس وغيرها من القيم، فكانت فكرة النص واقعية، لذا كَثُرَت الحجة والدلائل والصور، ونُقلت الوقائع بأسلوب مباشر وتحليل موضوعي عقلاني، أما العاطفة فقد رافقت النص بدءًا من الانفعال والحزن، الشوق إلى الوطن، الانتماء الى القضية ووصولاً الى الأحاسيس الوجدانية، وأما التساؤل فقد جاء دوره في بناء معاني النص، فقد استُدرِجَ القارئُ منذ البداية إلى معرفة متنامية وتُرِكَ ليكتشف الإجابة بنفسه من خلال القراءة، ثم وُجِّه بالشواهد واستعمال المنطق في التعبير .
أخيرا فالكتابة لليافعين عند السلحوت كالكتابة للكبار، وقد سبقَ له الخوض في هذا المضمار ببراعة ونجاح، استوعب في كتاباته للنشء حياة الناس والحقائق التاريخية الإنسانية، تَعايشَ مع التراث والواقع استشرف المستقبل وسلّط الضوء على ترسيخ الهوية، وعلى أصالة جذور الأرض الفلسطينية.
كاتبة فلسطينية
- عن رأي اليوم