ياسر العبادي
ضمن برنامج «حوارات ثقافية»، استضاف المركز الثقافي الملكي الدكتورة هند أبو الشعر، في حوارية بعنوان «نحو منهجية جديدة في كتابة تاريخ الأردن في المئوية الثانية»، قامت بإدارتها الدكتورة غيداء أبو رمان، وذلك يوم الأحد الماضي، في قاعة المؤتمرات بالمركز الثقافي الملكي.
قالت الدكتورة هند أبو الشعر: في عام 1990 م كتبت مقالة في جريدة الرأي عنوانها (الفضائيات سحبت البساط من تحت أقدام المؤرخين) فأثارت استهجان المشتغلين بتدريس ودراسة التاريخ آنذاك، واعتبروا أن ما كتبته يمثل حالة من الكتابة الصحفية لجذب القراء، وتبين لي أن التجديد أو الدعوة له، في كتابة التاريخ حقل ألغام لا يمكن العبور من خلاله إلا بخسائر حقيقية، والآن، وبعد مرور ثلاثين عاما على هذا الطرح المتقدم، أجدني أجدّد الدعوة وبقوة نحو التجديد بلا تأخير في كتابة التاريخ في الأردن، وأدعو للعبور إلى المستقبل مع دخولنا المئوية الثانية من عمر الدولة الأردنية.
وأضافت أبو الشعر: فبعد مرور قرن تام على نشوء الدولة الأردنية، علينا التوقف عند تجربة التوثيق لهذه التجربة وتقييمها، لوضع الرؤية المستقبلية التي يجب علينا أن نرسخها ونعمل على تطويرها، في كتابة تاريخ الأردن في المئوية الثانية التي نحتفل هذا العام بها، وابتداء أحب قبل أن أتناول تقييم تجربتنا في كتابة تاريخ المئوية الأولى أن أتوقف عند المفاصل الآتية:
أولا: علينا أن نكتب للجيل القادم بمنهجية يتقبلها ويفهمها، لأننا نكتب للمستقبل، ولا يجوز لنا أن نستمر في الكتابة بلغة القرن التاسع عشر أو العشرين، ذلك ان غالبية الذين يكتبون تاريخ الأردن اليوم تتلمذوا على أيدي أساتذة من أبناء النصف الثاني من القرن العشرين، وتعلموا منهم المنهج الذي دربهم عليه أساتذة ولدوا في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، ولا يعقل أن نكتب للجيل القادم بلغة ما قبل العولمة والثورة الرقمية، وهم جيل يتعامل مع عالم افتراضي ولا يمكنه أن يتواصل مع فكر وطرح ما قبل الثورة الرقمية، ولا يمكن لنا أن نستمر في الكتابة لأنفسنا وبدون رؤية مستقبلية.
ثانيا: هذه الرؤية تجعلنا نُطوّر المنهج، ونفكر بعقلية القادم ونستوعب بالتالي التطورات التقنية التي فرضت نفسها على الأجيال كافة، فلا نقبل أن يبقى المؤرخ خارج إطار التقنيات، ليكتب بلغة ما قبل الثورة التقنية، وهذا يتطلب اتقانه لكل ما هو جديد وتطويعه لإثراء تجربته، وهذا تحدٍ كبير للجيل الذي كتب في أواخر القرن العشرين قبل تفجر عالم المعرفة وانتشار الانترنت ودخولها في كل تفاصيل حياتنا، ولا بد لنا من الاعتراف أن الهواتف الخلوية حلت محل الصحفي ونقلت بالصوت والصورة الأحداث وبثتها في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يعد انتظار أخبار الصحيفة الورقية مسألة مقبولة تؤرقنا، أصبح كل من يحمل هاتفا ذكيا مصدر معلومة مباشرة بالصوت والصورة، فكيف نتعامل مع هذا الواقع الذي قلب الدنيا رأسا على عقب..؟ وأين هو عالم الرواة وشهود العيان من سطوة الكاميرات الرقمية الذكية وسرعة البث على الانترنت..؟ وأين هي المعايير التي نعرفها.؟ وكيف نتعامل مع هذا الواقع الجديد بكل مقاييسه..؟.
ثالثا: لا يمكن القبول باستمرار كتابة التاريخ الاقتصادي مثلا بعيدا عن الإحصاءات والأرقام والأشكال البيانية والجداول، إن دراسة اقتصاد الأردن في أواخر العهد العثماني وإطلاق الأحكام التقليدية عن حجم الظلم والضرائب الفادحة التي فرضتها الدولة العثمانية على أهالي بلاد الشام ومنهم أهالي شرق الأردن، غير مقبول أبدا بدون العودة لدفاتر المالية وحجم الضرائب ومقدارها بالرقم، وتحليل هذه الأرقام لكتابة الواقع الاقتصادي بدقة مقنعة، وهذا هو الخطاب المباشر والسليم لكتابة تاريخ هذه الحقبة بلغة الجيل القادم، الذي لا يمكنه أن يقبل إطلاق أحكام عامة تؤكد أن الدولة العثمانية فرضت ضرائب فادحة وأرهقت الفلاحين والتجار، الرقم هو الفيصل وأذكر أنني عام 1998 م نشرت بحثا في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لقضاء عجلون من 1928 م – 1938 م استنادا لعقود الزواج، ونشرته في مجلة المنارة الصادرة بجامعة آل البيت واعتمدت فيه على الإحصاء والجدولة والأشكال البيانية بتحليل الأحوال الاقتصادية والاجتماعية من خلال عقود الزواج، فأثار هذا استياء الزملاء واعتراضهم، لكنني أدخلت هذه المنهجية في رسائل الطلبة الذين أشرفت عليهم، وهو ما أصبح اليوم حالة مطلوبة، كما أنني استخدمت الصحافة منذ عام 1876 م مصدرا للدراسة، مما أثار غضب أحد أساتذة التاريخ التقليديين، الذي قال لي: بعد روايات الطبري في دراستك للماجستير مع الأستاذ الكبير عبد العزيز الدوري تجعلين الصحافة مصدرا..؟ وكانت دراستي التي اعترض عليها تدرس تأسيس الدولة الفيصلية في دمشق من خلال الصحيفة الرسمية للدولة وهي «العاصمة»، التي قمنا بنشرها في جامعة آل البيت، وأصبحت الآن مصدرا رئيسا لدراسة المملكة السورية في دمشق.
رابعا: البحث عن مصادر جديدة لإعادة كتابة تاريخ المئوية الماضية مسألة أساسية، لأن ما كُتب في تاريخ الإمارة والمملكة الأردنية الهاشمية استخدمت فيه مصادر محددة، ونحن مع الدعوة لإعادة كتابة هذه المرحلة التأسيسية في حياة الوطن، ولكن مع التجديد بالبحث عن مصادر جديدة وتحليلها، لتقديم فهم جديد لهذه التجربة الجمعية التي نتشارك جميعا بها، على أن يتم تطوير الأدوات وتحديث التقنيات، لتتناسب مع خطابنا للجيل القادم.
خامسا: ما زالت المصادر المحلية غير مدروسة، فإن سجلات ملكية الأرض والطابو والتسوية لم تدرس مرحلة الإمارة ولا مرحلة المملكة الأردنية الهاشمية، مع أن هذا المصدر هو مفتاح كل الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، فإذا لم تفتح هذه السجلات للبحث الجاد والتحليلي، فإن كل ما يكتب في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يظل حالة هامشية وبعيدا عن الدقة، وهذا المصدر يحتاج لباحث جاد ورصين، ولديه القدرة على التحمل، ومن تجربتي باستخدام سجلات الطابو العثمانية أجد أن من الضرورة بمكان استمرارية دراسة ملكية الأرض وعلاقتها بالزراعة وبالطبقات الاجتماعية في عهد الإمارة، خاصة وأن ملكية الأرض شهدت تجربة ( تسوية الأراضي ) التي غيرت من حالة المشاع التي كانت تحّد من استخدام الأرض وتطوير استثمارها، ومع الأسف، فإن سجلات التسوية ما زالت محفوظة في دائرة الأراضي بلا تصنيف، وقد مرّ عليها أكثر من ثمانين عاما دون أن تتم دراستها بالمنهجية المطلوبة، وأعتبر أن التوجه لدراسة هذا المصدر سيُحدث ثورة حقيقية في كتابة تاريخ الأردن ما بعد عام 1935 م وحتى اليوم، شريطة ان يتّم استخدام الإحصاءات وتطويع الأرقام والأشكال البيانية للمنهجية الجديدة في كتابة هذا المحور المفصلي في حياتنا.
سادسا: إن الجهود الفردية هي الغالبة على التأريخ للأردن، وغالبية ما يكتب يندرج تحت دراسات لنيل درجات الماجستير والدكتوراه، وهذا حسن، لكنه لا يمثل خطاً متصلاً، فإن غالبية الباحثين يعملون للحصول على الدرجة العلمية ولا يحفرون في مسارهم بعمق، وغالبا يكون هّم الترقية ونشر الأبحاث المُّحكمة في مجلاّت غير متداولة بصورة شعبية هو الهاجس الذي يحرك فئة الباحثين الذين تبذل الجامعات جهودا أكاديمية لتأهيلهم للحصول على المنهجية المطلوبة التي تؤهلهم للكتابة في التاريخ، وهذا التوجه في الكتابة يستحق التقييم لتطويره.
سابعا: لا بد من وجود توجه مؤسسي لوضع خط متصل للتأريخ للأردن، ومع ان لدينا مؤسسات أكاديمية وبحثية، لكنها مثل الجزر المعزولة، ولا توجد استراتيجية مشتركة ووطنية لرسم مثل هذا التوجه وتنفيذه، وهذا يحتاج لقرار على مستوى فعال، علما بأن بعض المؤسسات تبنت خطة ونشرت مجموعة من الكتب في التأريخ للأردن مثل مؤسسة آل البيت ضمن المشروع الكبير للجنة العليا لكتابة تاريخ الأردن.
ثامنا: مع أنني مع هذا التوجه لتفعيل دور المؤسسات الأكاديمية والبحثية، لكن المشكلة الدائمة في مثل هذا العمل المؤسسي ارتباط المؤسسات بالأشخاص، وهذا هو عيب العمل الإداري في الوطن في نصف القرن المنصرم، إن المؤسسات لا تعمل بروح المؤسسة بل بسلطة المدير الذي تنتهي بمدة إدارته خطط المؤسسات، وغالبا لا يقوم المدير بتدريب مَن يخلفه من الصف الثاني، وهذه المشكلة عيب كبير في كل العمل المؤسسي ولا نستثني المؤسسات البحثية والأكاديمية.
تاسعا: مراكز التوثيق لدينا محدودة جدا، واعتمدت على جهود فردية، ولا توجد لها خطط مستقبلية، والأساس أن تكون مراكز متطورة ومنفتحة على المتغيرات الجديدة، ففي الوقت الذي يتم تحديد كيفية الإفادة واستخدام الوثائق والسجلات من قبل الإدارات، يجد الباحث اليوم انها متاحة على الشبكة العنكبوتية، وبلا مقابل، فعند بحثي عن السالنامات الناقصة لدي، وفرحتي بالحصول عليها من خلال زيارتي للأرشيف العثماني، فوجئت بأنها متاحة بلا مقابل وبلا سفر في جامعة ميغيل بكندا على موقعها.. وأما المكتبة الوطنية فتحتاج لرؤية جديدة وتطور تكنولوجي متقدم لتكون في الموقع المتقدم في التوثيق والحفظ لمنجزاتنا وتراثنا.
عاشرا: إن واقع أقسام التاريخ في جامعاتنا الحكومية يحتاج إلى تثوير، وذلك للأسباب الآتية:
أ – الطالب المقبول في القسم هو من ذوي المعدلات المنخفضة عادة، وهذه خطيئة ترتكبها الجهات العليا بتصنيف دارس التاريخ ضمن التخصصات الأقل حظا ومن التخصصات الراكدة.
ب – ما زالت الخطط قاصرة عن تقديم تحفيز حقيقي للطالب، وما زالت أساليب التدريس تقليدية وضعيفة، وما زلنا نكرر للطالب أن العرب كانوا في عصر الجاهلية قبل الإسلام، بحيث يتم إلغاء الحضارات التي عرفتها البلاد العربية قبل ظهور الإسلام، علما بأن عرب الجنوب كانوا تجارا قبل 3000 سنة قبل الميلاد ويحتكرون تجارة الشرق الأقصى، وعرب الشمال كانوا تجارا تصل تجارة مكة إلى الحبشة عن طريق مراكب وميناء لقريش، وكان الأنباط يصلون بتجارتهم إلى روما، وكان عرب ما قبل الإسلام يعرفون الحضارة الفارسية والحضارة البيزنطية، أما إذا كان المقصود بالجاهلية جهل الدين فهذا غير صحيح لأن القبائل العربية كانت مسيحية وكانت اليهودية والمسيحية معروفة في شبه الجزيرة، وما زلنا نُعلّم طلبة الجامعات أن العرب كانوا يعيشون في حالة جهل قبل الإسلام، ونلغي بذلك عالم الحضارات ونحول العرب إلى قبائل متنقلة وجاهلة..!.
ج – واقع الدراسات العليا غير مقبول، فالموضوعات تتكرر دون وضع نظرة مستقبلية تخدم الباحث والمؤسسة والوطن معا، ما زال طلبة الدراسات العليا يختارون مواضيع مكررة ويضيعون الوقت والجهد والمال،و ما زالت الأقسام تقبل الرسائل الضعيفة وتمنح باسمها الشهادات بالتفوق، بحيث أن ناتج هذه الأقسام رسائل تقليدية ولا جديد فيها، و المؤسف أننا ما زلنا نقبل الرسائل المسروقة أو التي يشتريها الطالب من المكاتب.
د – لا يتم انتقاء الكفاءات المميزة للتدريس، وأصبح الذين يُدرّسون في اقسام التاريخ هم من الدرجة الثانية بعد ان كانت أقسام التاريخ في الجامعات الأردنية تضم عمالقة الباحثين العرب، ومن الذين يحملون تدريبا راقيا في المنهجية من الجامعات الغربية، وهذا الأمر ينعكس الآن على الأقسام خاصة في جامعات الأطراف، فطلبتها من قرى المحافظة وأساتذتها من نفس المنطقة وربما أصبحت العلامات العشائرية هي الرائجة مع الأسف، وهذا هو الواقع دون تجميل..!!!
هذه المفاصل التي أردت طرحها تقدم الفكرة التي أردت تقديمها قبل تناول تجربتنا في التأريخ للأردن في المئوية الأولى من عمر الدولة.
التجربة خلال مائة عام:
سأوجزها بنقاط لئلا أتجاوز المساحة الممنوحة لي:
1- كان أقدم ما كتب في تاريخ الأردن ما قدمه الأرشمندريت بولص سلمان في التأريخ للأردن سنة 1922 م، لكن كتابه غير منشور، وتبعه الزركلي في « عامان في عمان « إلا ان تجربة الكتابة الجادة في تاريخ الأردن كانت سنة 1935 م عندما ألف الكولونيل بيك باشا وهو رجل عسكري، كتاب ( تاريخ شرق الأردن وقبائلها ) وقام بتوثيق أصول العشائر على أرض الأردن حسب الرواية المحلية، ونعتبره أول مَن دوّن الرواية المحلية للسكان على أرض الإمارة.
2 – يمكن اعتبار التأريخ ما قبل نشوء الجامعات والمراكز الأكاديمية حالة فردية، وكان سليمان الموسى الذي قدم جهودا كبيرة ومُّقدرة دون أن يكون لديه تدريب أكاديمي ومنهجي، حالة خاصة، فقد حفر بالعمق وبشكل متتابع، كما كان لكل من البدوي الملثم وروكس بن زائدة العزيزي وعيسى الناعوري دورهم في هذا الخط الذي يمثل الجمع بين الأدب والتأريخ.
3 – نقطة التحول كانت بإنشاء الجامعة الأردنية وتأسيس قسم التاريخ وحضور مجموعة مميزة من الأساتذة العرب من المؤرخين المشهود لهم بالتفوق، وتبع ذلك تأسيس الدراسات العليا عام 1972 م، ومنح درجة الماجستير لطلبة القسم، وفي الوقت نفسه تمّ تأسيس مركز الوثائق والمخطوطات الذي وفر للدارسين فرصة ذهبية بتصوير السجلات والوثائق التي تخص تاريخ بلاد الشام بما فيها الرسائل الجامعية من العالم كله، كما تزامن هذا مع عقد اول مؤتمر لتاريخ بلاد الشام الذي يعتبر علامة فارقة في كتابة تاريخ بلاد الشام بعامة والأردن على وجه الخصوص.
4 – تبع هذه الخطوات التأسيسية، فتح جامعات أردنية جديدة، اليرموك ومؤتة والهاشمية وآل البيت والحسين، وكلها أسهمت في رفد حركة البحث والتأليف في تاريخ الأردن، ونتوقف هنا عند ما يأتي:
أ – ارتبط الاتجاه بالبحث في تاريخ الأردن بدراسة الدكتور يوسف الغوانمة لتاريخ الأردن في العهد المملوكي، ودراسة الدكتور محمد عدنان البخيت لدرجة الماجستير بدراسة مملكة الكرك في العهد المملوكي أيضا وذلك في الستينيات من القرن العشرين، في حين استمر الدكتور غوانمة بالبحث في تاريخ إربد والحفر في العهد المملوكي توجه الدكتور البخيت نحو العهد العثماني وقدم دراسات من خلال السجلات العثمانية لبعض النواحي في لواء عجلون في القرن السادس عشر الميلادي، وكان اول الدراسات في تاريخ الإمارة للدكتور علي محافظة من خلال الوثائق الغربية والجريدة الرسمية عام 1972 م، وتبعه الدكتور محمد محافظة بدراسة تاريخ الإمارة، والدكتور محمد الصلاح بدراسة تاريخ الإدارة في أول توجه لدراسات جزئية، وهي خطوات تأسيسية تستحق التقدير.
ب – كانت الخطوة الراسخة بالتوجه نحو دراسة تاريخ الأردن مع التسعينيات من القرن العشرين بقيام مجموعة من طلبة الدكتوراه في الجامعة الأردنية بتوجيه من المشرف الدكتور محمد عدنان البخيت بدراسة قصبات الأردن في العهد العثماني ( عمان، السلط، إربد، الكرك ومعان والبلقاء وعجلون ) وتميزت هذه الدراسات بالجمع بين المصادر وفتح سجلات المحاكم الشرعية وسجلات الطابو والتسوية وسجلات الكنائس والمذكرات وكتب الرحلات والمدارس ودفاتر المالية، وهم نوفان الحمود السوارية، وجورج طريف داود وهند أبو الشعر وعليان الجالودي ومحمد سالم الطراونه، وقد نشرت هذه الرسائل وكانت أساسا لمجموعة لاحقة من الرسائل الجامعية التي حذت حذوها، وكانت أرضية صلبة لمنهجية جديدة في كتابة تاريخ الأردن، وبدأت دراسة تاريخ الأردن تأخذ المنحى الأكاديمي، وأحب هنا ان انوه بدور المؤسسات في نشر هذه الرسائل ومنها وزارة الثقافة والبنك الأهلي وجامعة آل البيت، كما أن لوزارة الثقافة في مشروعها الرائد ( مكتبة الأسرة ) الدور الأكبر في تعميم هذه الكتب التي تصل إلى القارئ باقل الأسعار وأفضل المواصفات الفنية.
ج – من المفاصل الرئيسة في ربع القرن الماضي نشر وتصنيف وثائق الديوان الملكي ضمن سلسلة الوثائق الهاشمية والتي وصلت اليوم إلى أربعين مجلدا وثقت لتاريخ الأردن في عهد الملك المؤسس من 1921 م – 1951 م، وقد بدأ المشروع عام 1993 م، وما زال مستمرا بإشراف الدكتور محمد عدنان البخيت وإعداد وتصنيف هند أبو الشعر، ويقوم على جمع وتصنيف الوثائق ونشرها في محاور دون التدخل في الوثيقة، وهذه خطوة منهجية تقدم فيها الوثائق مصنفة للباحث، وهي حالة فريدة في الوطن العربي، ومن الجدير بالذكر أن هذه الوثائق في الديوان الملكي تمثل أيضا وثائق الدولة، وهي وثائق رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية وغيرها من الوزارات،لأن أرشيف الديوان الملكي يضم كل المراسلات بين الديوان ومؤسسات الدولة، مما يوفر للباحث فرصة ذهبية لا مثيل لها.
إن هذه المفاصل التي أوردتها هي محطات تستحق الدراسة التفصيلية، ومع أن هناك بعض الجهود الفردية في دراسات تاريخ الأردن من غير المختصين في دراسة التاريخ، إلا أن بعضها أخذ طابع تلميع العشائر أو الجهات وهو وإن كان يحمل صفة التوثيق إلا أن الحاجة لتقديم الدراسات الموضوعية والمنهجية والمستقبلية هي الحالة المطلوبة، والتي تقوم على دور المؤسسات الأكاديمية والبحثية وهي كثيرة، خدمة للوطن الذي يستحق منا كلنا توظيف جهودنا الفكرية والعلمية، وكلها جهود تصّب في كتابة تاريخ الوطن وتوثيق جهود الأجيال بمسيرة المئوية التي نعتز بها ونعززها.
هذه دعوة للعبور إلى المستقبل بأمان، لإعادة كتابة تاريخ الأردن مع المئوية الثانية للدولة الأردنية، وواضح ان هذه الدعوة تعتمد على ما يأتي:
1 – تثوير واقع المؤرخ وأدواته وثقافته الرقمية.
2- تحديث منهجيته في التعامل مع المصادر.
3- اطلاعه على المنجزات العالمية بلغات أجنبية والإفادة من منهج المؤرخين من كل الجنسيات خاصة وأن قواعد البيانات من مجلات متخصصة وسجلات وكتب متوفرة في المكتبات الجامعية التي توفر لأعضاء هيئة التدريس سهولة الوصول لهذه القواعد التي تنفق عليها مكتبات الجامعات الرسمية ملايين الدنانير، والتي تصل إلى عضو هيئة التدريس إلى مكتبه على جهازه بكبسة زر، وأذكر بمرارة أنني كنت مديرة لمكتبة الجامعة الأردنية ودار النشر فيها، وكنا عام 2007 م ندفع نصف مليون دينار لشراء قواعد البيانات وتوفيرها لأعضاء هيئة التدريس والطلبة، لنجد بأن أعضاء هيئة التدريس في الكليات الإنسانية لا يستخدمونها، في حين انها تمثل المصدر الأساسي لأساتذة كليات الطب وطب الأسنان والهندسة والحقوق، لكن وصول الشبكة العنكبوتية لكل البيوت تقريبا تجعل إمكانية الوصول لهذه القواعد ممكنة مع الاشتراك.
4 – استخدام الإحصاء وبرامج الاكسيل لاستخدامها في دراسة التاريخ الاقتصادي وتوظيف الرقم وتحليله ليصبح لغة الخطاب المقنعة في العقد الحالي وما بعده.
5 – تغيير خطط أقسام التاريخ لتطويرها وتحسين لغة الخطاب مع الطالب وإعداده للمستقبل لئلا يبقى تخصص التاريخ من التخصصات الراكدة.. وهي معلومة مؤسفة تبعد الطلبة عن اختيار هذه المادة الإنسانية التي لا يمكن الاستغناء عنها في التربية الوطنية المطلوبة والسليمة.
وختاما، فإن على أصحاب القرار دراسة هذه التوجهات وتحليلها وتوظيفها للتعامل مع أقسام التاريخ في المؤسسات التعليمية، وتطبيق قواعد صارمة في منح طلبة الدراسات العليا في التاريخ درجات علمية تعتمد على قص المعلومات ولصقها أو على شراء الرسائل عن طريق المكاتب التي يعرفها الجميع.. والتعامل بلا محاباة مع أعضاء هيئة التدريس الذين لا ينتجون ابحاثا ويُدرّسون بطريقة الكُتاب ويستخدمون الدوسيهات لطلبتهم.. فقد آن أوان المكاشفة، لتغيير الفكرة التقليدية عن مادة التاريخ وتبديل الفكرة البشعة بعدم الثقة بالتاريخ باعتباره يمثل التاريخ الرسمي والمحاباة.
آن أوان العبور إلى المستقبل ورفض الجمود والاختفاء بعباءة الماضي. فلنعبر إلى المستقبل آمنين، وأقول أخيرا لا جدوى من الإصلاح في أي مجال في الوطن إن لم نصلح منهجنا في التفكير..و من هنا نبدأ..!
-
عن الدستور