رسم العبور

فراس ميهوب

 

الشاب الجميل، المتوقد حياة ونشاطا ورونقا، أمل والديه بالنجاح، المبدع في دراسته، الأنيق و الطيب، صار الآن نهبا للمرض العضال الذي تناوب مع الأدوية الكيماوية الشرسة في عضِّ أعضائه وأنسجة جسده، ونهشاها معا ككلبين مسعورين وقعا على فريستيهما دون رحمة.

-إنَّها الجرعة الخامسة، لا تحسُّن، الغدد اللمفاوية الخبيثة انتشرت في كل مكان، غزت القلب والكبد والدماغ، ومازلتَ تقول إنَّ الأمل موجود!

-وماذا تريدين أن أفعل، لم نعد نملك إلا أشلاء الأمل؟!

-قل الحقيقة يا رجل، ابني الوحيد لا يفصله عن الموت إلا خطوات.

-رأيتُ الطبيب بالأمس، قال لي أنَّ هناك دواء واعدا قد تخرجه مراكز الأبحاث خلال أسابيع، ويمكن أن يجربوه على غيداق.

انهارتِ الأم، اجتاحتها نوبة بكاء حادة، لم تكن الاولى، فقد صارت الدموع ملازمة لها منذ أشهر، ابنها الذي كان يتجهز للالتحاق بالجامعة، وهو يمضي قدما في سنته الأخيرة في المدرسة الثانوية، توقف كل شيء الآن، والجميع ينتظر الموت ولو رفضه بكل قواه و جوارحه.

-أمي، أنا بخير، توقفي عن البكاء، سأعيشُ طويلا، ما رأيكِ أن نذهب هذا الصيف إلى البلد؟ فليأخذ أبي إجازة لأسبوعين أو ثلاثة.

على كل حال، موعد الجرعة القادمة بعد شهر من الآن، لقد استأذنت الطبيب بالأمس، ولم يمانع، ما رأيك بهذه المفاجأة؟

ولكن البلد بحالة حرب، ولن نجد العلاج المناسب ان احتجت لشيء هناك.

-لا تبالغي يا أمِّي، الكثير من المشافي ما تزال تعمل، أنا بخير، ويمكن أن نستشير الطبيب، ونأخذ معنا الأدوية اللازمة.

بلعتِ الأمُ الدمعةَ التي سالت على شفتيها، جهدت على إخفاء وجهها، أسندَتْ ظهرها على الأريكة المغطاة بالجلد الأسود، استجمعت أفكارها المتناثرة، استمرت بالإنكار، غيداق لن يموت، والأفضل أن يبقى هنا تحت رعاية أطبائه.

كانت مثله راغبة بالسفر، لكن أربع ساعات بالطائرة إلى قزمستان، ثم ثلاث ساعات بالسيارة إلى العاصمة، دقائق انتظار طويلة هنا، وساعات مرور في المطارات والنقاط الحدودية هناك، ستكون منهكة وقاسية على الجسد الذي مزقه الداء والدواء على السواء، ومن أجل ماذا؟

-يريد التخفيف عنا، ولا يفكر بنفسه، لكنّي لا أهتم بنفسي، سأواصل النضال حتى يشفى، هذا النوع من السرطان الذي يصيب الشباب قابل للشفاء، هذا ما قاله الطبيب.

يعرف أطباء الأورام بنكرانهم الدائم لحقيقة المرض، يتجاهلون طبيعتَه القاتلة، وهو أمر ملازم لهم وضروري لبقائهم على قيد الحياة دون تعرضهم لهزات نفسية خطيرة. يكذبون على أنفسهم بعمق كي يتمكنوا من إقناع المريض و أهله، يستشهدون بشفاء مريض من ألف، يعممون واقعة نادرة سعيدة ليدهنوا بها جدار اليأس المطبق.

2

تنشقوا أنسام آذار المنعشة، أصرتْ أم غيداق على أن يرتدي طبقات متعددة من ثياب صوفية، غالب ثلاثتهم القسوة والمرض والغربة، ومع الطائرة الصاعدة إلى الفضاء الرحب، نجحوا لدقائق في تناسي المرض، والجرعات الكيماوية، أرادوا أن يتجاهلوا الموت القريب وكأنهم تركوه على الأرض، وسبحوا في الهواء بعيدا عن مخاوفهم.

رغبَ أبو غيداق بحذف ذاك اليوم من ذاكرة أيامه، احتفظ مع ذلك بورقة الروزنامة التي  دوَّن عليها تاريخ كشف المرض، وضعها في دورق على الطاولة، أملَ بإضافة ورقة أخرى عليها تاريخ الشفاء، طال الانتظار، اندس السفر كورقة ثالثة، مرورا مؤقتا قبل أن يحسم القدر مصير الشاب.

تتالت اتصالات الوالدين مع الأقارب بعد أن حطت الطائرة عجلاتها على أرض مطار المحطة في قزمستان، العتبة الانتقالية قبل وصولهم إلى عاصمة بلدستان هدفهم الأخير، وفي الطريق البري القصير إلى العاصمة، بدأت حرارة غيداق بالارتفاع، ارتعاشات أصابعه كان من الصعب إخفاءها، غطى وجهه الشحوب، برزت عظام وجنتيه لتعطي الشاب المسكين سحنة المتأهب للموت، تسارع نفسه حتى صار لهاثا، زفيره بدا مقطوعا من بركان مشتعل.

-هل أنتَ بخير؟

سأله أبوه، والخوف يحشرج صوته.

-لا بأس، اعطني خافض الحرارة من الحقيبة الجلدية لو سمحت.

ما أن وصلوا إلى المعبر البري حتى كانت أعراض غيداق قد خفت قليلا، أو هكذا ظنَّ والداه.

مرَّ الثلاثة ببطء في طابور الانتظار أمام مبنى الهجرة والجوازات، وقبل أن يختم الموظف المسؤول جوازاتهم، توجَّه إلى الأب بجفاء بادٍّ:

-مئة دولار يا أستاذ عن كل منكم، ابنك بلغ الثمانية عشرة قبل أسبوعين.

-لا مشكلة، أأدفعُ هنا؟

-لا، لستُ مخولا بالقبض، سأحررُ لك الإيصالات، وتدفع المال في الكوة المقابلة.

-ابني مريض، ولا يمكننا الانتظار في هذا الصف الطويل مرة أخرى، ألا تراه أنَّه لا يقوى على الوقوف.

كان غيداق مستندا إلى ذراع والدته، ترنَّح ومال نحو الأرض، ساعدَ مسافرٌ عابرٌ الوالدين، مددوه على المقعد الخشبي الوحيد في صالة الانتظار.

اقتحمَ الهواءُ الباردُ فرجة الأبواب المفتوحة، ولفح وجوه المسافرين، صرخت أمُّ غيداق:

-طبيب.

لا مجيب.

-ألا يوجد طبيب هنا؟!

ارتدَّ نحيب الأم التي صارت ثكلى عن الجدران القاسية، تجمَّع العابرون في المركز الحدودي، شاهدوا جثة الشاب النحيل مكشوفة، تبرعتْ سيدة مسنة بغطاء أخرجته من حقيبتها، وسترتها عن الأنظار الحائرة.

أبو غيداق، وهو من اعتاد على حسن التصرف في أصعب الظروف، وجد نفسه عاجزا، هذه اللحظة التي مافتئ يستبعدها من ساحة تفكيره من أول يوم عرف به بمرض ابنه، بل تجاهلها عامدا، صارتِ الآن حقيقة مرّة وقعت على رأسه ورأس زوجته، أسقط في يده ، خرج لدقائق طويلة من دائرة الفعل، وانزوى كنعنع ذابل في ظل حيطان منزل مهجور.

تمالك أعصابه، واستعاد همتَّه جزئيا، احتضن زوجته التي غرقت بدموعها، استندت الأم المصدومة على ركبتيها، مررت يدها اليمنى على وجه ابنها الذي فارقها.

تبخرَت قبل أن تبدأ أحلامُ الوالدين بأثر إيجابي لزيارة البلد على صحة ولدهما، تحوّل المشروع  من رحلة استجمام واستشفاء إلى مسيرة موت و دفن.

لم يكترث أحد من موظفي المركز الحدودي بالحدث الجلل، نصح عابرٌ الوالدين بالذهاب إلى كوة دفع الرسوم، وقام باستئذان الناس في الطابور لإفساح المجال للأب، لم يمانعوا.

أمام المحاسب في الكوة، شرحَ الرجل له ظرفه القاسي وغير المنتظر.

-رحم اللهُ ولدَك يا أستاذ.

-عظَّم اللهُ أجرك.

أخذَ الموظفُ الايصالات، وقال لأبي غيداق:

-ثلاثمائة دولار عن ثلاثة أشخاص.

-لكن ولدي مات.

لم يسبق للمحاسب أن واجه معضلة كهذه منذ أن صدر القانون الجديد بأن يدفع كل مغترب عائد إلى الوطن مائة دولار قبل أن يسمح له بعبور الحدود، حكَّ رأسَه، وقلّب في أوراق  موجودة بجانب حاسوب مموضع على طاولة صغيرة أمامه، أخرجت شفتيه المترددتين كلمات خالها حلّا:

-القانون لا يطالب المغترب بالدفع عن مرور الجثامين، فهذا أمر إنساني بحتٌ راعاه المشرِّع، ولكن حسب ما فهمت، فإنَّ المرحوم توفي بعد أنْ حرر زميلي الايصالات، وبالتالي يعتبر حيّا عندما همّ بدخول أراضي الوطن، فيتوجب عليك يا أستاذ دفع مبلغ ثلاثمائة دولار للصندوق عن ثلاثة أحياء.

أضف إلى ذلك، سيكون أسهلُ عليك إخراج جثمانه من المركز دون إجراءات أخرى، وتأجيل تصريح الوفاة حتى الوصول إلى مقصدك في بلدستان.

أنا آسف، ولكن القانون هو القانون!

انفجر الأبُ في وجه الموظف:

-أي قانون أصلا يجيز لكم أن تفرضوا علينا خوة لدخول بلدنا، هل هذا دستوريٌّ من الأساس؟!

-هذا قانون أقرته مؤسسات الدولة.

 دافع المحاسب بشراسة واقتناع.

أيُّ مؤسسات وأيُّ دولة هذه التي تفرضُ إتاوات على عودة مواطنيها من بلاد المغترب إلى بلدهم.

قبلتُ الأمر الجائر عليَّ وعلى زوجتي، ولكن ابني صار في عالم آخر، ولن أدفع لكم مالا لأدفنه في أرض وطنه.

-لا تغلط يا سيِّد، أقدِّرُ حزنك على ولدك، ولكن هذا ليس مبررا للتهجم على الدولة.

صمتَ أبو غيداق، مشى مبتعدا لخطوات، قلَّبَ أوراقه على مهل، استدار نحو الكوة من جديد، فركَ الايصالات التي كانت مثنية بين أصابعه، أخرجها على مرأى من المحاسب، مزّقها بعصبية:

-لن أدفع، ولا أريدُ أن أدفن ابني في وطنه، عاشَ غريبا فليمت غريبا.

اتصل بالإسعاف، وباتصال آخر طلب سفارة البايلاند، وشرح لهم ما حدث، توجه بالحديث إلى زوجته:

-سنعود إلى الكابيتال، ونواري جثمان غيداق هناك، الدموع هي الدموع، ولو اختلفت المدافن، هذه البلاد تلفظ أبناءها الأحياء والأموات، لن أعود إليها، ولو متُّ في المغترب، ولأدفن هناك أو فلتحرق جثتي وترمى في البحر.

07/08/2021

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *