لعبةُ الظِّلال – قصة قصيرة

(ثقافات)

لعبةُ الظِّلال

قصَّة قصيرة

الأديب السُّوري موسى رحوم عبَّاس

السُّويد

          أعرف أنَّ ردَّة فعلي على القلق لم تكن واحدة، بل تطورت مع الزَّمن، رغم أنني كنتُ قلقا معظم الوقت، في البداية كنتُ أمتنع عن الطعام ليوم أو يومين، وربما أكثر، ولا يردعني عن هذا السُّلوك الغريب سوى رائحة الفم الكريهة، التي تنفِّرالنَّاس من حولي، أحاولُ التغلب عليها بمضغ اللّبان أو البقدونس أو حب الهال الذي يأتي به والدي الذي يعمل في دول الخليج، وكان نصيبنا من عمله الكثير من الهال والقهوة والتَّمر، بينما جيراننا يتمتعون بالسَّيارات الفارهة، ونزهات البحر، والشاطئ الأزرق. المسكين يحاول تعويضنا بالقصص البدوية التي جلبها معه عن الرُّجولة والشَّجاعة والنَّوم فوق رمال  النفوذ ليلا!

تطورتْ ردة فعلي عند كلِّ مرَّةٍ أخاف، أو أقلق، وصرتُ شرِهًا، أقضي على الأخضر واليابس في المطبخ، حتى صرتُ مُضحكَ الهَيْأةِ، أشبه بالكرة المنتفخة، التطور الجديد في حالتي هو المشي، أقطع الممشى المخصص للحوامل عدَّة مرات يوميا، مما كلفني الكثير من الأحذية! في أيام الغبار أو البرد أمشي داخل بيتي الذي يحتوي على ممرٍّ ضيقٍ طويلٍ، اخترعتُ لنفسي لعبةً سميتُها لعبةَ الظِّلال، ألاحقُ ظلي الذي يتمطى أمامي، أحاول أن أدوسَ عليه؛ فيفرَّ هاربًا، ألاحقه، يفر ثانية، وهذا ما يحفزني على الاستمرار في المشي!

كان يلاحقني، أهرب منه، أدير وجهي إلى الجهة المعاكسة، ثم أخطف نظري إليه، مازال يلاحقني، كيف اقتحم علي وحدتي، أنا رجل يعشق الوحدة، أهرب من النَّاس، لا أريد الجدال، ولا إثبات رأي، ولا معرفة الأخبار، وما وراء الأخبار، و لا أهداف كبرى لي، ولا أكترث إنْ تغيَّرَ العالمُ أم بقي على عَفَنِهِ، فمن هذا الذي استطاع الدخول؟ انتبهتُ إلى أنَّني قد أكونُ نسيتُ الباب الخارجي مفتوحا! وما الجديد؟ عادة أتركه مفتوحا، مع هذا تأكدتُ من إغلاقه، وعدتُ للعبة الظِّلال، فما كان منه، إلا أنْ بادرني، قائلا:

– إلى متى ستظل تفسدُ حياتي ؟

– إلى متى سأظلُّ سجين نَزواتك وجنونك؟

حاولت الاعتذار عن عدم معرفته أساسًا، ولا أعرف عمَّا يتحدث، وأي حياة أنا التي أفسدتُها؟ لكنه تابع دون أن ينتظرني أكمل حديثي، أنت تعرفني جيدا، أكثر من خمسين عاما، ونحن نعرف بعضنا!

– لكن …  !

مرة أخرى لم يعطني الفرصة للدفاع عن نفسي، عندما كلَّفكَ مسؤولُ حزبك بنقل المنشورات إلى حلب، ووضعها في قعر سَلَّة التِّين، وحجز لك بالباص، قلت لك لماذا لا يحملها ابنه زميلك بالصَّف؟! لماذا يخاطر بحياتك أنتَ الصبيُّ الفقير ، ويترك ابنه في الأمن والأمان؟! أخرجت لسانك لي في حلب ساخِرًا، وأنت تسلِّمُ السَّلَّة للعنوان الذي حدده الرَّفيق، وقام الرجل الذي تسلَّمها بوضع بعضٍ مما حَمَلْتَ ضيافةً لك، ونثر قصاصات الجرائد القديمة من قعر السلَّة أمامك، وهو يقهقه، ويخبرك أنَّ هذه هي المنشورات ” الخطيرة ” التي حملتها مئتي كيلٍ! وربت على كتفك قائلا: برافو، أنت بطل، وها أنتذا تنكرني اليوم بعد كلِّ هذا العمر!

هل أنعش ذاكرتك بتلك المرَّة التي هربتَ من مسيرة العمَّال التي قررها مديرُ الشركة للاحتفال بذكرى النصر على الإمبريالية – هكذا قال – وسألتَنِي عن هذه الإمبريالية التي انتصروا عليها، فقفزتُ كالملدوغ، وأغلقتُ فمَكَ الكبير، هذا، وأكملتَ طريق الهروب عبر الشَّوارع الفرعية، خلف المجمع الحكومي، الذي يُفترضُ أن يكون تجمع العُمَّالِ وبقية البروليتاريا والمناضلين في ساحته، رافقتُكَ إلى مطعم “الرَّوضة” للفول والحمَّص، هل أذكِّركَ بما قلتَ؟

– نعم، كان صمتي يغريه بالكلام، هذا الذي اقتحم عليَّ وحدتي، ونبشَ تاريخي كله، إنَّه يضع أمامي كلَّ صحائفه السُّود، وكل ما كنتُ أهربُ منه.

–  سأجعلك تصغي إليَّ رغما عنكَ، قلتَ يومها: صحن الفول من يد أبي حسن مع البصل والمُخلَّلِ أكثرُ فائدةً من كلِّ انتصاراتهم، ليلتها بتنا في السِّجن، وهذه أسنانك المحطَّمة تشهدُ على ذلك، ألستَ من أقنعني بالهجرة إلى آبار النِّفط والمالِ، وعدنا بعد شهرين بلا نفطٍ ولا مالٍ، ولأسبابٍ ما تزالُ مجهولةً حتى يوم النَّاس هذا، إذ قال لنا المُحقِّقُ في  مهجرنا ذاك حينها، يظهر يا بني أنَّكما عزيزان على بلادكما، ولا تستطيع البلد الاستغناء عنكما!! وأخفى نصف ابتسامةٍ بوضع يده على فمه!!

لم أعدْ أطيق صبرا، كنتُ أذْرَعُ المَمَرَّ الضَّيقَ جيئةً وذهابًا، خطواتي مرتبكة، إنَّه يعرف عني كلَّ شيء، ماذا لو كتب هذه المعلوماتِ في جريدةٍ، أو تقرير ما، ماذا لو أسرَّ بها لأصدقائي، كم واحدا منهم سيتبرع بالبهارات والتَّوابل التي تجعلني معلقا بالمرجة[i]، لابد أنْ أكون شجاعًا، ولو لمرَّةٍ واحدة، وأسْكتُهُ للأبد!

 توقفتُ فجأة، سدَّدتُ لكمةً قوية بين عينيه، شخصتْ عيناه، زَمَّ فمَهُ، وكأنَّه ما زالتْ لديه شهوةُ الكلام، تجمدتِ اللغةُ على شفتيه، تذكَّرتُ أشرطة أفلام سينما الزَّهراء في شارعنا ذات البَكَرات عندما تتوقف فجأة أثناء العرض، ويعضُّ الجهازُ بأسنانه على الشَّريط المُعاد ألف مرَّة، حينها يعلو صفيرُنا حتى لو كنَّا متسللين للصَّالة، وقد غافلنا العمَّ “خلُّوف” بعصاه الخيزران الطَّويلة، ولولا الدَّمُ الذي تناثرَ من قبضتي على المرايا التي تهشَّمت، وتتطاير حطامُها على طول المَمَرِّ؛ لأعدْتُ له لكمةً ثانيةً؛ علَّني أحظى بفرصة تذوِّقِ النَّصر، ولو لمرَّة واحدة!!

[i] المَرْجَةُ هي الساحة الرئيسة في العاصمة دمشق، وقد شهدت إعدام الكثيرين منذ الاحتلال العثماني

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *