الحبيب الأسود
الأغاني وليدة عصرها، وهي مُعبِّرة عن مشاعر وأحاسيس من يصنعها ومن يتلقاها، وهي مرآة لحضارة المجتمعات التي تظهر فيها وثقافتها وزمانها ومكانها. وهذا ما جعل نصوص الأغاني وألحانها وإيقاعاتها تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر، وحتى داخل البيئة الواحدة أيضا. لكنّ هناك أنماطا فنية تمكنت من التطور والصمود والتغير حيث واكبت عصورا هامة وباتت نوعا من الإرث الثقافي الشعبي تتناقله الأجيال وتتناقل مضامينه وأنماطه وتغير فيه وفق العصر الذي تحل فيه. ومن هذه الفنون نجد فن المرسكاوي الليبي الفن الذي عايش الليبيين سنين طويلة وتغير فيها كثيرا، ما أثار الجدل حوله.
تحول المرسكاوي إلى لون غنائي طاغ في الساحة الليبية، وبات له تأثيره الواضح على دول الجوار، حيث يتردد في الملاهي والأفراح وزادت وسائل الاتصال الحديثة من انتشاره بشكل واسع، وأصبح من الطبيعي أن يعيد فنانون غير ليبيين تسجيله مستفيدين من غياب قوانين حماية الحقوق الفنية والملكية الفكرية في ليبيا.
والمرسكاوي هو فن الحياة بمختلف تجلياتها، تحول إلى ديوان الواقع الليبي نظرا إلى قدرته الفائقة على تحمّل مختلف المضامين والمواضيع، وقد استطاع أن يتجاوب مع الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي وأن يواكب كل التحولات التي عرفتها البلاد، وزاد انتشار تقنيات الاتصال الحديثة من رواجه ولاسيما بين فئة الشباب الباحث عن الألحان الخفيفة والكلمات الحارقة.
أصل التسمية والتاريخ
هناك خلاف حول أصل تسمية المرسكاوي، حيث يرى فريق أنها تحريف لكلمة مرزقاوي نسبة إلى مرزق، وفريق آخر يقول إنها نسبة إلى الموريسكيين، وهم المسلمون الذين بقوا في الأندلس تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الحكم الإسلامي للأندلس وأجبروا على اعتناق المسيحية، أو ترك الأندلس، ثم أجبرتهم الحكومة الإسبانية في الفترة الواقعة ما بين 1609 و1614، على مغادرة المملكة إلى شمال أفريقيا في هجرة جماعية.
وقد كان عدد الموريسكيين يناهز 350 ألف نسمة، انتشروا في المغرب والجزائر وتونس ووصلت بعض عوائلهم إلى طرابلس وبرقة وحتى درنة، وقد حملوا معهم فنونهم وعاداتهم وتقاليدهم في الطبخ واللباس وعلومهم في الزراعة والصناعة وغيرها، وكان لهم أثر كبير في المنطقة. وأما مرزق، فهي مدينة في جنوب غرب ليبيا مفتوحة على الصحراء ولها مسالك تجمع بين شمال ووسط أفريقيا، كانت محطة القوافل واستراحة التجار والعابرين، وملتقى الثقافات الأفريقية والأمازيغية والعربية الإسلامية، وكانت عاصمة دولة أولاد امحمّد بإقليم فزان التي استمر عهدها من 1550 إلى 1813 ميلاديا.
المرسكاوي فن الحياة بمختلف تجلياتها تحول إلى ديوان الواقع الليبي نظرا إلى قدرته على تحمّل مختلف المضامين
وتنتسب إلى مؤسسها الشيخ امحمد الفاسي وهو ينتمى إلى السلالة الإدريسية، وبالتحديد إلى البيت العمراني الجوطي، الذي قال عنه ابن خلدون “فليس في المغرب فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه ووضوحه مبالغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن وكبراؤهم لهذا العهد بنوعمران بفاس من ولد يحيى الحوطي بن محمد يحيى العدام بن القاسم بن إدريس الأزهر بن إدريس الأكبر، وهم نقباء أهل البيت هناك والساكنون ببيت جدهم إدريس ولهم السيادة على أهل المغرب كافة حسبما نذكرهم عند ذكر الأدارسة”.
وقد صادف أن تأسيس الدولة كان قبل عام واحد من الاحتلال العثماني لطرابلس، وهو ما أدى إلى صراع بين الطرفين، حيث سعى العثمانيون إلى بسط نفوذهم على فزان، وخاضوا حروبا عدة من ذلك، ولاسيما في عهد يوسف باشا القره مانلي، ولم يتمكنوا من احتلال مرزق إلا في العام 1813 عندما نجحت جيوش بقيادة محمد المكني في هزم دولة أولاد امحمد وقتل السلطان محمد المنتصر وإنهاء حكم الشرفاء في فزان.
وقد بقيت مرزق عاصمة للإقليم إلى العام 1951 عندما نقلت أسرة سيف النصر من أولاد سليمان والتي تولت الحكم آنذاك، مركز العاصمة إلى سبها، وذلك في إطار الحكم الفيديرالي للمملكة الليبية الوليدة قبل إلغاء الفيديرالية في العام 1963.
وعرفت مرزق بسورها الطيني وأبوابها وقلعتها وبساتينها وواحاتها وبتنوع الثقافات والفنون، ومن ذلك الفن المرسكاوي الذي انتشر لاحقا في مختلف أرجاء ليبيا وخاصة في مدن المنطقة الشرقية كبنغازي ودرنة، كما انتشر في غرب البلاد، وتؤدى أغاني المرسكاوي على مقام واحد، تندرج تحته عدة أنواع أخرى، وعادة ما تتكون القطعة من موال ثم أبيات الأغنية وصولا إلى “التبرويلة” التي يقابلها البرول في المألوف الأندلسي وهي عبارة عن تسارع للإيقاع والنغمات الراقصة بكلمات خفيفة، والتي قد لا تكون ضرورية في المرسكاوي ولكنها مهمة في منحه صفته الاحتفالية.
مرزق عرفت بسورها وبتنوع الثقافات فيها
كانت الإذاعة الليبية قد سجلت منذ افتتاحها في العام 1957 عددا من أغاني المرسكاوي بعد أن كلفت شعراء غنائيين بارزين بكتابة نصوص جديدة، كما تم توزيع تلك الأغاني على فنانين بارزين آنذاك، من بينهم الفنان محمد مرشان المتوفي في 2015، الذي كان قد زار مناطق فزان للنهل من تراثها وكان يرى أن الأنماط الموسيقية الرائجة في طرابلس وبنغازي ما هي إلا صدى المرسكاوي القادم من مرزق وبعض المناطق الأخرى في فزان مثل غات وهون وسبها.
ومن أهم من غنوا بالمرسكاوي من جيل الخمسينات والستينات والسبعينات محمد صدقي وسلام قدري وعبداللطيف حويل وإبراهيم الصافي وعلي الشعالية والسيد بومدين (شادي الجبل) وعبدالجليل عبدالقادر (الهتش) وخديجة الفونشة (وردة الليبية) وعلي الجهاني (علي ويكة) واحميدة بونقطة.
ومن النجوم الحاليين رمزي وعصام العبيردي وسمير الكردي ووليد التلاوي وفوزي المزداوي ومفتاح معيليف ومحمد هدية ورمضان ونيس وعصام الطويل وأحمد السوكني وجاب الله الفسي وسعد محمود وعلي الجهاني وأحلام اليمني وبشير المسلاتي وفوزي أصغيرونة والمهدي الهيلع وأمهيدي وسعيد الدرسي وسراج الشيخي وكمال التومي والعشرات غيرهم، الذين يستمرون في تقديم هذا الفن.
ووفق المتخصصين، يتشكل لحن المرسكاوي من طالع بثلاث شطرات وكوبليه من ست، أو من طالع بشطرتين وكوبليه بأربع، وأما مواضيع الغناء فمختلفة وتتراوح في الغالب بين الحب والحنين والوصف وباتت خلال السنوات الماضية جريئة في مفرداتها، ولها قدرة على تصوير المشاعر دون عقد، فالمرسكاوي الحالي هو فن متمرد مثله مثل “الراي” في الجزائر والمغرب.
وجاءت نزعته إلى التمرد من التهميش الرسمي الذي تعرض له خلال العقود الماضية ليبقى رهين المناسبات الخاصة وأشرطة الكاسيت، كما أنه فن يطغى عليه الارتجال ويرتبط بقدرة مؤديه على نظم الكلمات أو على الاستفادة من مدونة الشعر الشعبي الثرية في البادية الليبية. ورغم الانتشار الواسع لهذا الفن، يبقى منبوذا من فئات مهمة من المجتمع ترى فيه ميلا إلى الابتذال بسبب الكلمات التي يتم استعمالها أحيانا، والتي قد تحمل من الجرأة ما يجعلها تصدم الأذن المحافظة، كما أن تكرار الألحان قد يكشف عن فشل الفنانين الحاليين من تقديم تجارب إبداعية ترقى إلى ما قدمته الأجيال السابقة التي كانت تنشط ضمن مؤسسات الإعلام الرسمي.
التجديد والانتشار
فن تتمازج فيه الثقافات
يبقى المرسكاوي محدودا من الناحية الموسيقية بسبب طبيعة الدائرة الضيقة للمقامات في موسيقى البادية حيث لا تكاد تتجاوز مقامي البياتي والرصد، لكن الزخم الحقيقي جاء من التنوع والثراء النغميين في طرابلس والجنوب، لكن أغلب الباحثين يرون أن المرسكاوي الحالي هو تحريف للمرسكاوي الأصلي بنفسه التطريبي حيث كان أقرب إلى الموشحات الأندلسية، ولكن بتداخلات رشيقة مع الروح الأفريقية.
ويرى الباحث في علوم الموسيقى الدكتور عبدلله السباعي أن أغنية المرسكاوي انتشرت عن طريق التواتر الشفهي، وكُتبت كلماتها باللهجة العامية، ولُحّنت في مقامي البياتي والرصد على أوزان شعبية محلية، مُصاحبة بآلة المزمار والدربوكة والدُّف وبتصفيق الأيدي والرقص. وهي أغنية تُؤدِّي وظيفة كبيرة، وتُستعمل في العديد من المناسبات الاجتماعية.
فن يطغى عليه الارتجال ويرتبط بقدرة مؤديه على نظم الكلمات أو على الاستفادة من مدونة الشعر الشعبي
وتعتمد موسيقى المرسكاوي على عدد بسيط من الآلات، منها الدف والدربوكة و”المقرونة” وهي مزمار تقليدي تستخدم فيه قصبتان متساويتان في الطول تكونان مفتوحتين من الطرفين، وتربط الواحدة في الأخرى بواسطة جلد الماعز، وهناك نوعان من شجر القصب، نوع رفيع يصنع منه “البالوص”، أما النوع الغليظ فيصنع منه ساق المقرونة أو المزمار، ثم تثبيت “الردادة” من ساق المقرونة بجلد الماعز، ويتم ثقب ساق المزمار أو المقرونة بقطعة من الحديد خمسة ثقوب، ويتم تثبيت المقرونة بقرني البقر بقطعة من جلد الماعز.
وخلال العقود الماضية طغى الأورغ والأكورديون، وأصبحا الآلتين الأكثر استعمالا في المرسكاوي إلى جانب آلات الإيقاع العادية، وتحول هذا الفن إلى ظاهرة في ليبيا امتدت إلى خارجها، وخاصة إلى دول الجوار، وقدم حميد الشاعري تصورا جديدا للمرسكاوي من مقر إقامته في مصر، وأعاد فنانون تونسيون تسجيل عدد من أغاني المرسكاوي آخرهم الفنانة فائزة المحرسي التي قدمت أغنية “يحسابونا طحنا”.
تمازج الفنون
يعتبر الباحث محمد سالم أن استخدام اصطلاح المرسكاوي في بنغازي والمناطق الحضرية في الشرق الليبي لا يقتصر فقط على مفاهيم الدرجة الموسيقية والسلم الموسيقي والسلم النغمي بخصائصه المعزوفة، بل يمتد ليشمل واقعا موسيقيا من طراز مختلف غير معروف في أرجاء ليبيا، ويمثل الفن الخاص بالشفافية الموسيقية الحضرية لمدينة بنغازي، وقد برز وازدهر بصورة ملموسة بعد أن امتزج في بوتقته الفن الأفريقي والإيقاعات الليبية القديمة والشعر البدوي.
ويضيف أن المرسكاوي هو ارتجال كامل يعتمد على السماع بالدرجة الأولي -غير مدون في تابلوهات موسيقية- وليس من الضروري أن تصاحب المرسكاوي آلات موسيقية، لكنه كغيره من الأنماط الحضرية الليبية، كالمالوف في طرابلس ودرنة، يشكل وحدة مترابطة من عدة مقومات، مردفا أن الإيقاع الذي يمثل مقومة أساسية للمرسكاوي ولكن للأسف لم يتطور ليصل إلى تعقيد الإيقاع المصمودي مثلا.
-
عن صحيفة العرب – لندن