من المختل الذي يطفئ ضوء عينيه بنفسه؟


*غادة السمان

استفزني سلوك الامريكية “جيل شوبنغ” لأنني أكره من يرفس نعمة الخالق وأيضاً لأنني عاجزة عن التحديق في الضوء الساطع وبالتالي منع طبيب العيون لي من معاقرة الكمبيوتر/الانترنت/صفائح Ipad ـ الفيس بوك إلى آخره.. وهو أمر آسف له وامنيتي ان يخترع الطب علاجاً لبومة فضولية مثلي، لأتواصل مع القراء والعصر. ولذا روعني حقاً خبر عن امريكية من ولاية كاليفورنيا لديها كل ما اشتهيه من قوة البصر واسمها “جيل شوبينغ” ـ 30 سنة ـ تحلم بأمنية منذ صغرها وهي ان تصاب بالعمى!.. (يا للهول!!) وفوق ذلك استطاعت أخيراً تحقيق أمنيتها بمساعدة طبيب نفسي مجرم؟ لصب مادة حارقة في عينيها حيث أصيبت بالعمى! (قرأت الخبر المروع وشاهدت صورتها مع عكازها في مجلة “الافكار” اللبنانية).

حين تأملت صورتها وهي تتكئ على عصا العميان البيضاء. شعرت انني شاهدت منظراً مشابها لحياتنا اليومية العربية السياسية بالذات اللبنانية. وتساءلت وانا أرى تلك العمياء باختيارها: أليس هذا ما يفعله لبنان بنفسه؟
وإذا كانت تلك (الحمقاء) قد سملت عينيها بنفسها (دون ان تكون لديها اسباب “أوديب” لذلك) ألا يحاول لبنان شيئاً مشابها منذ عقود والعقلاء القلائل يمسكون بيده في محاولة يائسة لمنعه من صب المزيد من الحامض الكاوي (الاسيد) في قدرته على رؤية مدى انحرافه عن مسار الحرية، مبرر وجوده ومفتاح عيشه الذي جعل منه يوماً “عاصمة الحرية العربية” التي يرفض الكثير مثلي من الأدباء العرب والشعراء التخلي عن ذلك ويعاندون تيارات التاريخ الجامحة التي تحاول كسر باخرة لبنان على صخور مصالح (الدواعش) المحلية والمنتمية (للخارج) اي الميليشيات المختلفة وعشاق المكاسب والكراسي، لتقديمه كجائزة ترضية او (فرق عملة) او سواها من التسميات لهذا الطريق او ذاك حيث يقوم الوطن بنفسه بسمل عينيه عن بوصلة الحرية! من يوقظ لبنان على الهول الذي يقترفه بحق نفسه؟
عيد الميلاد المجيد ام عيد الشراهة والانفاق؟
انتقل الى موضوع آخر، فأنا اعيش في أرجوحة تتنقل بقلبي بين وطني العربي الحبيب الذي غادرته ولم يغادرني، وبين الأمر الواقع الباريسي حيث اعيش والذي لن أنكر جماليته في حقل الطمأنينة على ابجديتي ناهيك عن ابداعات محلية واخرى عالمية تأتي اليه ومزايا اخرى كثيرة أعاشرها منذ اكثر من ربع قرن ولذا، لا اجرؤ كثيراً امام ضميري على انتقاد البلد المضيف فرنسا إلا يوم يأتي مهجرو قوارب مطاطية من مارسيليا إلى أي مرفأ عربي مغامرين بحياتهم أو أرى متسولين لبطاقة إقامة عندنا، أو مهجري قوارب من هامبورغ الالمانية أو دوفر البريطانية أو برانديزي الايطالية طالبين اللجوء إلى (ربوعنا) في لبنان وسواه من أوطاننا العربية (السعيدة)!
ذلك لن يمنعني من أبداء ملاحظات على ما يدور حولي من ازدهار “للمجتمع الاستهلاكي” على حساب “القيم الانسانية”، وهو يتجسد كثيراً في فترة “اعياد الميلاد” الغربية. فالاعلانات كلها وكراسات المطاعم والبرامج المتلفزة لا حديث لها إلا عن الطعام وهدايا “بابا نويل” وجوهرها تحريض “شهوة الانفاق” تمشيا مع مطالب “المجتمع الاستهلاكي” المعاصر.. وحتى الهدايا للاطفال صارت ذريعة لابتزاز المواطن وكادت مغارة ميلاد سيدنا المسيح تغيب عن البيوت والواجهات لصالح (العميل الاستهلاكي) بابا نويل. وفي احصاء فرنسي حول الطلاق تبين انه يبلغ اقصى ارقامه في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة للتوتر النفسي الذي يصيب الاسرة وذلك في مواجهة المتطلبات المادية مما يدعو البعض للاقتراض من البنوك، والخوف من العجز عن التسديد بعدها.
بهرتني زيناتهم الرائعة، ولكن…
يوم رحلت إلى أوروبا وشاهدت للمرة الاولى زينات الأعياد في لندن وباريس وحزنت لأن اعيادنا الدينية الاسلامية متقشفة تميل إلى التذكير بالحياة الأخرى وبموتنا الشخصي الآتي ولدينا اراجيح العيد للأطفال و(العيدية) والثياب الجديدة ولكن دونما مبالغات استعراضية.
أما اليوم فقد تبدلت وجهة نظري، وعلى الرغم من ان العيد النبوي الشريف هذه السنة تصادف قبل عيد ميلاد السيد المسيح بـ48 ساعة، وجدت ان التعتيم شبه الأعلامي على ميلاد سيدنا محمد في الغرب يليق بعيد ديني بامتياز دونما مظاهرة استهلاكية قد تكون دخيلة على روحانيته.. ومن طقوس عيد الميلاد النبوي الشريف ما عايشته في (الشام) في الطفولة حيث كانت جدتي تعد حلوى بيضاء اللون (ربما لتوفر المال!!) وهي: الرز بحليب والمحلاية وكشك الفقراء والحليب المرقد وسواها. ولم نكن نحن (الاطفال) نتلقى الهدية بمناسبة (الميلاد) الاسلامي بل كنا نقدمها لصاحب الميلاد أي لسيدنا محمد وهي كما قالت جدتي تكرار القول: “اللهم صلي على سيدنا محمد” وكلما رددنا هذه العبارة مرات اكثر كانت هديتنا للرسول أكبر. وجوهر الأمر إخراج المناسبة إلى الحقل الروحي.
عيد ميلاد صاحبه غائب!!
سالت حفيد جارتي (8 سنوات) بماذا تحتفل؟ قال بعيد ميلاد “بابا نويل!” قلت: وماذا عن (جيزو) وهو احد أسماء سيدنا المسيح عليه السلام بالفرنسية، فسألني: من هو؟!…
وكل عام وباب نويل وماما نويل أيضاً بخير وكذلك هداياهما وأطعمتهما والعابهما.. والعزاء في بعض الأفلام المتلفزة الميلادية التي تمجد قيم المحبة والغفران والالتقاء العائلي بعد فراق عدواني وذلك جميل. ولكنني قمت بجولة في جناح الدمى في احد المخازن الباريسية الكبرى وتوقفت بفضول أمامها ولاحظت تكاثر الدمى (الشيطانية) المرعبة التي لا تشبه حيواناً نعرفه… يا إلهي كم تشبه عصرنا تلك الدمى العصرية اليوم الخاصة بالصغار المرعبة الهجينة! (ام ان العصور كلها بدت كذلك لمن لم يألفها بعد؟) اتجول بين الدمى العصرية البشعة ـ في نظري ـ الشيطانية الميكانيكية الالكترونية واتساءل في قلبي غابة من اشواك الاسئلة، والقليل من ورود الأجوبة، ولذا أكتب الروايات كمن ينتزع اشواكاً من قلبه!
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *