من أدب الرحلات
حكايات من غرناطة *
كايـد هاشـم
كنّا خمسة(1) وسادسنا الشوق، والأندلس يا صاحبي تُنادينا .. وسَرَينا مع نسمات الفَجْر من (عمّان)، حالنا كحال ابن زريق البغدادي لا يعذلنا بَردُ الليل ولا طول المسافات. تدفأنا حوالي الساعتين بالخيوط الأولى للشمس ونحن نرقب مشهد القاهرة .. قاهرة المُعزّ وهي تحتضن إشراقة الصباح، وطار طائر الشوق بنا مرّة أخرى يحملنا بين جناحيه إلى (الدار البيضاء) .. خمسُ ساعات، وما يزال أمامنا ليلة ويوم على موعد وسلام ولقاء !
خريطة الرحلة في أخيلتنا تشعّ كلما توقف القطار في محطة من المحطات بعدوة المغرب، وقفاتٌ طِوالٌ وقِصار، ونحن في عربتنا ننتظر والرفاق المغاربة ينتظروننا في (فاس) .. انتصف الليل وأطلق القطار صافرته الأخيرة، وسبقتنا حقائب السفر إلى فندق المُستراح . ربما غفونا قليلاً، لكن الخيال ظلَّ يقظاً، فما يزال أمامنا البحر الذي عبره يوماً طارق بن زياد .. وبين الحقيقة والأسطورة لم يلبث النوم أن طارَ من أعيننا وابتعد في فضاء يتأهب لطلوع النهار !
قبل أن ينبلج الصبح، كانت الحافلة الكبيرة تنهب الطريق بنا إلى ميناء (طنجة) وسط مساحات ساحرة المنظر من الخضرة وغابات البلوط وقد صَفَت السماء، فتجلَّت قرائح الرفاق؛ مشارقة ومغاربة أنشدوا شعراً وتغنوا بالموشحات، كأن مجالس الأدب في قرطبة وإشبيلية وغرناطة والزهراء، عادت وعدنا نشدُّ إليها الرِّحال !
عَبَرت بنا الباخرة المضيق وبمحاذاتنا (جبل طارق) مزهواً يروي للعابرين في كل يوم أوّل الحكاية، ويستمع إلى أحاديث العائدين وفيها البقية، وهو يعرف المزيد .. علّمنا يا بحر أبجدية الموج في المدّ والجَزر، امنحنا برهةً من بوصلة حَدسِك نعود بها ونُعيد في المدى الشعور بالروح وقد تجلَّت كما الموج في الامتداد .. بعد نحو ساعتين رست الباخرة في مرفأها، وتقاطر الركّاب على السلالم المعدنية كحبّات عقدٍ ينفرط شوقاً .. دحرجنا حقائبنا نزولاً على السلم وخطونا بلهفة على أرض جزيرة (طريف)، وفي العيون بريق تزيده شمس جنوبي إسبانيا والأندلس لمعاناً وضياء !
بضع ساعات هادئات سادها الصمت مثلما تكون لقاءات الأحباب بعد طول غياب، والحافلة تجتاز بنا الطريق الجبلي صعوداً من الساحل إلى مدينة (لوشة) أو (لوخة) كما ينطقها الإسبان، تحفُّ بنا البلدات والقرى الأندلسية ببيوتها الملونة بألوان زاهية، والمصفوفة إلى جانب بعضها بعضاً على نسق متآلف حميم، والغالب عليها بياض اللون وسط سجاد الطبيعة الأخضر !
جبالٌ ووديان ونهرٌ رقراق، وحوارٍ ومبانٍ ودور ما تزال أندلسية طابعها المعماريّ نضرة كثمر النارنج الذي تتزين شوارعها بأشجاره، وأناس كُرماء كالأرواح المجندة تألفهم ويألفونك كبعض الأهل، فلا أنت غريب بينهم ولا هم عنك غرباء، ثم استقبال في دار بلدية (لوشة) ومجلسها، وحديث مُرحِّب وأنيس من رئيسها الشاب عن مشروعات التنمية الثقافية في المدينة، والاعتزاز بالتراث المشترك بين العرب والإسبان. وقلنا: على سفح الجبل في (لوشة) يطيبُ المقام، لولا أن برنامج الرحلة يقتضينا الارتحال. فمعذرة يا لسان الدين ابن الخطيب، أديب الأندلس وشاعرها وفيلسوفها ومؤرّخها ووزيرها؛ إنّا أتينا إلى هنا على خطاك، غير أننا لم نتمكن من زيارة موقع دارتك، لكننا تركنا بعضاً من قلوبنا في (لوشة) لعلها تبلغك السلام !
نصعد إلى (قصر الحمراء) في (غرناطة)، وكُلنا في الصعود أصبحنا بهمّة الشباب، ونجتاز أفياء الممر الطويل إلى مدخل القصر بخطوات سريعة كفريق كشافة، فعلينا أن نغتنم السويعات الباقيات من ذلك اليوم في زيارة أعجوبة القصور .. ومَنْ زار الأندلس ولم يزر (الحمراء) فاته الكثير ونصف زيارته خسران . تتلاحق خطواتنا في أبهاء القصر وساحاته بين قاعة المشور أو المشورة حيث كان “يتشاور” الأمراء والوزراء، وقاعة السفراء، وبهو الأسود، وبهو الريحان، وقاعة الأختين، وقاعة بني سراج .. ونَمرّ بالغرفة التي أقام فيها عاشق الأندلس واشنطن إرفينغ صاحب كتاب (حكايات الحمراء)، فارغة إلا من مدفأة حجرية وروح هامت بالقصر حتى أصبحت جزءاً منه تطوف كل يوم في أرجائه مع مواكب عاشقيه وزائريه .
نطلُّ على برج الأسيرة عن كثب من نافذة في القصر، وكلُّ ما في الحمراء يصمت عن تفاصيل الحكاية .. أسلطانة كانت إيسابيل دي سوليس أو “ثريا” بعد اعتناقها الإسلام على ما يُروى، أم أسيرة ؟! وحده البرج يحدّثك عن طيف الهوى ويسكت عند سؤال الغواية منذ خمسة قرون ونيف، حتى قمر تشرين البادي فوق غرناطة يُلقي الضوء على إثر خطوها، يُنشِدك من روحها، ويغيبُ بهيبته في أرق شاعر، ومع نسائم الغروب ينتشي الندى فتكاد شفاه ياسمينها تخبرك شيئاً ما لولا زعيق من أحد الأدلاء السياحيين، وأصوات صادرة عن مجموعة سياح أدهشهم منظر خارج النافذة أو نقش على الجدار !

ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!

