علي أسعد..صوت بي بي سي المهيب ورحلته الإعلامية

* صفاء جبارة

لِصوته فخامة ومهابة عندما كنت أستمع إليه عبر المذياع وهو يقرأ النشرة الإخبارية في إذاعة بي بي سي، لكنني كنت أشعر أنها مهابة تمتزج برأفة ورحمة وحنين. لِمَ ينتابني هذا الشعور ؟ لا أدري حينها، لكنني كنت دائما متيقنا من حدوسي؛ التي لم تخني يوما. وهذا ما تأكد لي لاحقا عندما حالفني الحظ وزاملت الإعلامي والمذيع القدير علي أسعد في العمل في هذه الإذاعة العريقة، فاكتشفت هذا الصدر الواسع الذي ينبثق منه هذا الصوت المهيب، يفيض بالرحمة والرأفة والمحبة؛ بل وبالعشق والشجن والحنين.

جمعتنا في مرحلة متأخرة الليالي، ولا يظن البعض أنها ليالي سهرٍ ومُدامٍ وانشراح، بل كانت ليالي كدٍ في نوبات عمل ليلي في غرفة الأخبار، لكن وجود أبي تانيا فيها كان يمنحها بهاء خاصا ويملؤها محبة وأحاديث تفيض بالتجارب والمعارف. في تلك الفسح بين نشرة إخبارية وأخرى، كان يتسلل من الاستوديو إلى الديسك القريب منه الذي اعتدت الجلوس فيها لنواصل حديثا كان قد انقطع عن لحظة ما من حياته الممتلئة بالأحداث والخبرة العالية وفي مسيرته المهنية الثرة وتنقله بين الأردن وبريطانيا وإيران، والتي شهدت لحظات مفصلية في تاريخنا المعاصر، وشخصيات كبرى وفاعلة فيه، سَنحت له فرصة لقائها عن قرب في حياته المهنية الثرة. لقد كان الحديث يتشعب ليستحيل إلى ندوة فكرية يُساهم فيها بعض الزملاء في آرائهم وأحاديثهم التي تتشعب في قضايا فكرية ونظرية إلى تعليقات على الأحداث الراهنة.

كان أبو تانيا (ولكنيته هذه حكاية ظريفة حكاها لي؛ أنه كان مع زوجته سلوى يشاهدان فيلم “دكتور زيفاغو” الذي أخرجه المخرج القدير ديفيد لين، الذي كان قد أنجز ملحمته “لورانس العرب” التي صور كثيرا من مشاهدها في الأردن، وانتبه لين إلى موهبة عمر الشريف الذي مثل معه فيه، فمنحه دور البطولة في فيلمه الجديد “دكتور زيفاغو”. وقد كان علي وسلوى ينتظران مولودهما البكر، ولاعجابهما بالفيلم اتفقا على تسميته “تانيا” على اسم بطلة الفيلم إذا كان المولود فتاة، وطارق، على اسم ابن عمر الشريف وفاتن حمامه، إذا كان ذكرا.. وهنا اختلفا فكان علي يلفظ الاسم طارگ باللهجة البدوية الأردنية بينما ترفض سلوى أن يناديه بذلك وتصر على لفظه بلهجتها المقدسية طارق/ء، وجاءت تانيا لتحل هذا الاشكال.) كان أبو تانيا يلفت انتباهي بقدرته العالية على الانصات والتفاعل، وهو الممتلئ خبرة معرفة، لزملاء بعمر أبنائه؛ وبحديثه بأدب جم وعرفان عندما يشير أحدهم إلى فكرة لامعة أو معلومة جديدة.

كنت أتساءل في داخلي، ما الذي يدفع هذا الرجل الجليل والإعلامي القدير إلى تحمل هذا الكد والسهر الليلي، وهو في عمر يستدعي الدعة والراحة ولديه من ركام الخبرة والحياة المهنية الطويلة ما يستدعي أن تستعين مؤسسات إعلامية بخبرته ومعرفته وتحيطه بتلاميذ ومريدين ينهلون من خبرته ويسيرون على دربته. ما الذي يدفعه لتقبل العمل مع من هم بعمر أحفاده من الأجيال الجديدة التي تربت على ألعاب الفيديو وتنهل معارفها من السوشيال ميديا ؟ أتذكر في إحدى الليالي جاءت فتاة متدربة من التلفزيون بعمر أحفاده وطلبت منه تسجيل صوت “فويس أوفر” لجملة وجملتين في تقرير تلفزيوني، لم تكن تعرف من هو وأن صوته في النشرات مع زملاء كبار مثل ماجد سرحان يمثل علامة “وبراند” لهذه الإذاعة العريقة، وسألته: “ماذا تعمل هنا؟وهل يحق لك تسجيل فويس أوفر؟” فأجابها بسخرية مرة ، مشيرا إلى باقات نِعناع “نعنع”حرص على أن يضعها على طاولة القهوة والشاي في غرفة الاخبار.. “وظيفتي هنا تجهيز هذا النعنع للمؤسسة وتنظيف المكان حوله!!” ولعلي أسعد مع النعناع حكاية: كنت إذا رأيت باقات نعناع نضرة تشم عطرها عندما تقترب منها في مدخل غرفة الاخبار، أعرف أنه في الدوام هذا اليوم، فقد اعتاد علىِ أن يمر في طريقه على بائع خضروات يمتاز بأنه يجلب نعناعا بأوراق كبيرة نضرة، فيشتري عدة باقات ويأتي ليمارس طقسه اليومي في غسلها بحنو وأناة عضدا عضدا وورقة ورقة ليضعها في أقداح يوزعها في غرفة الأخبار.. ثم يتفقدها بين الفينة والأخرى ليرش عليها بضع قطرات من الماء تحافظ على نضارتها. كان يحب شاي النعناع وله طقسه الخاص في شربه؛ إذ كان يحرص على قطف بضع وريقات نضرة ووضعها في قدح زجاِِجي شفاف “وليس المگ” ثم يراقبها تسبح في الماء ويمتزج عصيرها أو زيتها فيه. وكأنه يمتع كل حواسه من نظر وشم وسمع وليس الذوق فقط. وبات النعناع النضر بالنسبة لي علامة وجود علي أسعد في المكان فاتفاءل برؤيته، وإذا رأيت بقاياه ذابلة فهو خارجه. لقد كان أبو تانيا ينثر شذى محبته وفيض طيبته أنى حلّ.

وأعود إلى تساؤلي بعد هذا الاستطراد، ما الذي يدفعه في هذا العمر إلى أن يقطع تلك المسافة الطويلة في القطارات الليلية غير المنتظمة من بيته في جنوب لندن الى “البرودكاستنغ هاوس” في قلب لندن وإلى سهر الليالي في نوبات العمل الليلية؟ والإجابة على هذا السؤال تكشف عن ما دلني عليه حدسي الأولي في صوت علي أسعد، اعني الحنو والرأفة، فهو صوت يخرج ليس من حنجرة فخمة، بل من قلب رائف حنون ممتلئ بالعشق والطيبة والمحبة. كان علي أسعد قد ترك منزله وحياته المستقرة المريحة في عمان وانتقل إلى شقة في جنوب لندن كي يتابع علاج حبيبته وزوجته ورفيقة عمره المذيعة القديرة سلوى أبو السعود التي ابتلت بمرض عضال اختطفها منه ومنا مؤخرا. وقد اِختار هذا العاشق الكبير أن يعمل ليلا في ساعات نومها ليكون قربها في النهارات التي تحتاجه فيها … أي حنو وأي رأفة وأي عشق خالص هذا.

لقد رحلت سلوى وكان من المفترض أن نلتقي اليوم، مجموعة من الزملاء والأصدقاء والأحبة المقربين، لاستذكار روحها الطيبة في أربعينيتها، لكن ظروف وباء كوفيد اللعينة وإصابة بعض المدعوين حالت دون ذلك وأدت إلى تأجيل هذا اللقاء. أكتب هذه الكلمات لأقول لأستاذنا علي أسعد أن قلوبنا معك في مثل هذه اللحظة، التي أعرف جيدا مدى وقعها على قلب رائف، حنون، ومحب مثل قلبك. لقد نهلنا من خبرتك ومعارفك الكثير؛ لكن ما هو أهم من أي خبرة وأنبل من أي معرفة هو درس الإيثار والوفاء الذي تعلمناه منك.

لروح فقيدتك الغالية الاستاذة سلوى أبو السعود الطمأنينة والسلام، تغمدها الباري برحمته الواسعة وأكرم مثواها وطيب ثراها وأسكنها فسيح جناته.

* أديب وإعلامي عراقي يقيم في بريطانيا

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *