* مصطفى علي
رحل جبور الدويهي عن عالمنا في عامه الثاني بعد السبعين، عمر طويل قضاه جبور في إثراء الرواية العربية، باتخاذ لبنان الجريح محوراً لأعماله، ولذلك عُد من أبرز المثقفين والأدباء المهمومين بأوطانهم، وسلط في كتاباته الضوء على التاريخ الشعبي للبنان من خلال مواطنيها المهمومين العاديين البؤساء، فجاءت أعمال جبور مكتوبة بدموع هؤلاء المطحونين.
ابن الحرب الأهلية
ولد الدويهي في زغرتا شمال لبنان، وأسس مسيرة أكاديمية متميزة توازي حياته كروائي، فقد كان أستاذاً للأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية بطرابلس، وكان يكتب أعمدة ومقالات منتظمة حول أحدث الاتجاهات التي تجتاح المجالات الأدبية العربية بالفرنسية، بالإضافة إلى عمله كمترجم عن الفرنسية.
وأعلن جبور عن نفسه كروائي في عمله الأول “الموت بين الأهل نعاس” وهي مجموعة قصصية عن الريف، تدور أحداثها في مجتمع مسيحي في شمال لبنان، وعرضت تلك المجموعة الموضوعات التي سيستكشفها جبور طيلة حياته في أدبه، حيث كان مهموماً بتحليل الانقسامات الاجتماعية والثقافية التي تمزق المجتمع اللبناني، وتقاطعات السياسة والدين مع تلك المجالات.
وكأي كاتب ابناً لزمانه، عايش جبور الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975م والتي شكلت ذاكرته الأليمة عن لبنان، وكما يتوقع الجميع من كاتب فلسطيني ألا يتعامل مع أي موضوع آخر سوى نكبة بلاده، فكان متوقعاً من كاتب كجبور أن تدور موضوعات الأحداث اليومية لأدبه عن الصراع الأهلي في لبنان، لذلك كان عدم الاستقرار والفوضى والتشظي والدماء تطارد أدبه على الدوام.
كتب جبور الدويهي “اعتدال الخريف” 1995 و “ريا النهر” 1998 و “عين وردة” 2002 و”مطر حزيران” 2006″ و”شريد المنازل” 2010 و”حي الأمريكان” 2012 و”طبع في بيروت” 2016، وشكل من خلال هذه الأعمال بصمة مهمة في الكتابة السردية العربية المعاصرة، التي ناقش من خلالها قضايا المجتمع اللبناني خاصة والعربي عامة، وتعد رواية “مطر حزيران” تحديداً واحدة من أهم الروايات التي حظيت بمكانة هامة في صفحات النقد العربي والعالمي، حيث أنها ترجمت إلى لغات عدة على رأسها الفرنسية والإنجليزية والألمانية والاسبانية، وبناء عليه كان لها حضورها في المشاريع الأكاديمية في العديد من الجامعات الغربية لأنها نص أنموذجي لدراسة حال المجتمعات العربية في منتصف القرن العشرين وحتى يومنا هذا.
أمطار حزيران الدموية
تحاكي رواية مطر حزيران تاريخاً مؤلماً وقع في قرية زغرتا، عندما نشب عنف داخل كنيسة القرية وراح ضحيته مئات القتلى وعدد كبير من الجرحى، بسبب خلاف عائلتين داخل القرية، وقد أعاد جبور الأحداث والأماكن في روايته بمسميات مختلفة وأماكن متخيلة، ولأنه ولد فيها، سيكون له دور ملموس في ملامسة الأحداث المتخيلة في الرواية، وبناء عليه يسهل على القارئ التعايش مع أحداثها وكأنه واحد من شخصياتها.
حين يتخذ الروائي من واقعة تاريخية مادة لروايته، يتعين عليه أن يوازن بين مقتضيات الأمانة التاريخية ومتطلبات الفن الروائي، أو أن يُغلب الثانية على الأولى لينسجم مع نفسه وطبيعة عمله، فالروائي ليس مؤرخاً ولو اتخذ من التاريخ مصدراً لروايته، لذلك فهو يخلق شخصياته، ويتخيلها، بناء على إطار عام من الأحداث التاريخية الذي يستطيع أن ينتج تلك النماذج البشرية دائماً وأبداً.
“حكاية حزيران”، هي مجموعة من الحكايات لضحايا زغرتا، حكايات تتعاقب وتتزامن وتتقاطع في أن أبطالها هم ضحايا الصراع والخلفية الاجتماعية، وهي خلفية جبلية بدوية، النظام الاجتماعي فيها يقوم على العائلة والبيوت الكبيرة التي تجمع شمل أبنائها وتُغذي فيهم العصبية العائلية والشعور بالقوة والانتماء إلى تاريخ عريق، يحط من قدر البيوت الأخرى، ويتم تصنيف الناس في هذا النظام بين من دفعوا دماً ثمن حصانتهم، وبين آخرين لا حصانة لهم ويسري عليهم القانون، وفي ظل هذا النظام نرى أن ثمة إعلاء لقيم الذكورة والثأر والتباهي بالسلاح وعدم إيذاء الغريب.
اختار الدويهي خطاباً روائياً يتناسب مع العالم المرجعي الذي يرصده بما فيه من تفكك وانقسام وصراع متعدد الأبعاد، فجاءت فصول الرواية مستقلة عن بعضها، لا رابط بينها ظاهرياً، فلا يبدأ الفصل حيث انتهى السابق، ورغم تلك الاستقلالية التي تحكم جو الرواية، ثمة فضاء روائي واحد تدور فيه الفصول وتتقاطع في وقائع معينة، ماعدا الحكاية الرئيسية التي تشغل فصولاً عدة، وبهذا يكون الدويهي قد اصطنع خطاباً روائياً غير تقليدي، تتجاور فيه الحكايات وتتنافر ولكنها تتكامل في نهاية الأمر.
يحاول الدويهي في روايته أن يغطي الطيف اللبناني، فنجد في التعدد في الرواة في روايته والصيغ التي مارسها في السرد، أنها نوعاً من أنواع الديمقراطية الروائية التي تتيح للشخصيات أن تقول حكاياتها وشهاداتها على الأحداث دون إملاء من الراوي كلي العلم.
رؤى الدويهي
يجد جبور الدويهي في المناطق الفقيرة، التي تنغلق فيها الآفاق، بيئات خصبة للتجارب مع حركات التطرف الأصولي التي تنمو كالفطر، في مناطق مختلفة من العالم، بدءًا من أفغانستان، وحتى العراق، وانطلاقاً من هذا الفهم عند الدويهي، نجد أن حي الأمريكان في مدينة طرابلس بشمال لبنان، يتساوى مع مخيم عين الحلوة في جنوبه، حين يتعلق الأمر بالتفاعل مع الحركات الأصولية، رغم اختلاف شكل الأداء التفاعلي بين المخيم والمدينة والدور الذي يؤديه كل منهما، في علاقته مع دائرة التطرف الأوسع.
وتتسع رؤية الدويهي لظواهر التطرف واستيعابه لشروط تفاعلاتها فتمكنه من تأطير تسلسلها في الداخل والخارج، لتظهر في الرواية أقرب إلى المتواليات التاريخية المنتظمة وبالشكل الذي يبقي تجربة الابن مفتوحة على مصير الأب رغم الزمن الفاصل بين التجربتين.
وبأدواته المتمكنة يقدم جبور الدويهي أكثر من شكل لتاريخ لبنان، وأحياناً يقدمه كمهزلة ومحاكاة ساخرة، كالذي فعله في روايته “طُبع في بيروت”، حيث قدم تاريخ لبنان من خلال المطبعة، أو كأنها تأريخ للطباعة في بيروت من الصعود إلى الانهيار، وتمتلئ روايته بالإيحاءات السياسية التي تتماهى مع فترات مفصلية في تاريخ لبنان، من خلال إطار عام يفكر فيه الكاتب في جماليات الطباعة ومستقبلها، في الوقت الذي يتحضر فيه سوق الكتاب إلى هجر الكتاب المطبوع، واعتناق أشكال جديدة للكتابة والنشر والقراءة، وما تستدعيه تلك الأشكال من عادات وممارسات وقيم جديدة، ومن خلال روايته تلك يدعو جبور إلى التفكر في هذا الانتقال وماهيته وجدواه وما سينتج عنه، عبر إدخالنا وإعادتنا إلى زمن دخول الطباعة في لبنان ورصد تحولاتها وتاريخها.
وفي روايته شريد المنازل، يحدثنا الدويهي عن الهوية الضائعة والمشتتة في زمن الحرب الأهلية، فبطل روايته يطالبه الجميع بتعريف نفسه وفصيله، أدرزي أم يساري أم مسيحي أم فلسطيني أم مسلم سني أو شيعي، ولكنه يستمر في الهوام على وجهه، يعطي الجميع دون أن ينال مقابلا ودون أن يطلب تعريفاً بهم، حتى مات.
عاش جبور في لبنان في سنينها الصعبة، ورحل عنها في سنين أكثر صعوبة، في حرب الفقر والاقتصاد، لتستمر مآسي لبنان التي لا تنتهي.
- عن موقع عربي 21