ميلياجروس ابن مدينة جدارا الأردنية..‏ أشهر شعراء النّسيب في العصر اليوناني

د. محمد علي الصويركي

وُلد الشاعر ميلياجروس في مدينة (جدارا:‏Gadara‏) التي تقوم على أطلالها اليوم بلدة ‏‏(أم قيس) الأردنيّة. ويُعدُّ زعيم شعراء المدرسة السوريّة التي ظهرت في أواخر ‏العصر الإسكندري، وهو العصر الذي تزعّمت فيه مدينة الإسكندريّة الحركة الأدبيّة ‏والفكريّة والعلميّة زهاء ثلاثة قرون. ترك لنا هذا الشاعر مقطوعاته الشعريّة ‏‏(إبجراماته) المتعدِّدة الأغراض، خاصّة في موضوع النّسيب، وبعض المصنّفات ‏الفلسفيّة، ذات الأسلوب الممزوج ما بين الجدّ والهزل.‏

الشاعر ميلياجروس (‏Meleagros‏)، هو زعيم أحد ضروب الشِّعر اليونانيّ المعروف ‏باسم (الإبجرامة)، وهذه الكلمة تفيد بمعناها الحرفي “النَّقش”؛ أي (النَّقش على القبور ‏والنّذور)، أمّا اصطلاحًا: فهي عبارة عن مقطوعة شعريّة تتميَّز بالسلاسة والإيجاز، ‏وتتضمَّن بيانًا وجيزًا عن المتوفى والنّذر، ثم تطوَّرت عن غرضها الأوَّل بعد فترة، ‏واتَّخذها الشعراء أداة يبوحون بها عمّا يختلج في صدورهم من أحاسيس ومشاعر، ‏ويضمِّنونها بعض الأفكار والآراء، وصار من أغراضها: الغزل، الوعظ، وصف ‏الطبيعة، النقد الأدبي أو الاجتماعي، نظرات وتأمُّلات في الحياة، المدح، الهجاء، ‏المرح… مع ملاحظة أنَّ طول الإبجرامة اليونانية لم يزد عن ثمانية أبيات شعريّة أو ‏أكثر قليلًا، مع التزامها باللفظ اليوناني. ‏

يُعدُّ ميلياجروس زعيم شعراء المدرسة السوريّة التي ظهرت في أواخر العصر ‏الإسكندري، وهو العصر الذي تزعّمت فيه مدينة الإسكندرية -عاصمة البطالمة ‏اليونان بمصر- الحركة الأدبية والفكرية والعلمية زهاء ثلاثة قرون، بدأت من القرن ‏الثالث قبل الميلاد، وامتازت مدينة الإسكندرية حينذاك بمبانيها الجميلة، ومعابدها ‏الفخمة، وشوارعها الطويلة الواسعة، وميادينها الرّحبة، وحدائقها الغنّاء، وعرف ‏مجتمعها اليوناني أسباب التّرف واللّهو، وكان لهم فيها مكتبتها الكبيرة، التي تعدُّ مفخرة ‏العالم القديم، وكان لها أكاديميّتها المشهورة التي كان يتقاطر عليها رجالات الأدب ‏والفكر والعلم من كل مكان، وفي ظلِّ هذه الحريّة كان لها الفضل الأكبر على ما ‏جادت به قرائح الشعراء في مختلف فنون الشعر.‏

• سيرة حياته

وُلد الشاعر ميلياجروس بن يوكراتيس في مدينة (جدارا:‏Gadara‏) التي تقوم على ‏أطلالها اليوم بلدة (أم قيس) الحاليّة الواقعة في الطرف الشمالي الغربي من محافظة ‏إربد بالأردن. وقد تمتعت (جدارا) بموقع استراتيجي مهم، كونها تشرف على نهري ‏اليرموك والأردن، وعلى بحيرة طبريا، وقد كانت فيما مضى إحدى مدن رابطة المدن ‏العشر اليونانية (الديكابوليس)، وفي أيام هذا الشاعر كانت (جدارا) مدينة زاهرة تشهد ‏لها بذلك آثارها البالغة الرّوعة، وما تزال بقايا أسوارها القديمة واضحة للعيان، وكذلك ‏أساسات صف كامل من المنازل، وبقايا صفّين من الأعمدة تزيّن شارعها الرئيس، ‏وبها مسرحان في الجهتين الشمالية والغربية منها، ولا تزال الأعمدة المهشّمة وتيجانها ‏مبعثرة في بعص أجزائها، ويمكن رؤية النواويس والقبور المنحوتة في الصخر، كما ‏قُدَّت أبوابها الكبيرة من كتل الحجر الهائلة، وكان لينابيعها الساخنة شهرة عالمية، تلك ‏الموجودة في أسفلها على ضفاف نهر اليرموك، أمّا أراضيها فكانت خصبة جدًا، لكنَّ ‏عاديات الزَّمن، وتتابُع الليالي والأيام، والزلازل، وعبث الإنسان أدّى إلى هدم المدينة، ‏وتحويلها إلى أطلال دارسة، باستثناء بقيّة من معالمها لا تزال صامدة تقاوم عاديات ‏الأيام، وقد قامت على أنقاضها بلدة (أم قيس) الحالية كما أسلفنا. ‏

يبدو أنَّ شاعرنا ميلياجروس قد انحدر من أسرة يونانية الأصل، ويُحتمل أنَّ والده أو ‏جدّه قد رحل إلى سورية واستوطنها، واستقرّ في مدينة (جدارا)، حيث اجتذبت البلاد ‏السورية بعد فتوحات الإسكندر المكدوني الكثير من اليونانيين والمقدونيين، واتخذوا ‏من مدنها موطنًا ثانيًا لهم، فشاعرنا وُلد في جدارا، وفيها نشأ وترعرع، أمّا اسمه ‏فيرجع إلى إحدى الشخصيات الشهيرة في الأساطير اليونانية، فميلياجروس هو ابن ‏‏(أونيوس) ملك مدينة (كليدون) الواقعة في إحدى جزر اليونان، وقد غضبت عليه ‏الآلهة (آرتيميس) ابنة (زيوس) إله اليونانيين الأكبر لأنه لم يخصّها بالقرابين –كما ‏تروي الأسطورة- فأرسلت إليه خنزيرًا بريًّا ليخرِّب مدينة كليدون، فانبرى له ‏‏(ميلياجروس) مع جماعة من الأبطال وقضوا عليه، أمّا اسم والده (يوكراتيس) فمعناه: ‏الوديع أو الأنيس.‏

ولا يُعرف بالتَّحديد اليوم الذي وُلد فيه شاعرنا ولا يوم وفاته، ولكنه عاش ما بين ‏أعوام (120-50) قبل الميلاد، وكل ما نعرفه عن حياته أنه سوري ولد في مدينة ‏جدارا (أم قيس) الحالية، وقضى سني رجولته في مدينة (صور) الفينيقية، وأمضى ‏شيخوخته في جزيرة (كوس)، وأنه يعتبر نفسه مواطنًا عالميًا، وقد توفى في سن ‏متأخرة، وأنه وهب نفسه خادمًا في محراب (إيروس) ابن (أفروديته)، إله الحب ‏والجمال، و(الموساي)، وهنَّ ربّات الشعر والرقص والفنون، و(الخاريتيس)، وهنَّ ‏ربّات الملاحة والفتنة. ‏

وتُشير المنظومة الشعريّة (الإبجرامة) التالية إلى جملة من الحقائق عن هذا الشاعر:‏

‏(خفِّف الوطء، أيها الصديق، إذ يرقد بين الموتى الطاهرين، شيخ غمره النوم الأبديّ ‏الذي هو مآل البشريّة، ميلياجروس بن يوكراتيس، الذي أوقد الصلات بين “إيروس” ‏و”ربّات الملاحة والفتنة”، لقد بلغ مبلغ الرجال في “صور” ربيبة السماء، وأرض ‏‏”جدارا” الطيبة، واحتضنته في شيخوخته “كوس” الحبيبة مهد الميرويين (نسبة الى ‏ميروبس عاهل كوس الذي تسمّى أهل الجزيرة باسمه)، إن كنتَ أيها الصديق سوريًّا، ‏أحييك تحيّة سورية، وإن كنتَ فينيقيًّا، أحييك تحيّة فينيقية، وإن كنتَ يونانيًّا أحييك ‏تحيّة يونانية، حيِّني بمثل ما أحيّيكَ به”.‏

وهذا جلّ ما ذكره الشاعر عن حياته، ويمكننا بمساعدة إنتاجه الأدبي، أن نكوِّن فكرة ‏بسيطة عن حياته، فقد أمضى سنوات طفولته وصباه في مسقط رأسه في مدينة ‏‏(جدارا)، وتلقّى العلم الأوّلي في مدارسها ومعاهدها العلميّة، فدرس اللغة اليونانية، ‏والفلسفة، والبلاغة، إذْ كانت منارة للآداب والعلوم والثقافة الهلينية اليونانية، وكان ‏يقصدها طلاب العلم من مختلف مدن سوريا والبلاد المجاورة، ولعلّه بدأ بقرض ‏الشعر في صباه، ثم غادر مسقط رأسه (جدارا) إلى مدينة (صور) الفينيقية، وربَّما ‏قصدها لدراسة الفلسفة؛ حيث كان بها مدرسة للفلاسفة المشّائين والرواقيين، وقضى ‏في هذه المدينة زهرة عمره، وفيها جادت قريحته بأجمل أشعاره المسمّاة (إبجراماته) ‏في الحب والنسيب، وصنّف بها بعض الكتب الفلسفية، وبعد أن مكث بها سنين مديدة، ‏وأشرف على الشيخوخة، يمَّم شطر جزيرة “كوس” اليونانية، التي اتصفت بالهدوء ‏والسحر، ربَّما هربًا من مدينة صور الصاخبة الماجنة، ليعيش بقيّة العمر في حياة ‏وادعة هادئة، حيث وافاه فيها أجله المحتوم.‏

والمطَّلع على أشعاره، يبدو أنه لم يزاول مهنة محدَّدة، فكان ميسور الحال، بل على ‏درجة عالية من الغنى والثراء، ولم يسعَ إلى استجداء الأثرياء، ولم يحاول مدحهم أو ‏تملقهم كما فعل بعض شعراء عصره، ويظهر أنه لم يتزوَّج، حيث عاش حياة بوهيميّة ‏عابثة ألْهته عن الأحداث السياسية التي عاصرته، وعلى العموم لم يكن ميلياجروس إلا ‏شاعرًا، وشاعر نسيب بخاصّة.‏

• إنتاجه الأدبيّ

ترك هذا الشاعر مقطوعاته الشعرية (إبجراماته) المتعددة الأغراض خاصة في ‏موضوع النسيب، وترك بعض المصنفات الفلسفية، ذات الأسلوب الممزوج ما بين ‏الجدّ والهزل، وهي على غرار مصنّفات (مينيبوس) الجدري (وهو أستاذ ميلياجروس ‏وفيلسوف كلبي عاش في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد)، لكن لم يصلنا ‏منها شيء يُذكر، فموضوعاتها أشبه بالمواعظ الفلسفية الشعبية التي كان الفلاسفة ‏الكلبيون يلقونها على الشعب ترويجًا لفكرة التقشُّف ومحاربة التَّرف والبذخ، ويرجَّح ‏بأنه صنَّف هذه الكتب أو بعضها في مدينة “صور” حيث درس فيها الفلسفة.‏

أمّا مصنَّفه الذي يدين له الشاعر ببعض شهرته فهو “مختارات شعرية” تسمّى ‏‏”الإكليل”، وقد صنَّفه في أواخر سني حياته بجزيرة “كوس”، وأهداه إلى صديقه ‏‏(ديوكليس)، وضمَّنه أشعار ثمانية وأربعين شاعرًا من شعراء العصر الذهبي للشعر ‏اليوناني وعصر الإسكندرية، ولم يصلنا هذا المصنَّف، وقد اعتمد عليه كونستاتينوس ‏كيفيلاس (حوالي 917م) في تصنيف مختاراته المعروفة باسم “الأنثولوجية ‏البالاتينية”، ولكن القصيدة الافتتاحية التي صدَّر بها ميلياجروس “إكليله” قد وصلت ‏إلينا كاملة، ولها قيمة أدبية كبيرة، فقد تضمنت أسماء الشعراء الذين اختار أشعارهم، ‏وكذلك رأيه الشخصي في نفحات كل واحد من هؤلاء الشعراء، فقد شبَّه نفحاتهم ‏بالأشجار والفاكهة والورود والأعشاب بوصفها وسيلة من وسائل النقد، وقد وُفِّق في ‏نقده، ويعود ذلك إلى شاعريّته الأصيلة، وإحساسه المرهف، وحسن تذوُّقه للجمال.‏

أمّا أشعار “إبجرامات” ميلياجروس التي حفظتها لنا “الأنثولوجية اليونانية” فهي خير ‏ما يمثل ما بلغه شعر الإبجرامة في عصره الذهبيّ، والعصر الإسكندري، في أكمل ‏صوره، وقد أضفى عليها من شاعريّته ما ساعدها على بلوغ ذروة الكمال، واجتمعت ‏سمات الغرب والشرق لأوَّل مرَّة في أشعاره، الغرب بعاطفته الرقيقة الصافية، ‏والشرق بعاطفته المتأجِّجة، فأضحى أسلوبها مزيجًا من الرقّة الهادئة والعاطفة المتَّقدة، ‏والخيال الجامح، والأسلوب المنمَّق المفخَّم.‏

• نماذج من أشعاره

أمّا أشعاره “إبجراماته” في النسيب فهي تربو على المائة، وما هي إلا صدى أحاسيس ‏وتجارب شخصيّة، ويحكي في أكثرها عن قصص حبّه، فكان يسعى دائمًا وراء حب ‏جديد، حيث وفق مع عشيقاته، فكلهن جميلات فاتنات يفُقن أزهار الروض نضارة، ‏وكنَّ شغله الشاغل، وسعادته وشقاءه، ويبدو في نفحاته الشعرية عابثًا، ماجنًا، ‏مستسلمًا لغرائزه، لا همَّ له إلا السهر بالليل، واحتساء بنت العنب، والمنادمة، وأخذ ‏أكبر قسط من حياة المتعة، حتى غدا الحب في أشعاره عقيدة وعبادة.‏

إنَّ الشاعر قد خُلق لحياة المتعة؛ للحب ومغامراته، والخمر واللهو، ويبدو ذلك جليًّا في ‏المقطوعة التالية، وهي عبارة عن حوار بين الشاعر ونفسه، فهو يذهب إلى دار ‏معشوقته، طبقًا للتقليد اليوناني، بعد أن احتسى الشراب، ليعلِّق على باب الحبيبة إكليلَ ‏الأزهار:‏

‏(فليلق بقطعة النّرد، أوقد المشاعل، إني ذاهب، انظر! يا لها من جرأة، أيها المخمور ‏الثمل! ماذا دهاك؟ سأذهب إليها مستمرحًا… أجل سأذهب، فيمَ تشرُد يا حجاي؟ هل ‏يعرف الحب التردُّد؟ أوقد المشاعل في الحال، وأين حرصك السابق على دراساتك ‏الفلسفية؟ إلى حيث ألقت جهودي المضنية في دراسة الحكمة، إني أوقن بشيء واحد ‏فقط، هو أنَّ “إيروس” قد أطاح بنهى زيوس نفسه).‏

لقد وقع الشاعر في شراك الحب، وأخذ يعدِّد عشيقاته، ويقسم فيها “لإيروس” بما ‏يستهويه قلبه منهنّ، وأنه لم يعُد مكان في قلبه لحب جديد:‏

‏(فلا أقسم بغدائر “تيمو”، ولا بخف “هيليودورا”، ولا بحذر “ديماريون” الذي لا يزال ‏يقطر عطرًا، ولا أقسم بالابتسامة الرقيقة التي لا تفارق شفتي “أنتيكليه” ذات العينين ‏النجلاوتين، ولا بإكليل الزهور النديّة التي يتحلّى بها جبين “دوروثية”، نعم إني لا ‏أقسم يا “إيروس” بأنَّ جعبتك لم تعد تحوي شيئًا من سهامك المارقة، فقد استقرّت كلها ‏في صدري).‏

كما يتحدَّث عن الإله “إيروس” ويشير إلى سلطانه وجبروته، وصوره كمتوحش ‏مخيف، له جناحان يسابق بهما الريح، ومزوَّد بقوس يصوِّبه نحو القلوب، وله أظافر ‏ينشبها في القلوب فيدميها:‏

‏(لا يفارق ضجيج “إيروس” مسمعي أبدًا، وتغرورق عيناي في هدوء بالدموع الحلوة ‏قربانًا على مذابح آلهة الرغبة، فلا الليل ولا النهار يخلدان إلى السكون، فطلسمه ‏المعروف قد استقرَّ في خفايا قلبي، أي آلهة الحب، هل أنتم قادرون فقط على الطيران ‏صوب ضحاياكم العاجزين عن مبارحتهم، فلا تبغون عنهم حولًا”.‏

ويخاطب الشاعر روحه، ويذكِّرها بتحذيره إياها من بطش هذا الإله “إيروس”، ومع ‏ذلك فقد وقعت في المحظور وذاقت الأمرّين:‏

‏(أي روحي، ألم أحذّرك بأعلى صوتي؟ ألم أقسم لك “بالقبرصية” أنك سوف تقعين في ‏شباكه؟ ها أنتِ. يا من أضناك الجوى، تطيرين مسرعة إلى حتفك؟ ألم أحذّرك ‏صارخًا؟ ها قد وقعت في الفخ، لم تحاولين عبثًا الخلاص من قيدك؟ قد أحكم ‏‏”إيروس” نفسه وثاق جناحيك، وألقاك في السعير، وذرّ عليك بخورًا، ولمّا جفّ ‏حلقك، سقاك دمعًا حارًا تطفئين به غلتك).‏

تغنّى الشاعر بعشيقاته العديدات، وأسرف في إطراء ملاحتهنّ، ومواضع الحسن ‏فيهنّ، وتحدَّث عن علاقته الغرامية بهنّ، ولكنَّ عشيقتين كان لهما الحظوة عنده، وهما ‏‏”زينوفيلا” و”هيليودورا” اللتان عرفهما في مدينة “صور”، التي قضى بها ربيع ‏حياته، وعبَّ فيها كؤوس المتعة حتى الثمالة، فإن شئنا أن نتعرَّف عليه عاشقًا ‏وشاعرًا، فإنَّ أشعاره في هاتين المعشوقتين وحدهما، لتلقي الضوء على سلوكه وفنِّه ‏وأسلوبه.‏

‏ فها هو يشير إلى محاسن “زينوفيلا” من حيث جمال إيقاعها، وجاذبية حديثها، ‏وملاحتها تأسر الفؤاد، ويعزو هذا إلى صنع الربّات اللائي أضفين عليها هذه ‏المحاسن:‏

‏(إنَّ ربّات الشعر والفنون، ذوات الصوت الرخيم، وقد منحنك مهارة في العزف، ‏وربة الإغراء وقد أضفَت على حديثك الفطنة والجاذبية، و”إيروس” وقد رعى حسنك، ‏قد وهبوك صولجان آلهة الرّغبة، ولمّا كانت ربّات الملاحة والفتنة ثلاثًا، فقد أفضنَ ‏عليك نعمهنّ الثلاث).‏

وفي المقطوعة الشعريّة التالية التي تشهد بشغف الشاعر بالطبيعة وأزهار الربيع، ‏يتحدَّث عن جمال “زينوفيلا”، فهي الزهرة اليانعة النضرة التي تفوق في نضارتها ‏وعبيرها الأزهار الجميلة ذات الشذى العطر:‏

‏(ها هي زهرة البنفسج الأبيض قد تفتَّحت أكمامها، وكذلك النرجس ربيب الغيث، ‏والزنبق أليف الرّبوات، وها هي “زينوفيلا” قد أينعت، إنها بهجة الحب، ووردة ‏الإغراء الحلوة، وزهرة زهرات الربيع، لمَ الفرح، أيتها الرياض المختالة بضفائرك ‏المتلألئة؟ إنَّ محبوبتي تفوق أزهارك العطرة نضارةً وعبيرًا).‏

كما يتغنّى الشاعر بجمال جسد معشوقته الغضّ، وها هو يضرع إلى البعوض أن يدع ‏‏”زينوفيلا” تنام في هدوء، ثم يتوعّده بالانتقام إذا ما سوّلت له نفسه مضايقتها:‏

‏(أيتها البعوضات ذوات الطنين العالي، أيتها الشرذمة الضعيفة، يا مَن تمتصين دماء ‏البشر، يا وحوش الليل الضارية المجنّحة، دعي “زينوفيلا”، أضرع إليك، تنام قليلًا ‏في سلام، وتعالي إليّ، والتهمي أطرافي هذه، ولكن أتوسّل إليك عبثًا؟ فحتى الوحوش ‏التي لا تعرف للحنان طعمًا، تبتهج بجسدها الغضّ الدفيء، ولكني أنذرك من الآن، ‏أيتها المخلوقات اللعينة، أن ترتدّي عن هذه القحة، وإلا فسوف تقاسين بأس يدي غيور ‏حاقد).‏

أمّا نفحات الشاعر في محبوبته “هيليودورا” فقد عبَّر فيها عن فيض وجدان صادق، ‏وهيام حقيقي، جعلته في مصاف العشاق الخالدين، فبالغ في إطرائها، والقول إنَّها ‏كانت تفوق ربّات الملاحة والفتنة حُسنًا، وفي حماسة المُحب الغارق في حبّه، يتغنّى ‏بصورتها التي أودعها “إيروس” في قلبه:‏

‏(رسم “إيروس” بيديه في حنايا قلبي صورة “هيليودورا” ذات الحديث المعسول، روح ‏الروح).‏

وقد أعجب الشاعر ببشرة “هيليودورا” الرقيقة المغرية، وقد جذبت بشرتها النحلة ‏فحطّت عليها مؤثرة إيّاها على أزهار الربيع:‏

‏(لمَ تهجرين، أيتها النحلة، يا مَن تعيشين على رحيق الزهور، براعم الربيع، وتحطّين ‏على بشرة “هيليودورا”؟ هل أنت فيما تفعلين، تبغين أن تُعلني على الملأ أنَّ لها حلاوة ‏الحب وإبره اللاسعة، صعبة التحمُّل ومفعمة القلب بالآلام؟ أجل يلوح لي أنَّ هذا هو ما ‏تقولين، إليك عنها، وعودي إلى أزهارك، أيتها العابثة، فإنَّ قصتك التي ترجعينها على ‏مسامعي، لقصة معروفة معادة).‏

استأثرت “هيليودورا” بقلب الشاعر أكثر من “زينوفيلا”، فكتب مرثيّة لها بعد وفاتها، ‏تنهمر فيها العبرات، وتشعُّ في عباراتها الحسرات، وتحمل ذكرى الحب والحنين:‏

‏(دموعي، ذكرى حبّي، أهبها لك يا “هيليودورا” في مثواك الأخير، دموعي القاسية ‏الانهمار، أسكبها مدرارًا على قبرك، مزجي الدمع السخين، ذكرى الحب والحنين، ما ‏أحرى “ميلياجروس” بالرثاء والرحمة، فأنا أنتحب عليك، وما زلتِ العزيزة عليّ في ‏موتك، وأئنُّ أنينًا مبرحًا، أقدِّمه قربانًا لا خير فيه للعالم الآخر، واحسرتاه، واحر قلباه، ‏أين صغيرتي الجميلة، بغية قلبي؟ لقد اختطفها إله الموت وسلبني إياها، وعبث ‏بالزهرة المتفتّحة اليانعة، آه… إنني أضرع إليك أيتها الأرض أمّي الحنونة، ويا أم ‏الورى، أن تضمّي في حنان إلى صدرك هذه الوديعة، التي يبكيها الناس قاطبة).‏

هذه بعض نفحات الشاعر ميلياجروس ابن مدينة جدارا (أم قيس) التي تحكي قصة هذا ‏الشاعر السوري الأردني الذي وهب نفسه للحب ومغامراته العنيفة، فهو يتجلّى فيها ‏عاشقًا كبيرًا، إلا أنه لم يكن مثاليًّا في عشقه، بل كان صريع نزواته، وشهيد خليلاته ‏من بنات الهوى اللعوبات ضمن ثقافة زمنه وبيئته حينذاك، وإنَّ القارئ لأشعاره، ‏ليحسّ بجمال الأسرار، وطلاوة الاعترافات، وروح متعطشة للحب، فقد تبوّأ مكانة ‏مرموقة بين شعراء عصره، وذلك لقدرته على التصوير، وأسلوبه الشيق، وبراعته ‏في قرض الشعر، وتملُّكه ناصية اللغة اليونانية، واستخدام الصور البلاغيّة بمهارة.‏

هذا هو ميلياجروس الشاعر السوري الأردني الذي تبنّى (إبجرامة) النسيب اليونانية ‏إحدى درر عصر مدينة الإسكندرية الأدبية، فأمدَّها بروح الصّبا، وغمرها بعواطف ‏الشباب الجيّاشة، ونزعاته العارمة، واقتفى أثره شعراء العصور المتعاقبة، وخير مَن ‏تحدَّث عنه الدكتور محمد السلاموني إذ قال:‏

‏”أشعَر شعراء الشَّرق الذي كان أوَّل مَن استطاع أن يجمع في نفحاته بين عمق الشرق ‏وطرافته، وصفاء الإغريق ورقّتهم”.‏

‏- – – – – – – – – – – – – – – – -‏

‏* المراجع:‏

‏- الأنثولوجية اليونانية. ‏

‏- ميلياجروس السوري: محمد السلاموني، مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، 1966

  • عن مجلة أفكار – وزارة الثقافة الأردنية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *