«حيوات سحيقة» للأردني يحيى القيسي: الذات بين جدل الحاضر والماضي

«حيوات سحيقة» للأردني يحيى القيسي: الذات بين جدل الحاضر والماضي

* د. رامي أبو شهاب

 

تنطلقُ رواية «حيوات سحيقة» الروائي الأردني يحيى القيسي، الصادرة عن دار خطوط وظلال 2021، على مركزية عنوانها الذي يختزل مقصدها الدلالي على الرغم من تداخله في سياقات متعددة، ومع ذلك يمكن القول إنه ما زال متصلاً بمركزية جدلية في الثقافة العربية، على مستوى البنية الحضارية، وقوامها محاولة توصيف ذلك القلق القائم في الشخصية العربية، التي واجهت وعياً جديداً بعد أفول الحكم العثماني، ومن ثم زوال الحقبة الاستعمارية، وهي مرحلة تبدو شديدة الإرباك، في محاولة إعادة تشييد الذات العربية، وتعدد المرجعيات وتداخلها، كما تحتمل الرواية سؤالاً عميقاً تسنده فكرة التطلع للتاريخ، ومحاولة تمكين النموذج النقدي، مع التأكيد على أن الذات العربية هي، محصلة حيوات أو دورات تاريخية يكتنفها الكثير من الجدل، ضمن محاولة إعادة التأويل، والكتابة ضمن لافتة عامة قوامها الجدل، نتيجة أسر الماضي، وهيمنته على الذات ومستقبلها.

تكوين الحدث وبناء الدلالة

حرص يحيى القيسي على تمكين نموذج الحبكة التي تتصل بحدث عمل على ترجمة التّحول في تكوين الشخصية، وتبريره سردياً، والحدث يتمثل بسقوط أحد المشاركين (صالح) أثناء إنتاج فيلم عن مدينة البتراء، يتتبع رحلة الرحالة السويسري بيركهارت – مكتشف مدينة البتراء في الأردن- وهنا علينا أن نحدد عدداً من المراكز الدلالية لبنية المكان، والزمن، فالمكان يمثل مركز عمق تاريخي حيث كان العرب الأنباط جزءاً من المشهد، وهنا تبدو سطوة الإرث التاريخي العريق، الذي مكث لسنوات بلا اكتشاف، أو بعبارة أخرى قبل أن يأتي الآخر، أو الغربي ليضيء جزءاً من تاريخنا. أما على مستوى الزمن، فثمة تداخل واضح بين عدة أزمنة منها، زمن الراوي أو السارد، ونعني «صالح» الذي يحيل إلى الحاضر، في مقابل زمن رحلة «بيركهارت» ضمن تقنية الاسترجاع، الذي يعتمد نموذجاً تقابلياً في السرد، كما ثمة أزمنة أخرى تستعاد، لكن في داخل وعي «صالح» وهي تتصل بالتاريخ العربي الإسلامي. أما على مستوى تشكيل بنية الحدث فإن فعل السقوط في كهف من الكهوف أو شق من الشقوق الصخرية بالقرب من مقام ما في تلك المنطقة، يعضده تناول مزيج قديم يشبه العسل نتيجة الجوع، كما محاكاة عملية الذبح للقربان في الفيلم.
كل ما سبق يحفز مركزية الوعي أو اليقظة التي تصيب الإنسان، وكأن هذه العوامل تفتح جملة دلالات تتصل بأهمية التنبه واليقظة، وتجاوز الغفلة، في حين تعتمد الصيغة السردية كتلاً من الحوار الداخلي، ونماذج الإسقاط في تأويل الحدث، لقد حفز هذا السقوط فعل الرؤية، حيث تبدو ظلال المكان، وتلك الفترة التي قضاها «صالح» في الكهف، حدثاً يقترب من الغرائبي من حيث الأثر والتكوين، الذي يبرز بعد أن يُنقذ «صالح» ويعود إلى حياته السابقة، لكن لم يعد كما كان، فثمة جملة من التحولات التي صاغت وعيه الجديد، وقراءته للمعاصر، والماضي، ومما يحفز هذا التّحول الطارئ، المرور بهذه التجربة التي تقترب من التسامي، نتيجة الخوف والجوع، بوصفها تجربة تقترب من البعد الصوفي، أو الروحي، فلا جرم أن تحمل عناوين الفصول إحالات صوفية، كما في الفصل الذي يرصد فعل التحول وحمل عنوان «رؤى مشظاة لمريد حائر».
تتكون مسارات الرواية من حدث مركزي طرأ على شخصية «صالح» بعد الصدمة أو السقوط، ولاسيما بعد أن يقوم بإجراءات صحية وعضوية، تثبت خلوه من أي عارض صحي، لكن تلك الصور التي يراها، ما فتئت تحيله إلى التقمص أو التناسخ، وقوامها أن الوعي في حالة انتقال مستمر، وفي هذه الحالة فإن ما يراه «صالح» ليس سوى أمشاج، أو بقايا وعي حيوات أخرى، غير أن رؤاها الطارئة، وتلك الاستيهامات أو الرؤى المستعادة من الماضي تسكنه، فتبدو أحداثاً غرائبية أو ميتافيزيقية، ومن هنا تبدأ عملية البحث عن إجابات، وتأويلات لها.

مسارات الرؤى

في سياق هذا الحدث ثمة روافد تؤطر مقصدية الرواية على مستوى الحفر الدلالي، بالتجاور مع بيان العلاقة التي تنشا بين «صالح» والفتاة الإنكليزية «أليس» التي يتعرف عليها بعد أن يعرض عليه صديقه المخرج، القيام بإنتاج فيلم عن سيدة سويسرية تخلت عن حضارة الغرب لتتزوج مع رجل بدوي من أهل المنطقة، وهو سرد يحيل إلى حدث واقعي، حيث المرأة توجد فعلياً، ويمكن لأي زائر لمدينة البتراء أن يتعرف على قصتها، من خلال مقابلتها، وشراء الكتاب الذي تبيعه مع بعض التحف والمصنوعات.
من ناحية علاقة «صالح» مع الفتاة الإنكليزية «أليس» نلمح استعادة كلاسيكية لبناء قراءة جدلية تحكم العلاقة بين كتلتين حضاريتين: الشرق والغرب، لكن الأخير قد تجاوز عقدة المحاكمة التي ما زالت تكمن في وعي الذات الشرقية، ومع ذلك يدين الروائي على لسان الراوي الماضي والإرث الاستعماري للغرب – وقد سبق أن شكك بنوايا المستكشف السويسري، الذي حضر متنكرا بشخصية شيخ ألباني – في حين نقرأ إدانة أخرى على لسان الفتاة الإنكليزية للاقتتال الديني في وسم القرون السابقة في أوروبا، وهكذا يبدو نقد هذا المسلك نهجا لم تسلم منه أمة على مرّ التاريخ، لكن معضلة الشرق تتحدد بأن أثر الماضي ما زال يصوغ وعينا، ونهجنا، فلا جرم أن نرى في ذلك التشوه التاريخي أثراً قائماً، إذ تحيل الرواية إليه عبر الصديق أو الجار، الذي يقطن في مدينة الزرقاء بالقرب من عائلة «صالح» كي يكون تمثيلاً أيديولوجيا للتطرف، ونهج التكفير الذي يمثله هذا الجار، أو «النمس» مع إشارة إلى سلبية اللقب، مع إحالات سريعة لـ»داعش» والتنظيمات الإرهابية كافة… هكذا تبدو الرواية ضمن فعل تفسيري لتفسير ظهور هذه النزعات في الزمن الحاضر، ولا سيما أنها ألقت ظلالها على أنماط الحياة، وتكويننا الثقافي، كما الصورة العامة للشخصية العربية أو المسلمة، وهذا يبرز عبر تورط شقيق «صالح» مع إحدى الجماعات، لكن من منطلق أزمة الواقع السيئ الذي تعيشه المجتمعات العربية نتيجة الفساد، وتمكن الهزائم، ومن ناحية أخرى ثمة البحث التاريخي الذي يقوم بها «صالح» في عمله، ويعتمد على أرشفة وثائق تكشف التشوه التاريخي.
في غمرة هذه التداخلات تبقى مركزية واحدة تؤطر البناء الدلالي للرواية، وتتمحور حول تكوين الذات، وهيمنة نماذج حضارية عضوية في الذات العربية، التي صاغتها تجارب لا تبدو متزامنة بمقدار ما تبدو متنافرة، ثمة تشكيل على مستوى تقدير البعد الصوفي القائم على متعالية الإدراك لحدود أخرى غير التي نلمسها في سلوكنا اليومي، والأهم سلوكنا الحضاري والتاريخي، وهنا نقرأ في لحظة استعادة تلك الصور والرؤى، مقتل المتصوف الحلاج، وغيره من رموز الثقافة الإسلامية، سواء أكانت ذات النهج الصوفي أو العقلي، وهذا يأتي بالتوازي مع تعداد كبير للكثير من الجرائم التي وسمت التاريخ، ولاسيما بطش السلطات بالعلماء، والصوفيين والأدباء، وهنا نقرأ عبر هذا الحشد السردي مدى عمق الإشكالية، وبالتحديد تجاه قبول الآخر والاختلاف، في حين نلمح نزعة لرسم صورة للذات في تكوينها الماضوي؛ أي نقض بعض التمكين المرجعي لتشكيل الذات عبر الماضي، أو ذلك الإرث الشرقي الذي ابتكرنا له صورة مثالية، مع اقتراب إلى حد ما من نزعة لجلد الذات.
تحفل الرواية بمقاربات تتصل بمستويات عابرة تتناول التكوين الثقافي والحضاري لبعض المدن الأردنية، كمدينتي الكرك والزرقاء وعمان، وتحولاتها، وتكويناتها التي تحيل إلى تنوعات عرقية وثقافية، ونشأة تقوم على التسامح بين الأديان، وغير ذلك من المستويات التي تسعى الرواية إلى الإحالة إليها في ثنايا المتن السردي، كما إحالات للربيع العربي، وغير ذلك من إشارات تكمن بين ثنايا النص، وتحيل إليها.
لعل هذا الوجود البيني لشخصية «صالح» في تنازعات بين الماضي، والحاضر، والامتدادات، يصحبه تشكيل آخر نقرؤه على مستوى علاقته مع الآخر أو الغربي، ويتحدد بوظيفة صديقته الإنكليزية، كما نراه في انتقال صالح للقيام بجلسات مع إحدى الجمعيات الروحية الإنكليزية، والخضوع لتنويم مغناطيسي للكشف عن المتواريات التي سكنت وعيه بعد السقوط في حادثة الكهف، ربما لنخلص في هذا الجانب إلى وجود قصور ينال أثر هذه الجلسات، وعدم قدرتها على الوصول عميقا لما يعتمل في داخل وعي «صالح» وهنا نلمس مفارقة للأثر الغربي من حيث قدرته على إضاءة الذات أو الأنا الشرقية، مقابل نقد المرجعية الماضوية ذات الطابع السلطوي، ولعل هذا يتعزز حين نلمح أن علاقة «صالح» مع الفتاة الإنكليزية لم تثمر على المستوى العملي، فهل يمكن أن نعدها انتهاكا لفكرة الارتباط العضوي بالغرب، بوصفه أحد حلول إضاءة أو تشكيل الذات العربية التي تواجه أزمتها الحضارية، ونسائم الحداثة، وما بعدها، كما نماذج العوالم المادية؟
يبدو حوار «صالح» مع «أليس» ضمن هذه الصيغة حيث تتهمه الفتاة بأنه ما زال أسير الماضي، وهنا تكمن معضلته، فثمة تعالق بين الحاضر، وحوادث الماضي، غير أن الحوار بين «صالح» و»أليس» يكشف أيضاً عن تصور آخر، حيث ترى «أليس» أن الغرب تجاوز عقدة الماضي، في حين أن «صالح» أو العرب ما زالوا عالقين فيها: «هل تعرف ما الفرق بيننا وبينكم بعد كل ما ذكرته لك؟ أنتم بقيتم أسرى لهذا الماضي، ولم تستطيعوا تجاوزه، ولم تأخذوا أفضل ما فيه كي تبنوا مستقبلكم، بينما نحن تجاوزنا ذلك، ومضينا ننتصر لثقافة الحياة والتخطيط للمستقبل». ومن جهة أخرى تبدو صيغ تمثيل الخطاب التكفيري جزءاً من امتداد خطاب العنف والتكفير الذي وسم الماضي، في حين تتشكل المعضلة في الزمن الراهن، ومحاولة البحث عن إجابات من لدن «صالح» الذي يعود في نهاية الرواية كي يتحرر من هذه التعالقات كافة، إلى المنطقة التي سقط فيها، أي إلى النقطة الأولى التي أثارت هذه الأسئلة، فيستعيد مسار الرحلة، وطقوسها، ولعلنا هنا لا نعدم الظلال الدلالية لمعنى الرحلة، بدءاً من رحلة المستكشف السويسري، ونواياه التي لم تكن حقيقة تتقصد القيام برحلة إلى مكة متنكراً، إنما كان يتقصّد تحقيق نواتج استخباراتية، وهنا تتركز مركزية البحث في هذه الإحداثية التاريخية، في محاولة لخلق فعل موازٍ لرحلة «بيركهارت» التي بدت كشفاً عميقاً، لكن جاء على المستوى المادي لتلك المنطقة، في حين أن «صالح» كان يرى أن العودة إلى الكهف هي رحلة ذات طابع آخر، فالكهف يحتمل صيغاً دلالية عميقة، لعلها تكشف عن الكثير، ولطالما كانت الكهوف، أو تلك الشقوق الصغيرة المخبوءة، مصدراً من مصادر الكشف عن الكثير من حقائق العالم، كما مرجع الذات، لكن الرواية تنتهي إلى اختفاء «صالح» لنخلص إلى أن للأمم حيوات متعددة، تصوغ وجودها لتنتهي الرواية إلى سؤال لا يحتمل سوى فيض من الإجابات والجدل غير المنجز.

 

  • عن القدس العربي – لندن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *