“من الأعماق” حمل تجربة أوسكار وايلد الموحشة في السجن

* أنطون أبو زيد

من الأعماق” واحد من أبرز أعمال الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد. وكان قد ترجمه إلى العربية قبل سبعة وخمسين عاماً (1964)، عبداللطيف محمد الدمياطي. واستعادت دار المدى، أخيراً، الترجمة العربية الفريدة للكتاب، وأعادت نشرها. أوسكار وايلد شاعر إيرلندي ذاع صيته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1854-1900)، على أنه طبع المسرح الإنجليزي بطابعه الخاص. وأضاف إلى الشعر الإنجليزي المصنف المستحدث والنيوكلاسيكي بعضاً من لمساته الخاصة، لكن الكتاب، على ما بدا من مضمونه، يركز على جانب التجربة الإنسانية للشاعر، المفعمة بالأسى والندم، والألم، والرؤى الدينية المسيحية الخلاصية، تجربة يخوضها بملئها وهو يقضي محكوميته في سجن ريدنج (1889) لسنتين ونيف، بتهمة المساس بالأخلاق العامة، بعد افتضاح علاقته المثلية باللورد ألفرد دوغلاس.

بدايةً، وقبل الكلام عن أهم الملامح الأسلوبية العامة والسمات في مسرح الكاتب أوسكار وايلد، والتي استدعت نقله إلى العربية، يحسن بكاتب المقالة هذه أن ينوه بعمل الترجمة، من الإنجليزية إلى العربية، التي أعدها عبداللطيف محمد الدمياطي لهذا الكتاب، المتضمن أشعار وايلد التي كان قد خطها في سجنه، بمناسبة إعدام سجين، يدعى تشارلز توماس وولدرج، المتهم بقتل زوجته، إلى رسائل كان قد سطرها لعشيقه ألفرد دوغلاس من ذلك السجن الذي صوره على أنه الجحيم المستحق لعقابه على سالف مسلكه المنحرف مع عشيقه. وللغة العربية المبسطة والدقيقة، والتراكيب البليغة، التي ساقها المترجم الدمياطي الفضل، ما ضاعف الاهتمام بقراءة العمل الأدبي، وتذوق مضامينه، على خير ما يرتجى من أي كتاب منقول إلى لغة الضاد.

إعادة تقييم

في مقدمة الكتاب التي أعدها الشاعر الإنجليزي (المجنس أميركياً عام 1946) ويستن هيو أودن، الحائز جائزة بوليتزر لأكثر من ثلاثين مجموعة شعرية، وسبعة مجلدات نقداً ومسرحاً، إعادة تقييم للرسائل التي بعث بها أوسكار وايلد إلى ألفرد دوغلاس، ولقصيدة “من الأعماق”، ومحاولته الإحاطة بمجمل العوامل المؤثرة وبسائر المصادر الشعرية التي استقى منها، وتأثر بها، مثل ييتس، وهاوسمان، وداوسن، وغيرهم، مع أنه أهمل ذكر العديد منهم، من مثل بريدجز، وكيبلينغ، وغيرهما. ولم ينسَ أودن، في مقدمته هذه، أن يعرج على أهم المحطات في حياة أوسكار وايلد، قبيل انغماسه في علاقته المدمرة مع ألفرد دوغلاس، أو بوزي، وانتهائه إلى السجن، وانهيار أحلامه واضمحلاله، ومن تلك المحطات زواج أوسكار من كونستانس لويد عن “حسن نية” (وهو مثلي الجنس، غصباً عنه)، ومسيرته المظفرة في الكتابة المسرحية، والتي أنتج فيها أربع مسرحيات (بين عامي 1890-1894) أضافت الكثير إلى التراث الدرامي الإنجليزي، في عصره.

unnamed.png
في المقابل، كانت إشارته إلى الجوانب السلبية – من دون أن ينسب إليها هذه السمة – في سيرة وايلد، وإرثه الأدبي، من مثل تأثره المفرط بالشعراء الفرنسيين، المجايلين له، ولا سيما العلاقة المثلية التي كانت بين كل من فيرلين ورامبو، أوائل السبعينيات من القرن التاسع عشر، على ما في طبائع الشخصيتين المتوازيتين من اتفاق؛ إذ كان رامبو نظيراً لألفرد دوغلاس من حيث غضبيّته، وحدّته، وعنفه، في حين أن فيرلين كان نظيراً للشاعر أوسكار وايلد من حيث دعته ورحابة صدره. ولئن كان أودن لم يُشر إلى نزعة التأنق التي تميز بها وايلد، في مقدمته هذه، فلأنه يرى أن الثراء الذي كانت عليه عائلته، لانتمائها إلى الطبقة البرجوازية، ولكون والده طبيب الملكة فيكتوريا، كان يجيز له الظهور بمظهر الأناقة المفرطة، ويسمح له بمقاسمة آخرين مناعم الثراء، ومنها التأنق المشار إليه، وصرف الأموال على الملذات الحسية والموائد الباذخة، كما حدث مع عشيقه ألفرد دوغلاس.

ولكن الكتاب يحمل في طياته المجموعة الشعرية “من الأعماق”، والتي آثر وضع عنوانها باللاتينية (De profundis)، والأصح أن يكون العنوان المستوحى من الكتاب المقدس، “من اللجّة”. وأياً يكن الأمر فإن النشيد الكبير هذا، المتشكل من ست قصائد هي بمثابة وقفات تأملية في المظاهر اللافتة في سجن ريدنج؛ وإن كان يصح القول إن النشيد صيغ لوصف معاناة أوسكار وايلد في السجن، والتعبير عن حالات الانكسار، والإحباط، والندم على ما اقترفه، والتوبة إلى إله الرحمة والغفران، فإنه التفت إلى مظاهر شديدة القسوة، مثل إعدام الجندي الشاب، تشارلز توماس وولدرج، المتهم بقتل زوجته التي لطالما أحبها.

رهبة الإعدام

وفي الشعر أيضاً سرد للحظات الإعدام المهيبة، يقوم بها الجلاد، ويؤازره فيها القاضي، والكاهن، ومدير السجن، الثامنة مساءً، وفيه أيضاً تعرية لمنهج القساوة والتشدد الذي تتبعه الكنيسة ورجال السلطة فيها، فيما يتنافى مع منهج المحبة والمسامحة الذي دعا إليه المسيح، بحسب أوسكار وايلد.

deeee.jpg
أما الرسالة الطويلة، التي استغرقت ثلاثة أرباع الكتاب (ص: 105-299)، والتي خاطب بها الكاتب أوسكار وايلد المعني الأساسي فيها، وهو ألفرد دوغلاس، فكانت كناية عن مرافعة مستفيضة عن ذات أصيبت بالصميم، وانكشف سطح المستور فيها، فمضى يدافع عما بقي من هذه الذات الفنية المتعالية، بكل ما أوتي من حجة وثقافة ومعارف. وقد انقسمت الرسالة، بعد طباعة المخطوطة الأصلية قسمين؛ يخص أوسكار وايلد القسم الأول بتوكيله “روبرت روس” بكل أعماله الأدبية “في حال موتي” (ص: 108)، ما دام على يقين بدنو أجله، لما أصابه من انتكاس صحي وإفلاس مادي كامل، وشعور بالإذلال بعد أن عاش حياةً عامرة باللهو، وبألوان اللذائذ المتاحة وغير المتاحة مع عشيقه ألفرد دوغلاس.ففي هذا القسم، يبين وايلد وبالأرقام، كيف أن دوغلاس استغل ثراءه، ونياته الطيبة، بل وحبه الصادق له، من أجل التنعم بكل الخيرات والمنافع المادية والحسية المقدمة له، على طبق من ذهب، ثم لا يلبث أن يتنكر له حال سقوطه والحكم عليه بالسجن، بل كان السبب في إدخاله السجن، لنشره قصائد ونصوصاً ملفقة – من تركيب دوغلاس – تتضمن عديداً من التجاوزات الأخلاقية التي يحرم ذكرها القانون الإنجليزي، في حينه. وإذ يسترجع أوسكار أيام علاقته بالعشيق دوغلاس، ويتبين له مسلك الاضطراب في مشاعره، وسرعة الانقلاب في مواقفه، في مقابل رحابة صدره، واستعداده الدائم للصفح عنه ومعاودته، يخلص إلى أن أخلاق صاحبه “وضيعة” في الأصل، وأنه كان من العبث استئناف العلاقة مع ذاك الذي قصد إيذاءه وزجه في السجن.وفي القسم الثاني (المطبوع)، إقرار أليم بالخطأ الجسيم الذي ارتكبه، في سالف أيامه مع دوغلاس، نظراً لوضاعة الأخير، وفداحة ما اقترفه بحقه، وبحق الأدب والفن (المسرح) اللذين كان قد كرس لهما حياته. وفيه أيضاً إقرار بالتوبة الصادقة، مرفقة بالدموع الحارة الجديرة بالمؤمن وما يرتجيه من القدير.

طبعاً، يبقى أن يطرح القارى سؤالاً، قد لا تتيحه هذه العجالة، وهو كيف يتلقى القارئ العربي، سواء أكان قارئاً عادياً أو أديباً أو شاعراً، اعترافات أوسكار وايلد، وما هي السمات الإنسانية، بل الكلية، في تجربة وايلد، وتلك الخاصة ببيئته الإنجليزية، والطبقة البرجوازية التي انتمى إليها وفارقها أواخر أيامه ميتاً في باريس تحت ناظري أندريه جيد، في شارع “البو زار”؟ وما تراهم يقولون اليوم في رواية “نورمان غراي” ومسرحياته ونظراته الفنية والجمالية؟ تلك هي احتمالات أخرى، لا أقوى على افتراضها، بعد قرن وعقدين من موت أوسكار وايلد.

* عن موقع اندبندت عربية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *