“موتى يجرون السماء”: فلسفة الشعر في مواجهة الموت

في ديوان “موتى يجرون السماء” للشاعر موسى حوامدة

فلسفة الشعر في مواجهة الموت

*د. رضا عطية

 إذا كان المنزع الطبيعي والمسلك المنطقي للوجود الإنساني في علاقته بحالتي الحياة والموت، هو التشبث بالحياة والتوجس من الموت ومحاولة إرجائه، فهل من الممكن للشعر أن يتخذ موقفًا مضادًا لذلك المنزع الإنساني السائد الراغب في الحياة والمدافع الموت؟

 والقارئ لديوان “موتى يجرون السماء” للشاعر الأردني “موسى حوامدة” الفلسطيني، يجد أنَّ الشعر في هذا الديوان ينقلب على نوازع الطبيعة البشرية المحتفية بالحياة ويثور على كوامن الشعور الإنساني المتحاشي الموت، فيعمل على خلخلة مستوعبات الوعي الجمعي القائم على الاستمساك بالحياة لأطول أمد ممكن.

 فالذات في مسلك مباين لما تكون عليه الطبائع البشرية تبدو زاهدة في الحياة ومرحبة بالموت ومعجلة بمقدمه:

حين يأتي الموتُ

سأبصقُ في وجه الحياةِ؛

أقنع نفسي أنّ الدنيا بائسةٌ

والناسَ، كلَّ الناسِ، ديدانٌ صفراء.

فالذات تبدو على أهبة استعدادها لملاقاة الموت، والتخلي عن الحياة كارهة فيها، بل تنحو الرؤية المحللة الوجود البشري إلى القناعة بتحلل العنصر الإنساني الذي لا يربو عن كونه ديدان صفراء، فهي رؤية بعدية، ترى الناس في وجودهم البعدي، مما يعني إيمان تلك الرؤية بأن تلك الحالة للوجود الإنساني في تحلله الجسداني هي الحالة النهائية والحقيقة العالقة بالوجود الإنساني المتعفن، وكما يخرج “أرشيبالد مكليش” من قراءته لشعر “رامبو” بأن الشعر قد يبدو أحيانًا “وكأنه لا يعتبر نفسه منظمًا للحياة، بل طرفًا معاكسًا مضادًا لها، ولقد بدا، في بعض الأجيال، أن أعمق الحاجات الإنسانية لم تكن الحاجة إلى أن نجعل لحياتنا معنى، بل إلى أن نجعلها بلا معنى على الإطلاق”(1)، والواضح من الرؤية السابقة المحتفية بالموت والمتأبية على الحياة هو انطلاقها من قناعة ذاتية وانبعاثها من منظور شخصي تجاه القضايا العظمى والإشكاليات الكبرى كالحياة والموت، ومن البداية تبدو الذات في مواجهة العالم، وفي مقابل الناس، فتكون الأنا في مواجهة اللاأنا، وهو ما يتبدى من نفور الذات من حضور العنصر البشري لجنازتها وعدم ترحيبها بهم:

كلما كان عدد المشيعين أقلّ

كان ضميري أكثر بياضًا،

وكلما كانت الدموع أقلَّ

كانت أخطائي أجمل.

لينصرف المعزون

قبل تدشين البياض..

لينصرفوا؛

ليست لي حاجة إلى مديح ناقص،

ليست حسناتي مشجبًا للنفاق.

تمتلك الذات قناعة بأن ثمة علاقة عكسية بين عدد المشيعين (الحضور البشري المادي) وبين بياض الضمير (الراحة الروحية المفارقة للنفس)؛ فكأن حضور المشيعين والمعزين خافض لراحة الضمير ونقائه، فيمسي العنصر البشري مضادًا للنقاء، ويصبح العزاء معطلًا لتدشين البياض الذي هو أمارة النقاء وشارة له، فكأن الموت الجسداني للإنسان هو المسوغ لتدشين البياض وتفعيل النقاء؛ لذا تأمر الذات المشيعين بالانصراف حيث ترى أن ممارسة طقوس العزاء والثناء على حسنات الموتى ضربًا من النفاق، فتعلن الذات استغناءها عن الحضور البشري (ليست لي حاجة إلى مديح ناقص)، فترى فعلهم المدحي منتقصًا، فربما ينقصه الصدق وهو ما يستبين برؤية الثناء على حسنات الموتى نفاقًا؛ فبكاء المشيعين للموتى يقبح من أخطائهم، فالذات في وجودها الفردي المعاين لحظة الموت ترفض الحضور البشري في وداعها للعالم الدنيوي وانتقالها للعالم الآخر عالم البياض، وهو ما يستدعي في خلفية ذلك النص قصيدة “ضد من؟” للشاعر “أمل دنقل” في تأمله للبياض قبيل رحليه عن الحياة:

في غرف العمليات

كان نقاب الأطباء أبيض،

 لون المعاطف أبيض،

تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات،

الملاءات

لون الأسرة، أربطة الشاش والقطن

قرص المنوم، أنبوبة المصل،

كوب اللبن

كل هذا يشيع بقلبي الوهن

كل هذا البياض يذكرني بالكفن

فلماذا إذا متُّ..

يأتي المعزون متشحين..

بشارات لون الحداد؟

هل لأن السواد…

هو لون النجاة من الموت؟

غير أن تلون وعي الذات بالبياض لدى “موسى حوامدة” يختلف عن وعي الذات لدى “أمل دنقل” بالبياض، الذي يجيء عن “أمل دنقل” في مستواه الفيزيقي الماثل في وجود الأشياء المحايثة لوجود الذات، فالبياض لدى “أمل دنقل” الذي يخرج من رحم فاعلية انتقائية في تمثل الذات لأشياء عالمها المحيط، إنما يحضر في مدى زمني محدد وهو فترة المرض الأخير الداني من رحيل، كما أن مداه منتهٍ بلحظة الموت، ولهذا البياض فاعلية نفسية سلبية ومحبطة، حيث تبث في الذات الوهن وتذكرها بلون الكفن الدال على وقوع الموت. وحضور الأبيض لدى “أمل دنقل” يستدعي حضور مقابله (السواد) في تساؤل مندهش عن ذلك التباين الحاد بين لوني ما قبل الرحيل وما بعده. أما البياض عن “موسى حوامدة” فهو بياض خالص لا يستدعي حضور السواد، بل هو ضمنيًا يرفض حضوره المتمثل في المشيعين والمعزين الذين يعمل على تقليص حضورهم وتخفيض مشاركتهم بل وصرفهم. كما أن ذلك البياض له مدى زمني منفتح وممتد؛ إذ يبدأ بعد الموت، فهو لون الخلود بينما كان لدى “أمل دنقل” هو لون الأفول وغروب الحياة عن الجسد. أما البياض عند “حوامدة” فهو بياض يتعالى على التمظهر الفيزيقي ليحمل طاقة ميتافيزيقية مفارقة لأنه مرادف للنقاء وراحة الروح في وجودها الأخير وحضورها الأبدي الممتد.

 إن الذات غير المرحبة بمشيعيها عند الموت والمستغنية عن مراثيها، تتمثل عالمها فيما بعد الموت تمثلا خاصًا:

كلما كان عدد المشيعين أقلَّ

كانت حريتي كاملة.

لست في حاجة إلى الملقن والمقرئ؛

لست في حاجة إلى المراثي والنواح،

فلست ذاهبًا إلى حفلة خداع هناك؛

إنني

  عائدٌ

  مني

   للأزل.

فثمة إيمان يداخل الذات باستغنائها عن المراثي والنواح لرفضها الخداع الذي يمارسه هؤلاء البشر في هذا العالم، مما يدفع الذات إلى الإيمان ببلوغ اليقين بموتها الجسدي، فتلك الرؤية الشعرية التي تتسم بثراء حمولاتها الفلسفية وكثافة رؤاها المتمثلة لجوهر الوجود الإنساني وتمظهراته التحولية، فثمة حضور مزدوج للذات يتجلى عبر ازداوجية حضور ضمير المتكلم في تموضعاته الإسنادية؛ فـ(ياء المتكلم) في إسنادها لحرف التوكيد إنني وقيامه الإضماري بالفاعلية لاسم الفاعل (عائد) يتمايز عن حضورها المسند إلى حرف الجر (مني)؛ الذي جعل الذات فاعلا وموضعًا للانسلاخ الفعلي الذاتي، أما ردف التركيب الجر ضمائري (مني) وهو التركيب (للأزل) يفتح أمامنا مساقات الحضور الذاتي للأنا، الذي يخرج بها من تموضعها الأنوي بمعطياته الآنية وحدوده المكانية (المعطى الجسدي بحلول الروح فيه) لتعود إلى حالتها الأزلية، مما يحيلنا إلى الأطروحة الفلسفية القائلة بتناسخ الأرواح، وبأن الروح كانت تحيا في عالمها قبل حلولها في الجسد، وهو المذهب الذي بزغ مع الفيثاغورثيين “فبعد الموت تهبط النفس إلى الجحيم تتطهر بالعذاب، ثم تعود إلى الأرض تتقمص جسمًا بشريًّا أو حيوانيًّا أو نباتيًّا، ولا تزال مترددة بين الأرض والجحيم حتى يتم تطهيرها، ويروى أن فيثاغوراث كان يدعي أنه متجسد للمرة الخامسة وأنه يذكر حيواته السابقة”(2)، وهو ما تتكرر عند “أفلاطون” في نظرية المثل التي تتضمن القول بأن “النفس موجودة قبل اتصالها بالجسد”(3)، وتتساوق مع مقولة تناسخ النفس مقولة العود الأزلي تلك المقولة التي قال بها الشعراء والفلاسفة الرومانتيكيون؛ فتذهب مدام “دي ستايل” إلى “أن يختفي الفرد بداخلنا، وأن تعود الصفات الداخلية التي نمتلكها إلى الكل العظيم للخليقة الأزلية، هذا الضرب من الخلود يشبه الموت على نحو مخيف، لأن الموت العضوي لا يعدو أن يكون قيام الطبيعة باسترداد الهبات التي منحتها للفرد”(4)

 وإزاء الإيمان بعدم انتهاء المصير الإنساني بفعل الموت الجسدي للإنسان، وما يتساوق معه من الاعتقاد بتعددية الحيوات التي تحياها النفس، يكون الإيمان بمساواة حدث الموت لحدث الميلاد:

حين يأتي الموت

سأقطع المسافة بين الحياة والموتِ

برجفة شبقية عابرة،

تمامًا، كما حدثت تلك الشهقة المدوية،

في المرة الأولى،

على ردفي الأرض العذراء.

فاستقبال الذات لمقدم الموت يماثل استقبالها للميلاد، بتلك الشهقة المدوية مع معاينة الذات لحياتها على الأرض التي تصفها بالعذراء في نزوع تطهري يرى الموجودات والطبيعة في حالة أولى وفي هيئة من البكارة الخالصة، فثمة محاولات ارتداد تقوم الذات بها لاستعادة تلك الحالة الوجودية الأولى:

أنجذب للحياة قبل آدم،

للسراب البالغ العطش،

للمجرات البعيدة،

لحالة الشطح قبل كتابتها،

للسفينة الجامحة،

للشراع الممزق،

للحفل المجنون،

للسماوات البعيدة.

 للندم الذي يخلفه الموتى.

إن انجذاب النفس لتلك الحيوات السحيقة التي تسبق آماد الحياة الأولى للبشرية يعيد التأكيد على ضيقها بنمط الحياة البشري، ثم ما تلبث الصياغة أن تعلن انجذابها الموازي لحالات الشطح الإبداعي السابق لبدايات القصيدة والشروع في كتابتها، فكأن الشعر والحنين لحالاته الشاطحة والمهاد الإبداعي هو عملية خلق كوني تستعيد الحالة الأولى للكون، ثم تأخذ الصياغة التصويرية المعتمدة على عمليات التداعي المونتاجي المتلاحق في ضخ الصور المتالية في مجرى القصيد؛ فحالة الشطح السابقة على كتابة القصيدة تتداخل في مزج مونتاجي مع السفينة الجامحة، فكأن المهاد الإبداعي سفينة جامحة، غير أن شراعها ممزق مما يستدعي متضايف الشراع وهو الريح، فجموح سفينة الإبداع يصادم الريح، حتى تتساوق مع الصور السابقة صورة الحفل المجنون وهو ما يتساوق مع الجموح والجنوح الإبداعي الذي يصل في ذروة توقده لدرجة الجنون حتى يبلغ (السماوات البعيدة) بمفارقاتها الجمالية.

ويتجاوز الموت فكرة الترحيب به وعدم الاهتياب منه حتى يصبح منفذًا للخلاص وحياة جديدة:

تكلم بلسانك يا سهل الوشل؛

أيها المحكوم بسخرية القدرْ،

قُل: موتًا أموت،

حياة لا أحيا،

سلسبيلا أهطل من يد الغيمة

كفنًا أخضر ألبس ساعة الخلاص.

يأتي استدعاء الذات للسهل ومطالبتها له بالتكلم في ظل حالة من الغياب اللافت للعنصر البشري على امتداد الديوان، فالإنسان في ذلك الديوان إما غائب أو مغيب ومقصى، وتبزع المفارقة في إعلان السهل الذي يمثل أرض الخصوبة والحياة الموت، فحركة الفعلية تنحو تجاه الموت ورفض الحياة ثم يبرز الانحراف المساري في خط سير التتابع الدلالي بارتباط الموت بهطول الماء وتدفقه واكتساء السهل باللون الأخضر الذي يتكفن به السهل في حال مواته، مما يشكل انزياحًا مربكًا لطرفي التركيب الثنائي (كفنًا أخضر)؛ فالكفن يصطدم دلاليًا باللون الأخضر المغاير لما يفترض أن يكون عليه من بياض، والأخضر يُصدم بانغراس الكفن فيه، فيمسي الكفن باخضراره شارة للخصوبة والنماء وهو ما يتواشج من هطول السلسبيل من الغيمة مما يمثل خلاصًا، فكأن الموت هو لحظة الخلاص الوجودي ومنطلق الخصوبة والنماء.

 ولعل ترحيب الذات بالموت وكرهها في الحياة يأتي ردًا لانهزاماتها ونتيجة لخسائرها على مستوى شخصي وآخر قومي:

ما بعت المسجد الأمويَّ

ولا زورتُ تاريخ بترا

أنقى من البياض كنتُ

وكانت صروحي عامرة

 قلبي اشتغال الكلمات

لكن المغول أفسدوا الناس حولي

وما عاد ينفعني اليقين

ولا سورة التحرير،

أطوي البلاد طيًّا

وأعود من نقطة خاسرة.

يبدو أن الذات المنكسرة التي تصبغ انكساراتها وتلوِّن إخفاقاتها بألوان من الانخذلات القومية للعرب والمسلمين في توليف استعاري يُلبس الواقع المحايث أقنعة تاريخية في تمازج يسترجع تاريخًا من الهزائم والانسحابات القومية التي تشكو من الغزو الخارجي (المغول) المفسد للناس المحيطين بالذات الشاعرة، مما بدد القناعات وأفقد الوعي يقينه، وثبط العزائم وأبطل الإرادة التي كانت تسعى لتحرير البلاد من ذلك الغزو، جراء فشل مساعي الذات في تغيير العالم الفاسد من حولها، والملاحظ استخدام الذات الشاعرة لأفعال الكينونة الماضية تعبيرًا عما كانت عليه من نقاء ومن طاقة فعالة، وقد تبدد هذا، في حين تستخدم المضارع التجددي تعبيرًا عن مساعيها المنخذلة في سبيل إصلاح العالم واستدراك الخسائر القومية دون جدوى، في إشارة إلى تبديل تلك الانكسارات والهزائم لطبائع الذات ونسخ تكوينها الشخصي.

 تنبني استراتيجية الرؤية على قبول الموت ورفضه من زواية أخرى؛ فالنفس تقبل الموت جسديًّا وترحب بالرحيل عن العالم الأرضي، في حين أنها تعلن أن الموت الجسدي ما هو إلا انتقال لطور جديد لحياة جديدة للنفس، كما تتبنى الرؤية قناعات في حضور الحياة في أنماط أخرى بخلاف نمط الحياة البيولوجي:

ليست ميتة هذه القصيدة؛

إنها ترفو جورب السماء

بخيط من نور،

تحبك وجه الشرق بعباءةٍ فضية،

تمسح جبين الغروب

بيدٍ من ذهب.

فالرؤية ترى الحياة في الشعر، فالشعر لا يعرف الموت والإبداع الجمالي يكتسب حياة تقهر الموت، بل إن الفاعلية الجمالية هي التي تمنح الوجود حياته وترتق فجواته وتسدد نواقصه، فالغالب على صور القصيدة سريالتها العذبة التي تتوازي مع سريالية الرؤية الشعرية الموجهة حركة الرؤى والمسيرة الأفكار الشعرية في القصيد، فالحياة تكون في الشعر والإبداع الذي يدفع الموت:

ليست ميتة هذه القصيدة.

إنه الزمن المتورم في معطف الدركي؛

إنه الحنين المؤجل إلى جنة لم تُوصد أبوابها؛

إنه النوم المفرط من تناول عقاقير النسيان،

الوهم جميل لعذراء الخرابْ،

الوهم طائر ملعون

يدفع الحزن إلى هاوية الجبل

فالشعر هو مجلى الحضور الزمني؛ هو الأمل والحنين المؤجل الذي يمد حبال الأمل للفوز بجنة مخلدة، هو الوهم الجميل أي الحلم المجاوز حدود المنطق والفائق التوقع، والقاهر للحزن. واللافت في التصوير الشعري للقصيدة في المقطعين السابقين هو التنوع في أطراف تلك الصور، فمركز الصورة وبؤرتها المركزية (القصيدة) التي تمثل معطى مجردًا تتلبس عديدًا من صور المشبه به المترواحة بين التجسيد المشخص (القصيدة ترفو جوارب السماء) والتجريد (القصيدة هي الزمن والحنين والوهم)، مما يجعل للحضور الإبداعي مزدوج الأبعاد بين التجسد والتجريد.

 ولئن كان ذلك الديوان حافلًا بتشكيلات متنوعة من الثنائيات التي تُفرز عبر مسام القصيد؛ أبرزها تلك الثنائية الضدية للموت في مقابل الحياة السرمدية والخلاص، في حين تتساوق معها ثنائية أخرى تآلفية وهي الشعر والإبداع المقترن بالخلود الزمني والحياة المتددة:

قليلة هي الكلمات التي تناطح الأشجار

المئذنة الوحيدة تشق بطن الفراغْ،

عين صقر تقطع نصل الصيادْ،

شبح الموت يتأرجح مثل نهار ميتْ.

فثمة كلمات رغم اتسامها بالندرة هي التي تناطح الأشجار، فتلك الكلمات التي تناطح الأشجار علوًا لتشق الفراغ هي كلمات تمد الحياة، فهي تماثل الشجر الذي هو رمز الحياة المديدة، وهي كعين الصقر في حدة الرؤية مما يجعلها تهزم الموت وتقضي عليه، فالكلمة هي سلاح الذات لمغالبة الموت، وهي كالمئذنة ارتفاعًا وجلالًا، وتعمل الصياغة التشبيهية على إبدال خواص الأطراف المشكلة للصورة، فعين الصقر تستولي على سمة القطع من نصل الصياد، فالعين الصقر/ الكلمات استلبت النصل فاعليته المتمثلة في القطع لتستأثر بها، فالرؤية تمنح للكلمات فاعليات نافذة مما يجعل لتلك الكلمات القدرة على إماتة الموت ودحره.

 فالرؤية التي ترى الكلمات مضاهية للأشجار الباسقة والمطاولة سماوات الحياة، تحدد كم ذلك النوع من الكلمات بالقلة، فهي كلمات استثنائية ثم ما تلبث أن تحدد نوع تلك الكلمات الاستثنائية:

كثيرة أشجار الكلام الجارح،

كثيرة حكم العجوز الطيب،

والشاعرُ إذ يعبر حاجز الخطابةِ

يرى روحه مغمورة بأشجار كثيرة،

وحطابين مذهولين

عن سماع روايات التقهقر.

فالرؤية تقيد شجر الكلام الطيب بتجاوز الشاعر لحاجز الخطابة الممثل للبلاغة القديمة، مما يغمر روح الشاعر المبدعة بأشجار الحكمة الطيبة ويجعل شعره طاقة محفزة وقوة مثبتة تمنع المنتفعين من هذا الإبداع الشعري (الحطابين) عن التقهقر والهزيمة.

 ويأتي تشبيه الكلمات المبدعة والروح الشاعرة بالشجر انطلاقًا من رمزيته الميثولوجية وكونه الكائن الحي المتطاول في أمده الوجودي ولتجذره الراسخ في الأرض وثباته وتطاوله المتطلع نحو السماء؛ فالشجرة هي “القطب الكوني أو قطب العالم الواصل بين ثلاثة عوالم، العالم تحت الأرض بجذورها والسماء (بفروعها) عبر الأرض. وبهذا المعنى أصبحت الشجرة في أساطير عالمية نزعًا من الطريق المفتوح بين الأرض والسماء”(5)، فالذات الشاعرة تستدعي رمزية الشجر دلالة على شموخ النفس وخلودها وكذا تجددها الوجودي حيث “إن الدلالات الهامة لرمزية الشجرة في علم الأساطير وفي علم الأديان تبدو متفقة مع فكرة التجديد الدوري اللامتناهي، ومع فكرة الانبعاث وينبوع الحياة والشباب، وفكرة الخلود والواقع المطلق”(6)، فالذات تستحضر لنفسها نماذج حضور وجودي تتسم بمطاولة السماء مثل الشجر وكذلك الجبل:

أرغب كما يرغب الجبلُ،

بزحزحة الشمس قليلًا،

ومبادلة السماء

بوظيفة التسكع مع صديقاته النجمات.

إن حركة الذات الوجودية رغم اتخاذها نماذج تتجذر في الأرض كالأشجار والجبل، غير أنها تنحو ضد الجاذبية الأرضية، فحركة تلك الكائنات الأرضية التي تتلبس الذات بها تتجه نحو السماء، فثمة نزوع أرضي لإحداث فاعلية خارقة في السماء، مما يعد خروجًا عن الثوابت القارة بثبات الكائنات الأرضية وانفعالها بحركة السماء، فثمة حركة من الجدل الصاعد والفعلية الأرضية الناجزة نحو السماء، وهو ما تجلى في حركة الموتى شطر السماء في تلك القصيدة التي حمل الديوان عنوانها “موتى يجرون قبورهم نحو السماء”:

موتى يجرون قبورهم نحو السماء.

أرملة تقرص خد النهار.

كمثرى جافة.

حديد طري.

أشجار سرو تهبط على سطح الخوفِ،

تنز دمًا عند الفجر،

تبكي جنودها الأسرى.

إن مقولات النص الشعري تنقلب على الثوابت المعرفية؛ فالموتى يتحركون وينطلقون بقبورهم صوب السماء، فيما يباين المستقرات التي تؤمن بانعدام فاعلية الموتى، وكذلك في حركة ضدية عكس خط سير الحركية التقليدية انطلاقًا من الأرض توجهًا نحو السماء، والبارز في تشكيل الصياغة الشعرية للصور في الأسطر الشعرية الأربعة الأولى هو تكوينها من شذرات تصورية؛ فكل سطر شعري يحوي صورة مستقلة بذاتها تمثل بنية مكتملة ووحدة معنوية قائمة بذاتها، غير أن تشكل الصورة الكلية يتأسس من تضام تلك الشذرات التصويرية المشتتة عبر نقلات مونتاجية سريعة، فالموتى الذين يجرون قبورهم نحو السماء يقابلهم قيام الأرملة بقرص خد النهر أي رد فعل ذويهم على فقدهم، مما يؤدي إلى جفاف الكمثرى أي جفاف الخصوبة بافتقاد الأرض لوجود هؤلاء الراحلين عنها، في مقابل لين الحديد، فكأن فعل هؤلاء الموتى يفل الحديد ويخفف المشقة، حتى تهبط أشجار السرو على سطح الخوف، فتبكي جنودها الأسرى، فالبكاء هو فعل الحزن الذي يتناسب مع حدث الموت، غير أن بكاء الجنود الذين يمثلون حركة النضال ضد الاحتلال يجعل من جر الموتى لقبورهم نحو السماء هو المعادل التصويري لقيام الأبطال بالتضحية الغالية وبذل المساعي لتحرير وطنهم.

 ولا تكتفي الرؤية الشعرية بإقامة الاشتباك بين الأرض والسماء بل تعمل على نسف الحدود بينهما وإزالة الفواصل التراتبية المباعدة بينهما:

مستوى الأرض

أعلى قليلًا من حذاء الغيم

هنا تتساوى الرؤوس والجذور

الكائنات سعيدة بالانقلاب الطبقي

قشرة الأرض تحك وجه القمر

كفنُ السماء جريح.

 تعتمد الصورة التي ترسمها الصياغة الشعرية بريشة سريالية تقوم على مجافاة الثوابت المنطقية المنظمة لعلائق الكائنات أبعادها، فالرؤية الشعرية التي تتلبسها روح رومانتكية تتبنى منظورًا سرياليًّا في تعاطيها سواء مع القضايا الكبرى التي يسعى الشعر إلى إجابة أسئلتها أو فيما يتصل بالصياغة الفنية وتشكيل الصور التي تكون فوواقعية؛ فمستوى الأرض أعلى قليلًا من حذاء الغيم وقشرة الأرض تحك وجه القمر، فاللغة التصويرية تعمل على خلخلة مستقرات الإدراك الحسي وتشويش معطياته، وتلك هي غاية المبدأ الفوواقع للسرياليين؛ “ففي هالة الفوواقع، لا مكان للأفكار الواضحة والمعطيات المعروفة. لكن تغاير الصور يصدم اعتيادنا على تصنيفها في سبيل الانتفاع منها في كلام مباشر”(7)، فالسريالية تمثل تمردًا على الواقع بأبعاده الجامدة.

 والمتابع لبنية الضمائر عبر الديوان يجد حضورًا مفرطًا لضمير المتكلم الفردي (الأنا) بما يشي بذاتية الرؤية ومركزية المنظور واكتفاء الذات بنفسها واستغنائها عن العالم وشخوصه الذين ماعادت تثق بهم، فالذات تعتمد الانفراد والعزلة لا عن العالم وإنما عما دونها من الذوات في ذلك العالم:

أطلعُ مني

إلى قمتي

أجوس دياري البكر

ألاقي روحي هناك

وحدها في برية التيه؛

يا للمحروسة بالهزيمة

ترفقي بثرى الجهل

تعربشي بغصن الصهيل.

 يتبدى من المقطع السابق كثافة حضور ضمير المتكلم في الأسطر الأربعة الأولى؛ إذ يجيء سبع مرات قي ثلاثة أسطر، متنوعًا في تمركزه الإسنادي بين الفاعلية المضمرة (أنا) التي تكون فاعلًا للأفعال (أطلع – أجوس – ألاقي)، والإضافة العالقة (ياء المتكلم في دياري – روحي – مني – قمتي) مما يعكس ثنائية الحضور الذاتي (أطلع مني)؛ فالذات هي المنسلِخ والمنسلَخ عنه، هي التارك والمتروك، ثم يقوم الخطاب الشعري بعملية التفات ضمائري في تناوله للروح (ألاقي روحي هناك/ وحدها في برية التيه)؛ فينتقل من تناول الروح بضمير الغياب إلى ضمير المخاطب الحاضر في أفعال الأمر، فثمة انتقال من مرحلة البحث عن الروح واستحضارها إلى مواجهتها وتوجيهها.

إن الذات الناطقة عبر الديوان تشعر بحضور ثنائي الطبقة لها، فثمة إحساس لديها بالانشطار الذاتي والتكاثر الوجودي:

كما أن البحر يبكي قتلاه بدموع لا تراها الشواطئ؛

كما أن الصحراء تُخفي خوفها من الكثبان؛

كما ليلي يطرق باب الفجرِ

يمشي، خفيةً، ظلي على الأرض،

خفيةً، يزور مدينة ساحلية،

يقتفي أثر وعولٍ جافلة،

يرى نفسه شهابًا في مجرة نائية،

يبني قصرًا عامرًا من كلمات.

يعيد ترتيب النوتات الموسيقية

يصاحب وعي الذات تمثل لوجود ظل أو قرين لها، فهذا القرين الظلي هو الذات الموازية أو الشبح الموازي للذات الذي يمارس فاعليته خفية، وهو ما يجلي ممارسات النفس الدفاعية في تفاعلها الوجودي “فقد تكون الازدواجية وتعدد الذات والأقنعة وسيلة لحماية هذه الذات من مواجهة ما تراه من تكسرات وتهشيمات في مرايا ذاتها”(8)، فهذا القرين يمثل الذات/ المثال الذي يُنشد بلوغه؛ هو فضاء الحلم بما تتلبسه من أقنعة تسعى من خلالها تحقيق أحلامها الكبرى، فالقرين الظلي يرى نفسه شهابًا في مجرة نائية فهو كتلة تنويرية، وهذه الكتلة التنويرية تتجلى في الكلمات المبدعة التي تعمر قصورًا، فهي التي تؤسس بنايات الوجود وتعيد ترتيب نوتاته الموسيقية في إشارة إلى إعادة هيكلة العالم وضبط إيقاعه جماليًّا، وهى الفعل الخلاق للقرين يكفل للذات شعورًا بالخلود؛ “فالقرين إذن رمز أو علامة، أو مرآة تتجسد فيها الذات التي تسعى نحو الخلود، وتقاوم كل ما يتهددها بالموت أو الفناء”(9)، فالذات تخاتل الموت وتدافع الفناء باستحضارها ذلك القرين الذي ينفذ لها رغباتها ويحقق لها طموحاتها المبتغاة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:

  • أرشيبالد مكليش، الشعر والتجربة، ترجمة: سلمى الخضراء الجيوسي، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، سلسلة آفاق الترجمة، ص 170.

  • يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مكتبة النهضة المصرية، ص24.

  • السابق، ص88.

  • جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، ترجمة: كامل يوسف حسين، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ص 170.

  • علياء الداية، الرموز الأسطورية في مسرح وليد إخلاصي، دار الحوار، سوريا، ص90.

  • إيلياد مرسيا، الأساطير والأحلام والأسرار، ص 20.

  • إيفون دوبليسيس، السوريالية، ترجمة: هنري زغيب، منشورات عويدات، بيروت. باريس، ص68.

  • شاكر عبد الحميد، الغرابة: المفهوم وتجلياته في الأدب، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ص163.

  • السابق، ص188.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *