SONY DSC

شاحنة الأمنيات – قصة قصيرة

* علياء الداية

“حين أبصرت كوكباً أزرق بعيداً جداً، علمت أنه المكان الذي أريد الهبوط فيه، ومع اقترابي من غلافه الجوي، شعرت كأن الذكريات تعود إليّ، وأني أتحول إلى كائن جديد، هناك أحداث تختفي، وأخرى تحل محلها من عصور قديمة. كنت أطلق على الكون الواسع الذي أعيش فيه (العالم الآخر)، وأصحابي يستغربون هذا الوصف كثيراً، عرفت الآن أنه يعود إلى ذكرياتي حين كنت أعيش على الأرض، كنا نطلق على عالم الرحيل المجهول (العالم الآخر). وحين هبطت على العشب اليابس، وجدت إلى جواري مظلة، نظرت إلى نفسي، كنت ألبس بدلة فضاء مع قناع للتنفس، ولم أفلح في تذكر شكلي السابق حين كنت قبل قليل فوق.. في العالم الآخر.

الشمس تتهيأ للمغيب، وفراشة زرقاء وقفت على ذراعي، أمسكت الخوذة بيدي الأخرى ونزعتها كي أتنفس، ولكن.. ما هذا! الهواء خانق لا يصلح للتنفس، أعدت الخوذة بسرعة، وأنا أنظر بدهشة إلى الفراشة، والنباتات القليلة الشاحبة والأشجار البائسة في المكان، يبدو أنها تطورت بالتدريج لتصمد.

كانت ذاكرتي أشبه بقرص حاسوب يتم تحميل البيانات عليه من الخارج، مشاهد مبعثرة، وأفكار غير مترابطة، لا بد أني عشت هنا يوماً ما، ولكن كيف غادرت فجأة؟ هل هو برنامج فضاء التحقت به، أم كارثة تسببت في الإلقاء بي بعيداً؟ رأسي الثقيل وذاكرتي المشوشة وجدا بعض الصفاء مع اقتراب الليل. السماء كانت صافية أيضاً، الهلال يتأهب للمغيب، وبعد ساعات، ها هي ذي النجوم، تذكرتها كمن يفتح خريطة مألوفة، مازالت في مكانها، الدب الأكبر، الدب الأصغر، حسناً نحن في منتصف ليل فصل الربيع.

جهاز التنفس يعمل بكفاءة عالية، يختزن طاقة الشمس، وينقّي الهواء ليعطيني الأكسجين. وأنا أمشي باتجاه الأكواخ والبيوت التي كانت تتزايد مع مسيري إلى أن وقفت على مشارف مدينة، كنت أضيء مصباحي اليدوي، أمرره هنا وهناك بحثاً عن أشخاص يشبهونني، عن حياة ما، ولكن لا شيء سوى أشباح الأبنية العالية، والأبواب المخلوعة، والنوافذ المكسورة، سيارات تصطف على الجوانب بإطارات فارغة مهترئة ودهان صدئ. هل يعقل أن الناس كلهم اختفوا؟ أو ذهبوا للعيش في جزر نائية؟ ربما كان عليّ الهبوط على سطح الماء بدلاً من هنا.

كانت الخوذة تسمح لي بسماع الأصوات، شيء ما يركض قريباً مني، فوجّهت المصباح، تبدو أشبه بثعالب تتراكض إلى خارج المكان، أسرعت أعدو وراءها، فتناهى إلى سمعي موسيقا من بعيد، أخذت أقترب شيئاً فشيئاً، المكان أشبه بساحة مغلقة، تتوسطها شاحنة مطلية بألوان براقة ولوحات طفولية، وفوقها بوق دوّار يبث الموسيقا. يا لها من عربة غريبة، كأنها هبطت مثلي من الفضاء! حين اقتربت أكثر وجدت لافتة مكتوباً عليها (شاحنة الأمنيات) مع سهم للدخول من الباب الخلفي.

في الداخل كان المكان واسعاً، في منتصفه بندول يهتز يميناً ويساراً ذهاباً وإياباً في حركة أبدية، ومع تقدمي في المكان وجدت مقعداً فجلست، وسرعان ما أضاءت أمامي شاشة على الجدار الداخلي للشاحنة، وأخذت تعرض فيلماً بالصوت والصورة والكتابة، أدهشني أنني أفهم اللغة المكتوبة، يبدو أنني بالفعل كنت أنتمي إلى هنا. (شاحنة الأمنيات، توجد نسخ من هذه الشاحنة في أنحاء الأرض، وهي تختزن أمنيات البشر خلال القرون القليلة الماضية: زوال الحروب، انتهاء التلوث، الحفاظ على الطبيعة، والطعام، والطيران، والملابس، والأكسجين، والبدلات الواقية). تترافق هذه العبارات مع مقاطع مصورة يظهر فيها على التتابع: حقول وسهول فيها خراف، مدينة مزدحمة، باقات ورود، أشخاص يرقصون، ثم.. قطط هاربة تصرخ، أشخاص بكمامات هائمون على وجوههم، حرائق، عمود كهرباء تضيء وتنطفئ، طفل تائه أمام أرجوحة.

بدا واضحاً أن شيئاً خاطئاً حصل، كوارث نسفت كل تلك الأمنيات، فبقيت الشاحنة فقط، وأنا أشعر بالاختناق، تراجعت عن مقعدي، وتركت البندول الأبدي، وأضواء الشاحنة ومكبر صوتها الموسيقي الحزين. ابتعدت لمسافة كافية وأنا أنتظر النهار، ترى هل كنت صاحبة إحدى هذه الأمنيات حين عشت هنا، ربما قبل قرون من الزمن؟ وسط شرودي شيء ما يلوح متوهجاً في الظلام، يقترب ويبتعد بحسب تركيزي عليه، إنها قافلة الأرواح. بهدوء ألتفت إلى الخلف، إلى بدلة فضاء وخوذة وشاحنة أمنيات، وأعود بخفة إلى العالم الآخر.”

* عن الشارقة الثقافية

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *